الجزائر

القصور، يتهددها النسيان والإهمال



كلما حل الصيف تشهد بعض الولايات بالجنوب احتجاجات بسبب الانقطاعات المتكررة للكهرباء، فالسكان في هذه المنطقة الشاسعة من البلاد أصبحوا مثل أمثالهم من الشمال يعتمدون بصفة كاملة على الكهرباء للتبريد، مع ذلك، فإن النمط العمراني للصحراء منذ قرون مضت كانت له ميزات مكنت سكانه من العيش في جو منعش تحت درجات حرارة جد عالية.ويطرح التراجع في هذا النمط قلقا، لاسيما من المختصين في العمران والآثار الذين يلحون على ضرورة احترام خصائص كل منطقة.‏
تقول الدكتورة عائشة حنفي المتخصصة في الآثار الإسلامية؛ إن القصور في الجنوب ليس لها نفس المعنى المعروفة به في الشمال، فإذا كان الأخير يعني «البلاط» في عهد الخلافة الإسلامية، فإن القصر بالصحراء من الناحية الاجتماعية هوعبارة عن مدينة بكاملها، نجد به تكتلات سكنية ومرافق عامة ؛ كالمسجد، الساحة العامة، الأسواق وغيرها من المرافق التي يحتاجها المواطن،»إنه إذا قرية صحراوية».‏
وبحسب المتحدثة التي ألقت محاضرة مؤخرا بقصر رياس البحر حول «طرق ترميم القصور الصحراوية،قصر «تاويالا» بالأغواط كعينة، فإن هذه القصور عادة ماتبنى في مناطق مرتفعة؛ أي هضبات،وهو مايدعو إلى ترجيح بأن أصل كلمة «تاويالا» التي سمي بها القصر السابق الذكر مشتقة من الكلمة البربرية تاوريرت، أي المرتفع وليس عبارة «تأوي إليها»، كما جاء في بعض المصادر.‏
كما تشير المحاضرة إلى صعوبة التحديد الدقيق لتاريخ القصور في الجزائر عموما وقصر تاويالا خصوصا، إذ ان المصادر شحيحة في هذا المجال رغم أنه من القصور القليلة التي مازالت آهلة بالسكان.ويقال إن تاريخ بنائه يعود إلى القرن العاشر الميلادي، وإنه تم على يد الولي الصالح عبد القادر بوسماحة الذي طلب من سكان المنطقة بناءه في ذلك الفضاء بالذات، لأنه يمتاز بالجو المنعش لكونه قريبا من منابع الماء، من الواحات ومن الأراضي الزراعية.وتذكر الروايات أن هذا الولي بنى بيتا له أمام البئر التي حفرها،وهكذا بنيت باقي البيوت والمرافق بعده.‏
وقد عرفت المنطقة نزوح عدد من الأولياء الصالحين إليها، لاسيما في القرن ال‎12‎م.وسكنت القصر قبيلتان «ولاد تركي» التي شغلت الجانب الغربي ، و«ولاد ساسي» التي توطنت في الجانب الشرقي للقصر الذي كان يقع في موقع استراتيجي في طريق القوافل، وكان سكانه ومنهم الاباضيون يقايضون الملح المتوفر في المنطقة بالذهب.وبالنسبة لهندسة القصر، فهي وإن لم تكن تختلف عن باقي قصور الجنوب، فإن ميزتها أنها كانت تضم بابين -أضاف له الفرنسيون أثناء الاحتلال بابا ثالثة- ومسجدين - وهومايفسر وجود قبيلتين- كما يرى البعض أن وجود مسجد ثان عند إحدى مداخل القصر يهدف إلى تمكين الزوار والعابرين من الصلاة دون ولوج القصر، الأخير يضم كذلك أبراج مراقبة، لأنه كان له دور عسكري يفسر بناء ه على هضبة،كما أن الأسوار الكبيرة الرئيسية التي تحيط به تدعم هذا الدور،كما تحيط به أسوار أخرى-ثانوية- أقل علوا، هدفها حماية القصر من فيضانات الوادي.وبالقصر تخزن المواد الغذائية والمحاصيل الزراعية في وقت السلم كما الحرب، ولذا نجد أن البيوت مبنية في طابقين،يخصص السفلي للتخزين.وبالنسبة للساحة العامة التي تتوسط القصر، فإن لها وظيفتين أساسيتين؛ الأولى تجارية إذا تعد فضاء للبيع والشراء، والثانية اجتماعية، حيث يتم النظر وحل مشاكل سكان القصر فيها.‏
وحتى مواد بناء القصر لم يتم اختيارها عبثا، كما يشرح الأستاذ أرزقي بوخنوف المختص في الآثار ومواد البناء، إذ يعتبر أن دراسة مواد بناء القصور وتقنياتها يدل على إدراك سكان المنطقة لأهمية إيجاد توازن مع المحيط والمناخ.‏
وبالنسبة لقصر «تاويالا»، فإن الأستاذ يشير إلى أنه استعمل في بنائه عدة مواد؛ منها حجارة المنطقة وخليط من التربة والجير الذي استخدم كملاط لإلصاق الأحجار وتلبيسها، إضافة إلى جذوع وأغصان الصفصاف والعرعار.وتوجد تقنيتان في بناء القصر هما: السنبلة التي تمتص ثقل الجدار وتحد من التشققات والمداميك.ويتميز القصر بمدخل لراحة القادمين إليه، كما به نظام لتصريف المياه وأبوابه ضخمة يبلغ طول مفاتيحها حوالي ‎12‎‏ سم.‏
اليوم يوجد القصر في حالة متقدمة من التدهور، لذا فإن أساتذة معهد الآثار رفقة طلابهم أقاموا هناك فترة من الزمن، وعملوا على تنظيفه مع ترميم وصيانة بعض أجزائه،وتقول الأستاذة حنفي إنه رغم عدم تلقيهم أي مساعدة من السلطات المحلية، فإنهم لاقوا ترحيبا منقطع النظير من السكان الذين لم يترددوا في تقديم يد العون والخبرة، لاسيما الكبار في السن الذين يعرفون طرق البناء بالمواد المحلية، وهوماجعل النتيجة تبهج الجميع، وهوما أظهرته الصور المعروضة في المحاضرة.‏
وتمت الإشارة إلى أهمية إشراك أساتذة الآثار في عمليات الترميم الجارية، والخروج من «دائرة النزاع بين المختصين في الآثار والمهندسين المعماريين»، وكذا تفضيل المواد والكفاءات المحلية، وهومايساهم في تقليل تكاليف الترميم.‏
هذا الأخير عكس ما يعتقد البعض، ليس مجرد فعل يهدف إلى حماية التراث، بل هوعملية اجتماعية، ثقافية واقتصادية،لأنها من شأنها أن تعيد الحياة إلى هذه القصور لتصبح، مجددا، مكانا للسكن ولتثمين الصناعات التقليدية، وبالتالي توفير الشغل، ومن ثمّ تطوير السياحة في المنطقة الذي بدوره يؤدي إلى التنمية الاقتصادية. تبقى مسألة أخرى تطرح نفسها بشدة في المناطق الصحراوية، وهي طريقة البناء الحالية، حيث يتساءل الأستاذان؛ حنفي وبوخناف عن أسباب تفضيل أهالي الجنوب لاستخدام بعض المواد غير الملائمة تماما للمناخ المحلي، تقول الدكتورة عائشة حنفي: «لابد من توعية الناس... لا أدري أين المشكل، هل هو في السلطات التي تشيد بناءات بمواد غير مناسبة تماما، أم في الشباب الذين يريدون التغيير والتجديد دون أن يدركوا الطريقة الأفضل لذلك. يمكن أن نجدد، لكن يجب استعمال تقنيات ومواد تناسب مناخ المنطقة... لايعقل أن نبني بالاسمنت المسلح في تمنراست أو تندوف، ثم نبحث عن المكيفات والكهرباء التي تكلف فاتورة كبيرة في الصيف، بينما يمكن أن نبني بمواد محلية لها خصائصها المواتية... ونبني بيتا جميلا فيه كل مواصفات البيت الحديث ومرافق الرفاهية اللازمة، مع ضمان جو منعش...كيف نتخلى اليوم عن الطوب في وقت تلجأ فيه شركات في الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامه في البناء، بعد أن أدركت خصائصه المميزة»؟سؤال يحتاج إلى إجابة، لاسيما وأن القصور حاليا لم تعد سوى جزء من الماضي في أغلب مناطقنا، بعد أن ساهم التوسع العمراني ونزوح العائلات من الصحراء إلى المدينة بسبب غياب التنمية بهذه المناطق في التخلي عن هذا النموذج العمراني، تقول محدثتنا: «أتمنى أن يأخذوا هذه القصور كنموذج، لأننا نطالب بإنجاز عمارات تحمل هوية كل منطقة... وقد قالها رئيس الجمهورية عندما ألح على ضرورة العودة لطريقة بنائنا الخاصة؛ كاستخدام الأقواس والساحات العامة... الخ. علينا أن نحافظ على طابعنا التقليدي وهوية بنياننا».‏




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)