الجزائر

الفنان التشكيلي عمر راسم شمعة في مهب الريح



الفنان التشكيلي عمر راسم                                    شمعة في مهب الريح
الجزائر تحتفل بعيد استرداد سيادتها ال 50 وفي هذا العيد برمجت البرامج للاحتفاء بالمنجزت وللوقوف عند محطات لا يمكن تجاوزها، ألا وهي محطات الجهاد في مقارعة العدو بالفكر وبالتضحيات وكثيرا من الشخصيات الوطنية التي نظمت حولها الملتقيات وتم ابراز دورها الى غاية التشبع، بينما هناك شخصيات وطنية كبيرة ما تزال في دائرة الظل رغم أصالتها وعظمة نضالاتها مثل الفنان والصحفي الجزائري الكبير عمر راسم الذي ما زلنا نجهل عنه الكثير رغم جهاده المتواصل بالفكر والقلم والريشة، استوقفني هذا الفنان الكبير من خلال لوحاته الأصلية خلال زيارة استطلاعية للمتحف الوطني للآثار القديمة فكان هذا اللقاء...
حياة عمر راسم رحمه الله لم تكن حياة سهلة، بل كانت مسيرة شاقة تكبد فيها الكثير من المتاعب، حتى قال في رسالة الى أخيه أرسلها سنة 1919: “ إني الآن أعيش الفترة الأكثر صعوبة في حياتي، إن اللحظة التي استطيع فيها التنفس لم تحن بعد...”.
يحتفظ المتحف الوطني للآثار القديمة ببعض أعمال هذا الفنان الجزائري الكبير عمر راسم أستاذ المنمنمات في الجزائر، ومن يزور المتحف تستوقفه في جناح الفنانين أعمال عمر راسم ومحمد تمام ومجموعة من المخطوطات للفنان إتيان دنيه.
في هذا الموضوع ونظرا لأهمية دور عمر راسم في الحياة الفكرية ونضالاته بالقلم والريشة، إرتأينا أن نقدمه للقراء ولو بإيجاز، وأن نقتبس من بعض المقالات التي كتبت حوله بعض الاقتباسات لنعيد النور لهذه الشمعة التي عاشت في مهب الريح.
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله أطال الله في عمره عن الفنان عمر راسم : “ يحق لرجل كعمر راسم أن يكون شاهدا على العصر الذي عاش فيه وهو من 1884 الى 1959، إنه عصر تغيرت فيه حالة الجزائر من حالة خمود إلى حالة صمود، ومن ثورات في الريف الى حراك في المدن”. ويختم الدكتور أبو القاسم سعد الله مقالته “عمر راسم بين نخبة عصره” بالقول : “إننا مع عمر راسم أمام إنسان لم يفرح بزمنه ولا بحرية وطنه، لقد بدأ حياته بعهد لوليس تيرمان وأنهاه بعهد لاكوست، غادر هذا العالم وهو يائس وليس بينه وبين الحرية سوى مسافة قصيرة، ومع ذلك فإننا نتساءل في نهاية المطاف: هل كان عمر راسم سيفرح بالحرية كما فرح بها الآخرون؟”.
نظرا للحياة الصعبة والقاسية التي عاشها الفنان الصحفي عمر راسم، ليس من السهل الوقوف على كثير من دقائق هذه الحياة الشاقة، إلا أن مواقف وفكر عمر راسم وجهاده بالقلم وإصداره للصحف ووقوفه ضد التجنيد الإجباري الصادر سنة 1912، يعطينا فكرة عن هذه الحياة وهذه المواقف التي أدت به إلى السجن والحكم عليه بالأعمال الشاقة، حيث أثر عليه هذا الحكم أثرا واضحا في حياته فبقي جرحه ينزف في داخله الى غاية انتقاله الى جوار ربه.
فمن هو هذا الفنان الجزائري المناضل؟ عمر رسم ينحدر من عائلة جزائرية أصيلة، فهو عمر راسم بن سعيد البجائي الصنهاجي، وابن باية بورصاص، حسب ما جاء التعريف بأمه.
ولد بالجزائر العاصمة سنة 1883، دخل الكتاتيب كبقية ابناء الجزائريين وحفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ النحو واللغة العربية، كما تعلم اللغة الفرنسية وفن الرسم وجمال الخط العربي والزخرفة والمنمنمات على يد فنانين ومدرسين من أمثال محمد بن مصطفى الخوجة، وكذا عن افراد اسرته، فوالده علي المتوفي سنة 1917 كان رساما، وأخوه محمد من كبار الرسامين الجزائريين.
وقد ولع عمر راسم رحمه الله بالرسم ورأى فيه نوعا من الجبهات التي يمكن من خلالها مقاومة الاستعمار الفرنسي وافشال مخططاته في إعدام الشخصية الجزائرية، من خلال الثقافة والهوية والتاريخ والانتماء الحضاري، فإن في الرسم، وخصوصا فن الخط والمنمنمات هو ما يميز هذه الشخصية ويفند كل الادعاءات على أننا مجموعة سكانية بلا هوية ولا حضارة، وهذا ما جعله يؤسس مدرسة للفن أطلق عليها اسم “مدرسة الفنون الزخرفية والمنمنمات الإسلامية”، ولم يقف عمر راسم المناضل عند هذا الحد في تأسيس مدرسة الرسم، بل كان يدري أن الإعلام هو الوحيد الذي يمكنه تنوير الرأي العام الجزائري ومن خلاله بعث الجزائر مرة أخرى في الضمائر الحية للجزائريين، وهذا لا يتم إلا من خلال سلاح الإعلام وتفنيد كل ما تدعيه وسائل الإعلام الاستعمارية وسدنتها من مفكرين ومستشرقين وباحثين بأن الجزائر لا تاريخ لها يربطها بالحضارة، فأسس عمر راسم العديد من الصحف منها “الجزائر” سنة 1908م، و«ذو الفقار” 1913، كما كتب في صحف عربية كصحيفة “مرشد الأمة” و«التقدم” و«المشير” و«الحق الوهراني” و«الشهاب”.
ويقول الدكتور أبو القاسم سعد الله عن عمر راسم “عمر راسم الفنان كان له إحساس وطني، فهو ليس اندماجيا ولا حزبيا ولا راضيا عن القيادات الجديدة، لذلك انغمس في الفن من رسم وخط وموسيقى، وكان في حاجة مادية مما جعله ينضم لأسرة مجلة “هنا الجزائر” خلال الخمسينيات رغم أن هذه المجلة كانت تصدر عن الإذاعة الفرنسية...”.
عمر راسم لم تأت أسماء الجزائر التي أسسها اعتباطية، بل كانت تحمل عناوين مقاومة ومجاهدة، ف«ذو الفقار” كان اسما لسيف الإمام علي، وما أدراك ما الإمام علي ودوره الكبير في الجهاد في أهم المعارك التي خاضها الرسول ضد كفار قريش ويهود المدينة، ولهذا نجد عمر راسم رحمه الله يوضح سبب إنشائه لهذه الجريدة بالقول: “لما سمعنا الإسلام يئن من طعنات أعدائه، والوطن ينادي بالويل والحسرة على أبنائه، أنشأنا هذه الجريدة لمحاربة أعداء الدين، وكشف أسرار المنافقين، وإظهار مكائد اليهود والمشركين للناس أجمعين، وانتقاد أعمال المفسدين”.
كما تعد قضية التجنيد الإجباري من أهم القضايا التي شغلت بال عمر راسم والتي أدت الى هجرة الآلاف إلى المشرق.
والشيئ الذي يمكن ملاحظته على لوحات عمر راسم المنمنماتية، أنها تؤرخ للجزائر من خلال رسم عصرها الذهبي على البحر الأبيض المتوسط، حيث تظهر مدينة الجزائر القصبة والبحر والسفن الجزائرية بأعلامها ومدافعها منمقة ومزينة بكلمة التوحيد “لا إله إلا الله محمد رسول الله” أو رسم المعمار الإسلامي الجزائري والحياة الجزائرية داخل الدور والقصور باللباس التقليدي الذي يبرر الميزة بين ما هو جزائري وما هو غربي، وكذا الاسواق الجزائرية والمدن بقبابها وقصورها، بالاضافة إلى المدارس والعلماء والحلقات العلمية والخط العربي، خصوصا القرآن الكريم بزخرفة رائعة.
انتقل عمر راسم الي جوار ربه وبينه وبين الحرية خطوات، فكانت وفاته سنة 1959 والثورة الجزائرية على قدم وساق حيث بدأت تباشير فجر الحرية في البزوغ، فرحم الله هذا القلم الثائر والفكر المتوهج والريشة التي كانت شمعة في مهب الريح.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)