الجزائر

الفرق بين النظر إلى المكوَّنات والنظر إلى ما تدل عليه المكوَّنات



الفرق بين النظر إلى المكوَّنات والنظر إلى ما تدل عليه المكوَّنات
يقول ابن عطاء الله السكندري: ”أباح لك أن تنظر ما في المكونات، وما أذن لك أن تقف مع ذوات المكونات ”قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ والأَرضِ” فتح لك باب الأفهام، ولم يقل ”انظروا في السماوات لئلا يدلك على وجود الأجرام”.إنَّ الأصل في صاحب الفطرة الصافية عن الشوائب والراجع إلى نفسه بالتأمل فيها والدراية لها، أن يستغني عن وساطة الدلالات الكونية، وأن يرى الله بعين بصيرته عياناً..ولكن لما كان في الناس من عكرت الأهواء صفاء القطرة الإيمانية لديهم، وتاهوا عن التنبه إلى هوياتهم، وكان لهم في التأمل بما تنطق به المكونات من دلائل وجود الصانع، بديل عن ذلك، غدوا مخيرين بين اختصار الطريق بالرجوع إلى الفطرة والوقوف على مرآة الذات، ليروا الله عياناً ببصيرتهم، وبين أن يستطيلوا الطريق فيتأملوا فيما تدل عليه المكونات من وجود صانع أبدعها وصنعها فأتقن الصنع فمن أجل ذلك عبر ابن عطاء الله بكلمة”أباح”بدلاً عن”أمر .والآن ما الفرق بين النظر إلى المكونات، والنظر إلى ما تدل عليه المكونات؟النظر إلى المكونات، انشغال بالمخلوق عن الخالق، ومن ثم فإن المكونات تغدو حجاباً يحجب الناظر إليها والمتعامل معها عن الله عز وجل.أما النظر إلى ما تدل عليه المكونات، فهو انصراف عن ذات المكونات، إلى ما تحمله من براهين وجود الصانع، وما تنبه إليه من صفات القدرة والعلم والحكمة والوحدانية لهذا الصانع عز وجل. وإنما المطلوب من العاقل، ان يتأمل فيما تحمله إليه المكونات من الرسائل الآتية إليه من عند الله والناطقة له بدلائل وجوده ووحدانيته وعظيم صفاته وآلائه، لا أن يحملق في ذاتها ويعرض عما تحمله إليه من هذه الرسائل ذات الأهمية البالغة.أرأيت ساعي البريد، جاء يطرق بابك، وفي يده رسالة بالغة الأهمية لك، أيُعقل-وأنت واع تتمتع بإدراك سليم-أن يتجه منك الاهتمام إلى مظهره وشكله والثوب الذي يرتديه، فتنشغل بدلك عن المهمة التي جاء يطرق بابك من أجلها، وعن الرسالة الموجهة إليك عن طريقه والتي أقبل يحملها إليك بيده؟!فلكي لا تقودك الغفلة إلى هذه العماهة التي يترفع عنها العقلاء، ينبهك القرآن إلى أن تنظر فيما تحمله إليك المكونات، من الرسائل الواردة إليك عن طريقها من الله، ويحذرك من أن تتيه عن ذلك بالنظر إلى ذاتها والتلهي بمظاهرها، فهو يقول لك:”قُلِ انْظُرُوا ماذاَ في السَّماواتِ والأَرْضِ”ولا يقول لك (..انظروا إلى السماوات والأرض).إذن هما نظرتان نوعيتان إلى المكونات التي من حولك، إحداهما تحجبك عن الله وتنسيك وجوده وتقصيك عن رؤية باهر صفاته وآياته، والأخرى تطوي عن ناظرك المكونات وتذيب ما كنت تتوهم من مظاهر وجودها، وتضعك أمام المكون جل جلاله، فلا ترى في كل ما تقع عليه عيناك إلا سلطان الله ونافذ حكمه وباهر صفاته.أما الأولى فهي نظرة المغفل الذي راح يحملق في شخصية ساعي البريد يتأمله من فرقه إلى قدمه، معرضا عن الرسالة التي تهمه والتي جاء يحملها إليه.إنه شأن الذين أجبوا الدنيا بزينتا وزخرفها، فركنوا إليها، واستهواهم بريقها، فتاهوا عن حديثها إليهمم وتحذيرها لهم من الاغترار بها والركون إليها.وأعرضوا عن النصيحة التي يحملها القرآن لهم بأن ينظروا إلى ما تحمله لهم الدنيا في داخلها وألاَّ يحبسوا أنظارهم ي مظاهرها.فلما ركنوا إليها هذا الركون..حُبست عقولهم وأفكارهم داخل أجرامها، فكان لها في أذهانهم وجود ذاتي مستقل، أنساهم وجود الله الحق، الذي انبعثت الموجودات كلها من إرادته وحكمته وخلقه، وراحو يتعاملون مع أجرام المكونات التي هي كما قلنا وعاء للرسائل والمعاني والحقائق التي بداخلها، يتخذون من أنداداً تحجبهم عن الالتفات إلى وجود الله، وفي أحسن الأحوال يتخذون منها شركاء مع الله، يحبونها كحبه بل أشد وأكثر من حبهم له.فهؤلاء هم الذين عناهم البيان الإلهي بقوله عز وجل:”ومِنَ النّاسِ مِنْ يَتِّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أندادًا يُحبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ”(البقرة) وما الانداد إلا صور المكونات إذ تتيه أبصارها في مظاهرها وأشكالها، وتزيغ عما تحمله إليهم من الحقائق والأنباء، فيتعلقون منها بتلك المظاهر والأشكال، وقد اسرتهم زينتها واستهوتهم زخارفها..ويترتب على هذا الذي ينبهنا إليه ابن عطاء الله أمران اثنان:الأمر الأول:أنَّ الدنيا بسائر ما فيها من مظاهر المتع والنعيم، أداة مهيأة للخير فبل أن تكون عدّة للشر..فمهما اتصف هذا الوعاء من حيث مظهره بأسباب الفتنة، فإنه على كل حال لا يخرج عن كونه وعاء.. فالسوء إذن ليس في الدنيا وحقيقتها، وإنما هو في سوء استعمالها.وسوء استعمالها إنما يكون نتيجة للنظر إليها والتعامل معها بمعزل عما تحمله إلى الإنسان من التعريف بحقيقتها والتحذير من الاغترار بها..الأمر الثاني:إن هذه الوصية القرآنية بالنظر إلى الدنيا والاعتبار بها لا النظر إلى ذاتها بمعزل عما تحمله من رسائل إلهية..أقول إن هذه الوصية لا تستلزم الإعراض عن الدنيا، ولا تعني قطع أسباب التعامل معها والاستفادة منها، كيف لا وقد علمت أن هذه الدنيا مسخرة للإنسان؟وهل سخرها له إلا ليستفيد منها؟ولكن الفرق بين أن ينظر ذات الدنيا ومظاهرها، ومن أن ينظر إلى ما تحمله إليه من رسائل وعبر وآيات.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)