الجزائر

“الفجر” تقضي ليلة كاملة مع صيادي خميستي ميناء نحن مصنفون مع الموتى، نعيش لحظتنا، لانملك راتبا، ولا نتواصل مع المجتمع



“الفجر” تقضي ليلة كاملة مع صيادي خميستي ميناء                نحن مصنفون مع الموتى، نعيش لحظتنا، لانملك راتبا، ولا نتواصل مع المجتمع
ليلة كاملة في عرض البحر بالسواحل الشرقية لولاية تيبازة، قضيناها رفقة صيادي خميستي ميناء على متن سفينة الصيد البحري “بوعلام الحواتي”، رغبة منا في تحسس ما يعيشه الصيادون البسطاء بمدينة خميستي ميناء من واقع مهني تراوح بين العصيب والمرح في رحلة البحث عن لقمة العيش في عمق الليل الحالك السواد وأمواج البحر العاتية بعيدا عن اليابسة موحو: نغامر في الليل والمكلفون بالبيع يحددون أسعار السمك بالوشوشة في الأذن في حدود الساعة السادسة والنصف مساء من ميناء خميستي، كانت الانطلاقة بعد الإستعداد والتجهيز لهذه الرحلة، حيث تركن سفينة الصيد البحري بوعلام الحواتي، والتي يقودها كما يسميه أصحاب المهنة “الرايس” تيلاس عبد القادر، باتجاه عرض البحر بالسواحل الشرقية لولاية تيبازة على امتداد سواحل مدن بوسماعيل، فوكة، ودواودة البحرية في رحلة البحث عن ما قد يجود به بحر تلك الليلة من أسماك ذات أنواع مختلفة. كانت الأجواء على متن السفينة أخوية ومرحة ككل أيام الصيد.. بين عبد القادر، سفيان، موح، منير، وغيرهم من طاقم السفينة، خاصة بعد أن عرفوا أن صحفي “الفجر” قد ركب أمواج البحر معهم و يخوض لأول لأول مرة في حياته هذه التجربة، ليشاركهم تلك الليلة ويرصد ما يصادفونه في رحلتهم لكسب قوت يومهم.بعد مسيرة أميال من الميناء، بدأ وقت الجد وحان أوان العمل، فبعد إشعار جهاز الكشف عن السمك بوجود سرب من الأسماك يحوم بالجوار، عمت السفينة حركة سريعة وجد منظمة بين الصيادين، وطغى على لغة الطاقم  استعمال كلمات أثارت انتباهنا، رغم أننا لم نفهمها في البداية، إلا بعد شرحها لنا من طرف الرايس وبعض “البحارة”.تفقد المحركات والتجهيزات  واجب قبل الإنطلاق قبل الإنطلاق باتجاه عرض البحر، كان واجبا على طاقم السفينة الإعداد لهذه الرحلة البحرية، وتهيئة كل الظروف التي تساعد على نجاحها، وكذا تفادي أي مفاجآت غير سارة في عرض البحر.. حيث يقوم الميكانيكي عبد الرزاق بمراقبة وتفقد كل التجهيزات الميكانيكية من محرك السفينة إلى المحركات الكهربائية التي تنقل على متن سفن صغيرة، هذه الأخيرة يقوم بواسطتها شعبان معمر، بإشعال المصابيح وطرحها تحت الماء من أجل جلب السمك وجعله يصعد إلى الأعلى، كما يقوم الصيادون من جانب آخر بتفقد الشباك والحبال، وكذا جاهزية بعض المعدات الأخرى، وخصوصا الرافعة التي تعتبر الأساس في عملية سحب الشباك بعد امتلائها بالسمك. من جانبه يقوم قائد السفينة، أو الرايس، بتفقد التجهيزات داخل غرفة القيادة كجهاز الكشف عن السمك والرادار وكذا جهاز الإتصال، هذان الأخيران يساعدان على عدم تصادم أي سفينة بغيرها أو بأي جسم قد يشكل خطرا عليها.  كلمات إيطالية للإتصال وترتيب الأدوارباعتبار أن مدينة خميستي، أو”شيفالو” كما يحلو للبعض تسميتها، كانت في الحقبة الإستعمارية مكانا للمعمرين الإيطاليين في ذلك الوقت، والذين مارسوا مهنة الصيد منذ استقرارهم بها إلى غاية الإستقلال، فإن معاشرة سكان “شيفالو” لهم دفعهم لتعلم نفس الكلمات الإيطالية التي كانت تستعمل في السابق، حيث وبمجرد إنذار الكاشف بوجود السمك، حتى بدأت تلك الكلمات تتوالى على أفواه الطاقم البحري للسفينة، ويشار للمكلف بالمصابيح بإشعالها فورا قصد جلب السمك وجعله يصعد إلى الأعلى.. وكان الرايس عبد القادر أول من نطق بالكلمة الأولى”ليستي الكالة”، والتي تعني أنه على البحارة الإستعداد، وإعداد الشباك للإنزال. بعد هذه المرحلة الأولى تأتي كلمة “مول على الله”،  فبمجرد سماعها يبدأ الصيادون بإنزال الشباك إلى الماء في شكل دائري، بحيث تقوم السفينة بالدوران حول المصابيح وإنزال الشباك في آن واحد إلى غاية إتمامها لدورة كاملة حل المصابيح، إذ تكون قد أحاطت بسرب السمك المكتشف. وأثناء تلك العملية يكون البحري، معمر حمراوي، على متن سفينته الصغيرة من الخلف، والتي يلقبها الطاقم البحري بـ “البونيو” في عملية إبعاد الشباك عن سفينة الصيد حتى لا تحتك مع مروحية المحرك.  “ڤوندي” هي الكلمة الموالية، والتي تعني أن الشباك انتهى من عملية الدوران حول المصابيح وسرب السمك بدورة كاملة، ما لا يدع مجالا لهروب الأسماك أو خروجها من محيط الشبكة، بعدها يقوم محمد واضح أو “البومبيست” بعد سماعه كلمة “الراست” بسحب الحمل الذي يقوم بتوقيف وشل حركة الشباك حتى لا تواصل نزولها إلى البحر، وفي الأخير تسمع كلمة “فيري”، والتي تعني غلق الشباك من الأسفل.. يقوم بهذه العملية محمد واضح عن طريق سحب الحبل الموصول بالشباك من الأسفل بواسطة محرك صغير مثبت على متن السفينة إلى غاية غلق الشباك بأكمله والإحاطة التامة بالصيد، وفي الأخير يتم وبكل بساطة رفع الصيد بالرافعة ووضعه على متن السفينة.. ليقوم بن مسعود، هواري، بوعلام، عمار وغيرهم بعملية الفرز ووضع الأسماك في صناديق حسب النوع.مهنة الصيد.. ذكريات سعيدة لا تصنع المستقبلرغم الأجواء المرحة التي عشناها في هذه الرحلة، والتي تبقى في الذاكرة، إلا أن معاناة الصيادين تبدأ بمجرد عودتهم إلى الميناء، وحين تطأ أقدامهم أرضية اليابسة.. حينها يشعر الصيادون أن الليلة التي قضوها في عرض البحر بحلوها ومرها لم تعد لها قيمة، أو بالأحرى لن تجد من يعطيها قيمتها الحقيقية، فبمجرد إفراغ الحمولة على أرضية الميناء حتى تبدأ الفوضى في كيفية تسويق هذا الصيد، ويأتي المكلف بالبيع، وهو الشخص الذي يلتزم كل الصيادين وأصحاب السفن البحرية بتسليمه ما حصّلوه طيلة الليل من أجل بيعه، وهو الوحيد المخول بتحديد السعر باعتبار احتكاره للزبائن الذين لا يترك لهم أي مجال للإحتكاك المباشر بالصيادين.. وبهذه الطريقة يكون الوحيد الذي يقوم بتحديد السعر وفرضه على الجميع بما يخدم مصلحته الخاصة، حسبما صرح به بعض الصيادين، الذين أكدوا أن هذه الظاهرة توسعت عند المكلفين بالبيع.. ولولا بقاء بعض “القنوعين” منهم لذهب حق الصياد أدراج الرياح.كما ذكر الصيادون  أن السعر أصبح يحدَد بالوشوشة في الأذن، حتى لا يسمع الصيادون السعر الذي بيعت به سلعتهم، وفي الأخير لا يتحصلون إلا على مبالغ ضعيفة لا ترقى إلى مستوى التعب الذي نالهم طيلة الليل في عرض البحر. حياة اجتماعية مزرية هي نصيب البحري     في حديثنا لمحمد واضح، أو”موحو” كما يحلو للصيادين مناداته، وهو مثقف السفينة وأعلى الطاقم بالنسبة للمستوى الدراسي، حيث يملك مستوى الثالثة ثانوي.. هذا الأخير أجاد فعلا وصف معاناته ومعاناة زملائه من الصيادين، فقال: “الصيادون في بلادنا مصنفون بعد الموتى، فنحن لا نملك أي حقوق تضمن لنا مستقبلنا، ولولا بعض أصحاب السفن الذين يتفهمون وضعيتنا الصعبة لما وجدنا ما نقتات به ليوم واحد”.وأضاف قائلا:”تخيل أننا لا نملك راتبا شهريا، رغم أننا مؤمنون اجتماعيا، وهو الأمر الذي يضعنا في وضعيات لا نحسد عليها، خصوصا في حال انعدام السمك في البحر أو توقف فترة الصيد، أين لا نجد ما نطعم به عائلاتنا ونضطر للإقتراض من هنا وهناك، إلى حين يأتي الفرج”.من جانب آخر أكد الصيادون أنهم لا يملكون نقابة يشتكون إليها معاناتهم، مؤكدين في ذات السياق أنهم لا ينتسبون للإتحاد العام للعمال الجزائريين.. رغم أنهم يساهمون بـ45 بالمائة في الاقتصاد الوطني، حسب تعبيرهم. كما شجبوا الإجراء الذي اتخذته وزارة الصيد بمنح مبلغ 8000 دينار في الشهر لقائد السفينة، وهو الإجراء الذي وصفه الصيادون بالمتعسف، حيث قالوا:”من غير المعقول أن تتخذ الوزارة مثل هذا الإجراء وتمنح هذا المبلغ لقائد السفينة، الذي يكون في غالب الأمر مالكها، ونحن أحق وبحاجة إلى هذا الدعم”. البحري أصبح غير اجتماعي.. يعمل بالليل وينام بالنهار   في سياق آخر، تحدث الصيادون عن حالتهم الإجتماعية، وذكروا أنهم لم يعودوا يستطيعون التأقلم مع محيطهم، فهم يعملون طول الليل في عرض البحر وينامون طول النهار بعد عودتهم دون أي اتصال خارجي، وهو الأمر الذي أدى إلى اختلال نظامهم الإجتماعي والابتعاد عن الحياة الاجتماعية العادية، حيث قالوا:”نحس بأنفسنا متأخرين عن الغير، فنحن لا نتواصل ولا نتحدث مطولا في أيام العمل ولا نسمع شيئا، وهو ما يجعلنا متخلفين عن الواقع إلى حد ما، وهو ما أدى إلى حالة اكتئاب عند بعض الصيادين”.إضافة إلى هذا، و نظرا لهذه الظروف القاهرة التي يعيشونها، فإنهم لا يستطيعون حتى الالتحاق بأي تكوين لتطوير مهاراتهم المهنية، وهو الأمر الذي حصل لـ “محمد” حين حاول الإلتحاق بمركز التكوين المهني اقتناعا منه بعدم جوى بقائه في مجال الصيد الذي لم ولن يحصل منه شيئا لمستقبله، لكنه قوبل بالرفض رغم امتلاكه لمستوى النهائي بحجة كبر سنه.وقبل مغادرتنا ميناء خميستي، كان رجاء وليد، بوبكر، سليم وغيرهم، هو التفاتة السلطات إليهم والنظر إلى الحالة التي يزاولون نشاطهم فيها، مطالبين فقط بإنصافهم وإدماجهم كغيرهم من العمال بمرتب شهري يضمن لهم حياة اجتماعية كريمة.   روبورتاج خلدون رحيم


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)