الجزائر

الرياح التي..


الرياح التي تدفع القارب تسير عكس مجرى النهر، ففي الوقت الذي يخال الرائي أنّ الركّاب يتّجهون نحو المصبّّ، فإنّ النهر – بسليقته - ينساب وفق قوانينه هو التي تمليها عليه هو، كما هو ورغماً عنه ووفق انسجامه، بلا إكراه، وبإكراه، وبمزاج الهوى لا الهواء، الهواء الذي له هو أيضاً جيناته التي تتفاعل فيه وتعزفُ سيرورته ومزاجَه وهوائيته، وفي حوار النهر والهواء، لا يكاد أحدهما يستطيع أن يقلب مزاج الآخر.... وحتى ولو تصافحا على صفحة الماء وتماحكا على بساط الهواء، فلكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، ولكلٍّ ثقلُ إرثه وتكوينه، فإذا كان أحدهما يتبعُ انحدار التضاريس وتُقيِّدُه الجاذبية فإنّ الآخرَ ينتشرُ ويخفّ ويتوارى من الضوء، ويتسلّل من مسامّ الجذب، ويذهب عكس اتجاه تفاحة نيوتن الشهيرة، كأنّهما عالمان، "بينهما برزخٌ لا يبغيان"، عالمان، أحدهما يمضي في تجلياته كأن لا أحد، ويعزف جلبته ويستعرض عضلاته وجيناته، ويواصل توكيد ذاته كما اشتهى، متسلّلاً في أخاديد الموازين الدوليّة، ولاعباً على تضاريس المفاهيم، ومستعيناً بثقل أدواته المادية وانسياب الإرادات وسهولة الجغرافيا، حتى أنّه يعيب على الآخرين اشتراط تجميد الاستيطان، مجرّد تجميد الاستيطان في المناطق التي يُتَفاوَضُ عليها، بل يجب على الفلسطينيين أن يتخلّوا عن مطالبهم بتجميد الاستيطان لكي "تنجح" المصافحات، مصافحات النهر والهواء، وهم.. وقد استطاعوا أن يكبلوا الدائرة الأولى للفلسطينيين، دائرة الشتات التي رادتْ حركةَ التحرر الفلسطيني، ثم التفّوا على الدائرة الثانية التي حملت العبء بعدها واللّواء في انتفاضات المناطق المحتلة عام سبعة وستين، هاهم يتدرّجون إلى الدائرة الثالثة التي بقيت في فلسطين المحتلّة عام ثمانية وأربعين، وتصبح الخطوة التالية هي كيفية إبعادهم بالتفاهم والمفاوضات، وبإكراه شروطها اللازمة لنجاحها وفق جيناتها ومنظومتها وحسب موازينها هي التي تتبع عالَمَها هي، عالمها الذي لا يأبه إلا بذاته هو، فهو في برزخٍ تام يواصل نموَّه وذاته بعدما اغتصب الجزءَ الأكبرَ من البلاد ويتدرّجُ بانسيابٍ من تجريف الأراضي إلى هدم المنازل ومصادرة المقدَّس والتاريخ والتراث وهدم البيوت أو اغتصابها وبيع أملاك اللاجئين إلى منع المزارعين من الوصول لأراضيهم ومصادرة الهويّات والإبعاد، إلى القيام بكلِّ اطمئنان إلى جني الزيتون من مزارع الفلاحين وسرقتها والانصراف بأمان، مع الإعلان الهوائي للمدعو رئيس الكيان ب«كلّنا ندعم جهود إنجاح المفاوضات"؛ ذلك أنّ نجاح المفاوضات يعني بالضبط نجاح مشروعهم، المشروع الكبير لدولة الكيان الصهيوني، وفي حال "فشل" تلك المفاوضات، ف«إنّنا جاهزون لمواجهة كلِّ الاحتمالات"، كما صرح رئيس وزراء الكيان، "فلن يكون هناك أيُّ جدوى من جلسات التفاوض ما لم يُغيّر الفلسطينيون مواقفهم، إذ أنّ الاستيطان ضرورة لضمان البقاء الصهيوني" كما قال إيللي يشاي، أمّا القدس فهي مركز هذه الدوائر الثلاث، والجنون فيها يفسّرُ ما استعصى على الفهم من ألغاز، فما الذي يجري في أكنافها إلا شذرات من فيض برزخ هذه المنظومة التي تطوي على لفائفها ولا تلوي على كلِّ عوالم الجوييم، فهي منظومةٌ تسير بتلقائيتها هي، "طوعاً أو كرهاً" ولا تملك إلاّ ذلك، وإلاّ لما كانت منذ البداية، حيث كان يجب أن تكون نشازاً عن منظومة الكون، فكان لا بدّ من أن تلد في برزخها وأن لا تملك إلا أن تستمرَّ فيه، ... هكذا تموت ... أو ... تموت. أمّا الرياحُ التي تدفعُ القاربَ والمياه فهي منذورةٌ للحياة، وعلى الجانبين "ترى الجبالَ تحسَبُها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب".
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)