الجزائر

الحلقة الثالثة..شتاء 1959: كومندو توري يدفع ثمن صلفه كومندو جمال.. العودة إلى الونشريس



الحلقة الثالثة..شتاء 1959: كومندو توري يدفع ثمن صلفه كومندو جمال.. العودة إلى الونشريس
تساقطت الثلوج بكثرة في شتاء 1959، فتوقفنا مضطرين بطعم السماء، حيث استضافت كل عائلة فوجا من الكومندو، وكان سكان الدشرة يضاعفون من حفاوتهم بنا. لكن المكوث عدة أيام بنفس الكمان يشكل خطرا. فمن حين لآخر تحلق مروحية فوق الدشرة، بحثا عن آثار من السهل رؤيتها في مشهد يعطيه البياض الساطع. لذا كنا نحتاط لذلك، بمحو أي مؤشر يمكن أن يدل على وجودنا.
بعد أسبوع غادرنا طعم السماء في ليلة شديدة البرد. كنا نتقدم بصعوبة، وكان جندي المؤخرة يسحب وراءه بطانية لمحو آثار خطواتنا.
وصلنا في حدود منتصف الليل إلى دشرة النحاحلة التي نعرفها، بعد مسيرة مرهقة. وهناك التقينا الكريمية، كتيبة الناحية التي تعززت بعناصر جديدة منذ بضعة أسابيع. كان اللقاء حارا، والجنود سعداء مرتاحين، لاجتماع بعضهم ببعض من جديد.
كانت الكريمية قد نصبت كمينا ناجحا، لوحدة فرنسية بالقرب من وادي الفضة، حيث تمكنت من أسر زهاء 40 من جنود العدو. وكان على رأس الكتيبة آنذاك عبد الكريم (1) و هو قائد فصيلة سابق بكومندو جمال، بمساعدة الطاهر وهو شاب (2) برتبة مرشح عسكري.
كانت المساترية وجهتنا المقبلة وهي عبارة عن موقع غابي تتخلله بعض القمم، من أشهرها قمة "عبدق" بالحسين، كما كناها المجاهدون باسم مسؤول المكان. كان مركزها يضم في تلك الفترة مقر قيادة المنطقة. فعبدق بالحسين في المساترية وبن ملوكة في أولاد المبان وصياد وبولوحة وبوقادوم في عمرونة وموسى مشاليخ في طيابين، ورحماني في بيسة (ناحية تنس) والشيخ قادر في أولاد بوعشرة (ناحية المدية)، هؤلاء جميعا أصبحوا معروفين ومشهورين، بفضل استعدادهم الدائم، وأخلاصهم بدون حدود.
في فاتح نوفمبر 1959 كان سي محمد بيننا، فقدم له الكومندو السلاح احتفاء بذكرى الثورة. ثم رافقناه أنا والسعيد بوراوي إلى مقر القيادة، حيث مكثنا بضعة أيام.
التحق بنا هناك محمد "مح" جمعة المسؤول العسكري للناحية برتبة مرشح، وهو من قدماء كومندو جمال، عين عند مفارقتنا على رأس الكتيبة الكريمية قبل أن يصبح مرشحا. لم أره منذ ذلك الحين.
في منزل "عبدق" بالحسين، حدثنا سي محمد عن كومندو قناصة يعبث فسادا بالناحية. ثم قدم لنا منشورا موجها إلينا، صادرا عن "كومندو توري". وصفنا قائده بالجبناء الذين يفرون من العمليات، وطلب منا انتظاره غدا، لأنه سيخرج إلينا. قال سي محمد يخاطبنا: "عليكم برفع التحدي"َ. تلفظ بهذه العبارة، دون أن يشفع ذلك بأمر يطبق فورا، وكانت مرفقة بابتسامة خاصة بسي محمد. فوعدناه بالاهتمام بالموضوع.
غادرنا المركز، والتحقنا بكتائبنا الرابطة في أماكن غير بعيدة الواحدة عن الأخرى: الكريمية شمالا في قمة قريبة من دشرة الجمعة، وكومندو جمال جنوبا في القجاجعة.
اتفقت مع "مح" جمعة على أن كومندو توري الذي يتحدانا لن يكون وحده في الميدان؛ فهو مجرد طعم يهدف إلى جرنا نحو فخ كبير. علينا بذل كل ما في وسعنا، لتجنب الفخ المنصوب لنا عازمين في نفس الوقت على ضرب العدو الذي يمكن أن يأتي من ناحية "بوقايد" غربا، وفي هذه الحالة سيجد كومندو جمال في انتظاره، أو من "البطحية" شمالا، وفي هذه الحالة سيجد الكريمية في "استقباله".
اتفقنا أيضا على ضم الكتيبتين في تشكيلة قتالية واحدة، بمجرد الاستعلام عن الطريق الذي سيسلكه كومندو قناصة العدو. كنا نريد ألا نترك له أي منفذ للنجاة.
التحقق عقب ذلك بكتيبتي، فجمعت الإطارات وحدثتهم عن المهمة التي تنتظرنا. ثم رسمنا خطة قتالية تتمثل أساسا في اختيار أماكن نصب الرشاشات الثقيلة، وتعيين موقع كل فصيلة.
وفي الصباح الباكر من اليوم المحدد (6 نوفمبر 1959)، غادرنا مركز القجاجعة، وتمركزنا قبالة بوقايد كما اتفقنا.
وعلى الساعة السابعة أخذ المدنيون يفرون من مداشرهم، ايذانا باقتراب العدو منها. بعد فترة من ذلك شوهد كومندو القناصة قادما من بطحية على الطريق الغابي. فالحظ إذا كان مع الكريمية، فأسرعت للالتحاق بها، بعد أن كلفت بوراوي باستقدام الكومندو.
عرفت إثر ذلك أن الكومندو لا يستطيع ترك موقعه، لمشاهدة جنود فرنسيين وهم يعبرون وادي "أشمارة" قادمين من بوقايد. لقد صدقت توقعاتنا، بأن كومندو القناصة لا يغامر وحده.
كنت على مقربة من رامي الرشاش الثقيل، كامنين في مرتفع صغير. كان كومندو العدو مضطرا للمرور أمامنا، وكان محمد جمعة في الطرف الآخر على يميننا. كانت عناصر الكومندو العدو تتقدم الواحد تلو الآخر، يرتدون زي المظليين، وبعد تجاوز منعرج واصلوا على خط مستقيم، متجهين نحونا مباشرة، حتى أصبحوا على نحو 100 متر.
بدا رامي الرشاش يتململ، يريد إطلاق النار، طلبت منه أن يتريث قليلا، حتى يتقدم أكبر عدد منهم. فالأفضل أن ننتظر تجاوز معظم جنود الكومندو للمنعرج، ودخولهم وسط الكمين.
أخذ عناصر الكومندو يسرعون بعد المنعرج. أصبحوا الآن على نحو 40 ثم 30 مترا. في هذه اللحظة بالذات، انهال عليهم طوفان من الرصاص، بعد أن فتح النار رامي الرشاش، متبوعا بجميع الأسلحة الأخرى. لم ينج أحد ممن كانوا في خط تسديدنا، وثبنا على المسلك، لغنم جميع الأسلحة المتوفرة. كان رفاقي أسرع مني، فاكتفيت بجمع أحزمة الخراطيش.
انطلقنا نطارد بقيت الكومندو، وقد تمكن بعض جنوده من الاحتماء بالغابة والتموقع في مرتفع، تغطيه الأشجار يشرف على المسلك الغابي. لم يكونوا كثريين، لكن من الصعب الوصول إليهم، وأكثر من ذلك كانوا يحاولون منعنا من التقدم إليهم. نريد غنم رشاش خفيف من نوع "ماك 56 " ، يتميز بفعاليته العالية كان بوسط المسلك. إنه رشاش المظليين، ولم نكن حصلنا بعد على عينة منه (3).
في تلك الأثناء، بدأنا نسمع أزيز الطائرات، ففضلنا الانسحاب باتجاه موقعنا ثم تجاوزه. أخذت أربع طائرات استطلاع تحلق فوقنا، وما لبث أن التحقت بها عدد من المقاتلات التي شرعت في قصفنا برشاشاتها وقذائفها. وبعد قليل ظهر سرب من مروحيات "بنان" التي بإمكان الواحدة منها نقل فصيلة كاملة، فأخذت تفرغ ما في جوفها من جنود على الجهة الشرقية. كان الجيش الفرنسي يعرف أن الانسحاب المثالي يكون من الجهة الشرقية للالتحاق يتكادرت، حيث تسمح مواقع جيش التحرير بمقاومة أفضل.
لقد أصبحنا محاصرين فعلا في هذا المنخفض الضيق، فالعدو أمامنا من الجهة الشرقية بأعداد ضخمة، وهو وراءنا كذلك قادما من بوقايد. كانت الكريمية قد انسحبت باتجاه تكادرت قبل إنزال المروحيات، لكن المقاتلات صبت جم غضبها عليها، ربما بتوجيه من طائرات الاستطلاع. مكثت رفقة نحو عشرة من جنود الكريمية غير بعيد عن مكان الكمين، مراهنين على أن العدو لم يبقى طويلا بذات المكان، على أساس الاعتقاد بأن معظم عناصرنا قد انسحبت باتجاه الشرق.
توقفت الطائرات عن قصف قطاعنا، واتجه العدو بترسانته بعيدا في اتجاه تكادرت، كما يدل على ذلك دوي القصف الذي أصبح أقل حدة. وما أن خيم الليل، حتى التحقت بالكومندو والذي حط الرحال "بلجمال". لقد انسحب نائبي حسن بذكاء، لكنه انسحاب انتحاري الى حد ما، لأن المكان خال من الأشجار والقمم.
كان الكومندو قبل ترك موقعه في القجاجعة، قد تبادل إطلاق النار مع الوحدة من جنود العدو التي قدمت من بوقايد، دون أن يتحول ذلك إلى معركة حقيقية، ونعتقد بأن مهمة الوحدة كانت تتلخص في منعنا من الانسحاب نحو الجنوب.
أما الكريمية فقد واجهت موقفا حرجا بتكادرت، حيث اشتبكت في الغد مع عدد كبير من جنود العدو، وتعرضت إلى قصف رهيب، الأمر الذي جعلها تفقد زهاء 15 شهيدا.
وكاد الرائدان سي صالح وسي محمد، أن يقعا في الحصار بمقر قيادة الناحية.
في الاشتباك مع الكريمية فقد كومندو توري العديد من عناصره، وبعد بضعة أسابيع وقع في كمين آخر، نصبته فصيلة من الناحية الثانية بقيادة عبد القادر "ڤوراية"، من قدماء كومندو جمال.
وهكذا دفع كومندو توري غاليا ثمن صلفه، وبلغنا لاحقا، أن هذه الوحدة قد تم حلها بقرار من قيادتها.
لم يفقد كومندو جمال في هذه المعركة سوى عنصر واحد: بوعلام حلاق الوحدة الذي من المؤكد أن يكون اتبع الكريمية، في انسحابها نحو تكادرت. لم نستطع أن نعرف بالضبط ظروف استشهاده، إذ اختفى تماما. وقد شعرنا بألم كبير لفقدانه. فقد كان جنود الكومندو جميعا يحبونه. وهو من مواليد أزفون، وكان ضمن الدوريات (4) التي كانت تجلب السلاح من الحدود المغربية في بداية 1957. وعقب عودة دوريته كان يحمل بندقية "موزار"، فأراد البقاء في المنطقة الثالثة مع رفيقين آخرين هما أحمد وعاشور.
كان بوعلام قصير القامة مستدير الوجه، سهل الابتسامة ميالا إلى المرح. يحب الحديث ورواية حياته التي كانت غنية بالأحداث المثيرة. وكان يهوى الغناء "الشعبي" والموسيقى القبائلية، ويحسن العزف سيما على البانجو. تبقى بعض مظاهر بوعلام وحركاته محفورة إلى الأبد في ذاكرتنا. كان يحتفظ في جيب داخلي على صدره، بصورة صغيرة لابنه الرضيع. كان يحب إخراجها، وكثيرا ما يرينا إياها، لنشاطره في تلك اللحظة، فرحته الجمة واعتزازه الكبير. وبعد أن يرينا الصورة يكرر نفس الحركات مثل العبادة: يقبّل الصورة بعطف، ثم يعيدها بعناية إلى جيبه، قبل مداعبة صدره عدّة مرات، ليتأكد من عودة الصورة فعلا إلى مكانها. وعند أداء هذه الحركات، تختفي الابتسامة ويغزو وجهه حزن عميق. يمسك دموعه ثم يطلق قهقهة عريضة وكأن شيئا لم يكن. بوعلام لن يرى ابنه أبدا.
.
الهوامش:
(1) عبد القادر (اسمه الحقيقي سمار) من مواليد بئر خادم. كان قائدا فصيلة في كوموندو جمال، فأصبح مسؤول كتيبة ناحية بالونشريس. استشهد سنة 1958، فسميت الكتيبة باسمه، على غرار جميع وحدات الولاية التي اتخذت أسماء أول قائد يستشهد على رأسها.
(2)الطاهر بوشارب من مواليد الأغواط. التحق من ثانوية المدية بجيش التحرير، عقب إضراب 19 ماي 1956. استشهد في بداية 1960 في الدوي أحد جبال عين الدفلى.
(3)علمت لاحقا أن العينة الوحيدة من هذا الرشاش (ماك 56) بجيش التحرير، غنمها فوج من الفدائيين بقيادة أخي أحمد، في المنطقة الرابعة بالقرب من مطار (أورليان فيل) الشلف.
(4) الدورية عبارة عن وحدة من الشبان المنحدرين من المدن والقرى، تذهب بدون سلاح إلى المناطق الحدودية بمرافقة واحدة أو اثنين من قدماء المجاهدين المسلحين، في رحلة طويلة وخطيرة ، ليجلب كل واحد منهم قطعتين من السلاح. ابتداعا من 1959 أصبحت الدوريات تتوجه إلى تونس أساسا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)