يمر المشهد الاقتصادي العالمي بأزمة مالية طاحنة، عصفت على الأطلسي بضفتيه، وامتدت آثارها من أدنى المعمورة إلى أقصاها، وأفرزت تداعياتها على اقتصاديات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وسببت إفلاس مؤسسات مالية عملاقة، زعزعت صناعات عتيدة، وقد أسالت الكثير من الحبر، واستنفدت جهود المفكرين والمحللين في تحليل أسبابها ورصد تداعياتها، وقياس حجمها وتوقعات آثارها المستقبلية.
نحن لا ننكر أن للأزمة أسبابا اقتصادية وفكرية واجتماعية وحتى سياسية، غير أنه يمكن إجمالها وحصرها في كونها أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى، أي بكل بساطة ودون تعقيد، إنها أزمة ناتجة عن تخلي المتعاملين بأخلاقيات المعاملات، فلو أن كل متعامل سواء كان مستثمرا أو مدخرا أو منتجا أو مستهلكا تمسَّك بالقيم الأخلاقية، لَما حصل ما حصل، إذ أن الجميع يحكمه مبدأ المصلحة الشخصية البحتة، دون مراعاة للطرف الثاني، فالمنتج يسعى إلى معظمة ربحه والمستهلك يسعى إلى معظمة منفعته، وذهبت المصلحة الجماعية المشتركة أدراج الرياح.
وإذا كانت المنفعة والربح هدفين مشروعين لا يمكن أن تقوم بدونهما حركة أو تُشَيَّد حضارة أو تحقق تنمية، إلا أنه ينبغي أن يُسَيَّجا بسياج من الأخلاق والمبادئ والقيم التي يحترمها الجميع، ويقف عند حدها كل إنسان، هذا الذي تفقده الحضارة الغربية، فأطلقت العنان للدوافع والغرائز الإنسانية دونما ضابط أو رقيب، في حين نجد أن الحضارة الإسلامية سمحت للإنسان بالتفكير والإبداع والإنتاج ضمن إطار الأخلاق والمبادئ حتى لا تتغلب المصالح الشخصية على المصالح العامة .
وحتى لا نغرق في التنظير ونحَلِّق في عالم المثل دون النـزول إلى الواقع، علينا أن نسوق مثالا لتأكيد ما ذهبنا إليه بمؤيدات من حياة الناس العملية، فمن أهم الأخلاق التي فقدت في التعامل بين الناس، خلق الصدق الذي عدّه العلماء أساس الأخلاق الذي يعني القوة والحق واليقين مقابل الشك والظن والكذب، فأصبح الاستمساك به في كل شأن من شؤون الحياة –لا كما يفهم البعض بحصره في الكلام والأخبار – مفتاح نجاحهم في الدنيا ونيل رضوان ربهم في الآخرة .
فلو عرف رجال الأعمال والمال مدى أهمية الصدق، وتمسكوا به لسادت الثقة بين الجميع واستحكمت عرى التعاون والتبادل وشاعت روح الطمأنينة والاستقرار . ففي عالم البورصات، وهي السوق التي تباع وتشترى فيها سلعة من نوع خاص تسمى بالأسهم والسندات، فإن جودة وقيمة هذه البضاعة لا تعرف إلا من خلال ما يقدمه الخبراء الماليون عن المراكز المالية للشركات التي تحمل تلك القيم المالية، والمواطن والمساهم البسيط يضع ثقته كاملة في أولئك الخبراء "محافظو الحسابات" في تزويدهم بالمعلومات المالية الصحيحة حولها، لكن كثيرا ما يبيع هؤلاء الخبراء ذممهم لمسيري ومديري هذه الشركات، فيحررون تقارير غير صادقة عن المركز المالي، ويزوِّرون الحقائق، ويكذبون على جمهور المتعاملين مقابل حفنات من الدولارات إرضاء لمنافعهم الشخصية ويضحُّون بالمبادئ والقيم الأخلاقية، ويسدد ثمن هذا السلوك اللاأخلاقي ذلك المساهم البسيط فيُقْدِم على شراء أوراق مالية لمؤسسة على شفا الانهيار، فتنهار آماله وأمواله، وتنهار معه الثقة التي ينبغي أن تسود بين المتعاملين، فيسود روح التشاؤم وفقدان الأمل فتضيع الأموال، وتشيع الظنون وتضطرب الأنفس ويزول الاستقرار عن الاقتصاد.
فلو صدق مسيرو الشركات، وصدق معهم الخبراء في تقاريرهم لنالت كل مؤسسة نصيبها من الرواج حسب مركزها الحقيقي، فالثمرة الخبيثة لسوء الأخلاق والتخلي عن المبادئ والقيم في النفوس هو سبب انهيار البورصات، ومؤشرات الأسعار فهلا تفطن المحللون والمفكرون واعتبروا مما وقع، وأعادوا صياغة علم الاقتصاد على أسس من القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية ...
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 13/05/2011
مضاف من طرف : SCOUBIDOU
المصدر : veecos.net