الجزائر

التلفزيون ليس جمعية خيرية



صحفي متميّز يؤدي عمله في أمان الله وحفظه.. تعرّض للعتاب والتهميش، والسبب مجرد رؤيا في المنام لا ناقة له فيها ولا جمل.. لقد رآه زميل له في مقام رئيس التحرير، يجلس على كرسي المسؤولية ويدير العمل على أحسن ما يرام.. ولما شاع الخبر ووصل إلى المتربّع على عرش الجريدة، رئيس التحرير الفعلي، أحسّ بالخطر القادم وخشي أن يكون حقيقة ماثلة للعيان.القصة سمعتها من زميل مصري، ومسرحها صحيفة حكومية كبيرة في بلاد النيل خلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس حسني مبارك وعائلته.. وفي القصة المزيد وهو أن سقوط مبارك أفرج عن كثير من الكلام الذي كان حبيس النفوس، ومنه عرف الناس أن رئيس التحرير المذكور، الذي قرّر مصادرة أحلام الآخرين، كان يتصرّف في أموال الجريدة بشكل خرافي، ومن ذلك أنه استغل خمسا وعشرين خط هاتف نقال وخمس سيارات تابعة للجريدة.. نعم لم يكتفي بأولاده حتى قرّر تعميم (المعروف) على أصدقائهم فهم يستفيدون من الاتصالات والنقل المجاني.
إنه مثال واحد على درجة الفساد الذي تسرّب إلى قطاع الإعلام المصري في زمن الاستبداد وتكميم الأفواه وقمع أي محاولات جادّة للرشد والإصلاح.. والصورة نفسها قد تتكرّر في جميع الدول العربية البعيدة حتى الآن عن مناخ الحرية الحقيقية وسيادة القانون حيث تتوفر شروط الشجاعة لدى المواطن، مهما كان موقعه، ليسأل ويحاسب ويكتب ويفضح بارونات الفساد ويرفع الدعاوى أمام القضاء، وهو في كل أحواله آمن على نفسه وأهله وقوته، لا يخشى إلا الله تعالى.
إن الحديث عن مناخ العمل الإعلامي ودرجة نقائه مهمّ للغاية في جزائر اليوم حيث قانون الإعلام الجديد وفتح المجال السمعي البصري أمام الخواص.. والحديث مهمّ أيضا في وصف طبيعة الأرضية التي نقف عليها الآن ومنها سيكون الانطلاق نحو آفاق أرحب في عالم الإعلام الثقيل وما يتبعه بعد ذلك من تداعيات يُفترض أن تكون إيجابية. والسؤال المطروح هنا: ماذا لو انكشفت الأقنعة؟.. هل سنعثر في ثنايا الذاكرة على قصص تشبه ما فعله رئيس التحرير المصري الذي ظنّ أن في استطاعته مصادرة أحلام الآخرين.
(إذا لم تستحي فافعل ما شئت).. مثال طبّقه رئيس التحرير المصري على أكمل وجه، ويمكن أن يطبّقه أيضا من هم على شاكلته في أي موقع إعلام في هذا البلد العربي أو ذاك، خاصة إذا تحالفت عوامل متعددة منها اندثار الحياء وموت الضمير والأنانية المفرطة والخواء المهني والأخلاقي، والنتيجة الطبيعية بعد ذلك هي تلك البيئة التي تزدحم بالأوبئة والأمراض ومنها يتشكل السدّ المنيع أمام ولادة إعلام حرّ قادر على المنافسة.
لقد دقّ المعنيون بالأمر ناقوس الخطر مع اقتراب مرحلة الفضائيات الخاصة في الجزائر، وأدرك هؤلاء، ربما بعد فوات الأوان، أنّ أيام الانفراد بهذا القطاع قد ولّت إلى غير رجعة، وهكذا تسرّب حديث عن مفاوضات تجري مع الصحفي المعروف حفيظ دراجي والمدير السابق للتلفزيون حمراوي حبيب شوقي، والهدف هو إعادتهما إلى الجزائر لتحريك المياه الراكدة وضخّ الدماء في شرايين التلفزيون الرسمي عساه يصمد في أتون المعركة القادمة.
ومع كامل الاحترام لزملاء المهنة أينما حلّوا وارتحلوا، فإن المشكلة ليست في غيابهم والحل أيضا ليس في عودتهم، وقد قال حفيظ دراجي كلاما في هذا المعنى نشرته جريدة وطنية: (لا يهم حفيظ دراجي ولا طبيعة الأشخاص والمؤسسات التي ستخوض التجربة الإعلامية الجديدة لأن الجزائر غنيّة بالكفاءات والمهارات، ولا يُشترط سوى المناخ الاجتماعي والإعلامي النقيّ والنزيه لإعطاء الشعب الجزائري ما يحتاجه وإعطاء الدولة الجزائرية المكانة التي تستحقها).
نعم إنه فقدان المناخ المناسب ذلك العامل الحاسم الذي قيّد الطاقات الكامنة ودفعها نحو الهجرة والسعي لإثبات الذات في الشرق أو الغرب، وهناك كان الظهور والتألق والإبداع والإحساس بالتطور المستمر لا الجمود في المكان ذاته سنين عددا.
شاب طموح كان ضمن طاقم إذاعة جهوية ثم انتقل إلى الإذاعة الوطنية.. حضر يوما مؤتمرا صحفيا لوزير بارز، وهناك وسوس له (شيطان الصحافة) فتفوّه بسؤال جريء، فماذا كانت النتيجة؟.. لقد اتصلت الوزارة بالإذاعة للاستفسار عن هذا الصحفي ومن أعطاه الحق بذلك السؤال.. أين هو ذلك الصحفي الآن؟ إنه في دولة خليجية يتألق على الشاشة يوما بعد آخر.
صحفي آخر، في ريعان الشباب وقمّة الحماسة والعطاء، اختلف مرّة مع إدارة التلفزيون ففُصل عدة أشهر ذاق خلالها طعم البطالة والجري في شوارع العاصمة للتوسط عبر فلان وعلاّن.. ثم عاد.. لكنه غادر عندما لاحت له أول فرصة في الخارج، وهو الآن مذيع لامع في فضائية ناطقة بالعربية.
مثالان عاديان لمن يعرف كواليس الإعلام الرسمي في بلادنا، لكنّ فيهما ما يكفي للتأكيد على ضرورة التكاتف لصنع ذلك المناخ المناسب للتميّز والإبداع، لأن في بلادنا طاقات كثيرة وكبيرة، فهناك شباب وشابات من الجهات الأربع للوطن، ومن المتحدّثين بالعربية والأمازيغية (والشاوية والتارغية) والفرنسية وحتى الإنجليزية، ومن أصحاب البشرة البيضاء والسمراء على حدّ سواء.
إن التلفزيون الجزائري في حاجة ماسّة إلى إعادة هيكلة تضمن له إدارة مسؤولة وواعية وحكيمة، وتوفّر للصحفيين نظام عمل، تحفيزات ومكافآت ورواتب، عادل ومناسب.. إعادة هيكلة كاملة تجعل كلّ شيء فوق الطاولة وتعيد الاعتبار للكفاءة والنزاهة كشرطين أساسيين ووحيدين للاستمرار في العمل، فتختفي تلقائيا تلك التوصيات القادمة من مكتب هذا المسؤول أو ذاك.. ويومها سوف يعرف كلّ صحفي حجمه.. فيجتهد ويبدع.. أو يبحث عن مكان آخر يحصّل منه راتبه، فالرزق على الله، ومؤسسة التلفزيون ليست جمعية خيرية.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)