الجزائر

الترّدي الاقتصادي أحد المحرّكات الفاعلة للاحتجاجات التي تهزّ العالم



التذمر الشعبي يغيب حيث النجاعة السياسية والأوضاع المعيشية الجيّدةلطالما شكّلت الأوضاع الاقتصادية أحد أبرز العوامل التي تدفع بالشعوب للانتفاض ضد حكوماتها مطالبة بالتغيير في الأنظمة والسياسات، ولعل التداخل الكبير بين الشقين الاقتصادي والسياسي يؤكد على أنه لا إقلاع اقتصادي دون توّفر بيئة سياسية مستقرة والعكس الصحيح، هذا ما ستتطرق له «الشعب» من خلال هذا الحوار مع السيد عربي بومدين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة “حسيبة بن بوعلي”، بولاية الشلف.
- «الشعب»: إذا كانت جلّ الاحتجاجات التي تجتاح العالم تحرّكها عوامل سياسية (التغيير، الديمقراطية، التداول على السلطة)، فهي أيضا مدفوعة بأسباب اقتصادية ومطالب معيشية، كيف تقرأون الدافع الاقتصادي في المظاهرات التي تهز أكثر من دولة؟
الأستاذ عربي بومدين: بطبيعة الحال، العامل الاقتصادي يعد أبرز العوامل التي تدفع للاحتجاج، ذلك أن غالبية الاحتجاجات التي اندلعت في العالم كإيران، ولبنان، والسودان، والعراق، وفرنسا، وإسبانيا، والشيلي، والإكوادور مؤخرا تحركها بصفة أساسية عوامل اقتصادية تتمثل في عدم المساواة الاجتماعية، وزيادة الضرائب وغلاء المعيشة وضعف القدرة الشرائية، وأحيانا مثلت عوامل مثل زيادة أسعار البنزين، والزيادة في أسعار النقل والمواصلات، وارتفاع أسعار الخبز إلى اندلاع شرارة الاحتجاجات، فعلى سبيل المثال بدأت المظاهرات في الإكوادور، شهر أكتوبر الفارط، عندما أعلنت الحكومة إلغاء دعم الوقود، الذي استمر على مدى عقود، في خطوة تهدف إلى تخفيض النفقات، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وفي تشيلي أفضى الارتفاع في أسعار المواصلات إلى خروج احتجاجات، وأخيرا فإنّ محرك الفعل الاحتجاجي في السودان، كان ذا طبيعة مطلبية أساسها اقتصادي، بالعمل على تحسين الظروف المعيشية والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، بسبب الغلاء الفاحش. وكان قرار الحكومة بزيادة أسعار الخبز في ولايات السودان، حيث وصل إلى ثلاثة جنيهات في ولاية البحر الأحمر والولايات المجاورة، و2.5 جنيه في مدينة نيالا، بولاية جنوب دارفور، النقطة التي أفاضت الكأس وأدّت إلى بداية الاحتجاجات في 19 ديسمبر 2019.
- هناك من يعتقد بأن الأوضاع الاقتصادية المتردّية تكون أكثر تأثيرا على الشعوب، وهي التي تدفعها إلى الشوارع وليس نقمتها على أنظمتها الحاكمة بدليل أن شعوبا كثيرة تحكمها حكومات فاسدة أوعاجزة، لكنها لا تنتفض، لأن أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية جيّدة، ما قولكم؟
صحيح أن العامل الاقتصادي في فعل الاحتجاج قد يكون المتغير الرئيس كما أشرت لك، ولكن دعيني أختلف مع هذا الطرح، فعندما تكون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية جيدة يعني ذلك أن هناك جودة سياسية، وسلطة سياسية لديها مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي هدفه في الأساس تلبية حاجات المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية. سأعطي مثالا واضحا لماذا لا نرى احتجاجات في النرويج، والسويد، وفنلندا، باختصار هناك جو سياسي يكفل الحريات السياسية، ومعطى اقتصادي يجعل الرعاية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية أولى الأولويات لدى الحكومات في هذه الدول. لماذا تغيب الاحتجاجات في الصين لدواعي اقتصادية على الرغم من أنّ هناك نسبة فقر لا بأس بها، حيث تتعدى أكثر من 70 مليون فقير، الإجابة صريحة هناك نظام سياسي شمولي مغلق وهندسة سياسية واجتماعية صارمة وعلى صعيد آخر قد تجتمع العديد من العوامل: سياسية أواقتصادية في فعل الاحتجاج، وقد يكون السبب بحسب المرحلة، فالاحتجاجات في الجزائر في سنة 2011 كانت ذات طبيعة اقتصادية، واحتجاجات 22 فيفري 2019 كانت ذات بعد سياسي تمثل في رفض ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة. باختصار إنّ محرك الفعل الاحتجاجي ينصرف إلى عدة عوامل، وهي بالتأكيد عوامل متشابكة ومترابطة ومتداخلة، يصعب وضع حدود فاصلة بينها، والأكثر من ذلك هناك احتجاجات سببها تغيرات المناخ والدفاع عن البيئة، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا والنمسا، وفرنسا، ونيوزيلاندا.
محرك الفعل الاحتجاجي ينصرف إلى عدة عوامل مترابطة
- لا شك أن تدهور الوضع الاقتصادي لأي دولة - خاصة إذا كانت ذات ثروات ومصادر دخل – ليس قدرا محتوما، بل له أسبابه، فأين تكمن هذه الأسباب؟
لو لاحظت معي أن جل وأغلبية الاحتجاجات التي تحدث في العالم، تحوز منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على النصيب الأكبر منها، على الرغم من أن هذه الدول تمتلك إمكانيات اقتصادية كبيرة، وثروات باطنية هائلة.
الحقيقة أن فرص النهوض الاقتصادي والإقلاع الحضاري لهذه الدول كبيرة، ولكن هناك الكثير من العوامل الداخلية والخارجية تحول دون ذلك، وتبقي الأوضاع الاقتصادية مترّدية. أولا، البيئة السياسية وطبيعة النظم السياسة القائمة على الشرعية التاريخية، وليس على شرعية الإنجاز في عدم وجود مشاريع اقتصادية بديلة عن الثروات الباطنية. ثانيا، الصراع على السلطة واحتكار الثروة في يد الأقلية، التوزيع غير العادل للثروة، وأخيرا وليس آخرا انتشار الفساد، بحيث أصبح الفساد آلية للاستمرار في الحكم من خلال العمل على تعميمه أفقيا وعموديا، وفي جانب آخر فإنّ العامل الخارجي بحكم استغلاله لثروات هذه الدول ساهم بشكل أوآخر في إفقار هذه الدول من خلال برامج الإصلاح الاقتصادي، والمشروطية الاقتصادية التي هدفها إبقاء هذه الدول تابعة، وتسبح في فلك المنظومة الاقتصادية العالمية المتوّحشة.
إن إصلاح البيت الداخلي خطوة أساسية نحو تعزيز المكانة الاقتصادية لهذه الدول، غير ذلك فإن عدم الاستقرار، والعنف الداخلي نتائج لأسباب تراكمت بفعل الزمن.
تعفّن البيئة السياسية يدمّر الاقتصاد
- مطالب المحتجين في كل مكان تتحدد أساسا في ثنائية (التغيير السياسي والإصلاح والنهوض الاقتصادي) وفي حين نسجل تقدما في تحقيق المطلب الأول حيث يستقيل رؤساء وتسقط حكومات، فإن المعضلة الاقتصادية تبقى مطروحة ونرى دولا تتعثر في الانطلاقة الاقتصادية وبعضها يقع مرغما تحت سندان المديونية الخارجية، كيف يمكن تجاوز هذه المعضلة وتحقيق الاستقرار؟
إن الفكرة المطروحة صحيحة إلى حد كبير، فسقوط نظام مبارك في مصر، ونظام زين العابدين بن علي في تونس لم يغير الكثير، فبعد وقت قصير، تم طرح المسألة الاقتصادية بإلحاح.
لقد تردى الوضع الاقتصادي بكثير مما كان عليه من قبل، ففي تونس على سبيل المثال ارتفع معدل البطالة إلى 15.3 بالمائة في عام 2015 مقارنة مع 12 بالمائة في 2010، وعلى الرغم من حالة الاستقرار النسبي في تونس مع الجو الديمقراطي السائد ووصول الأستاذ الجامعي قيس سعيد إلى الرئاسة، إلاّ أن التحدي الاقتصادي وتزايد المديونية الخارجية ستكون أبرز التحديات التي ستواجهه. لذلك فإن تجاوز هذه المعضلة ينطلق أساسا من تنظيف الجو السياسي، والسماح بإقامة نظام ديمقراطي تتنافس فيه المشاريع السياسية، فضلا عن البناء الاجتماعي القاعدي الذي يستهدف بناء الإنسان، وبناء المنظومة القانونية والأخلاقية القيمية للحد من الفساد.
المقاربة القانونية لا تكفي وحدها لمحاربة الفساد
- لا شك أن الفساد هومصدر البلاء في هذا العصر، ولا تكاد دولة تسلم من الوقوع في فخه، كيف ينخر هذا السرطان اقتصاديات الدول، ما الأسباب في تفشيه بهذا الشكل وكيف السبيل لمواجهته، وهل بالإمكان ذلك؟
إنّ الفساد بطبيعة الحال يقابله الإصلاح، ولعلّ فشل الإصلاح في كثير من الدول، ومن بينها الدول العربية، أوالدول التي شهدت احتجاجات شعبية في السنوات القليلة الماضية، مرّده إلى تفشي الفساد بنسب كبيرة، سواء كان هذا الفساد سياسيا أواقتصاديا، صغيرا أوكبيرا.
لقد أوضح تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 الذي يبين مؤشر مدركات الفساد وقوع الدول العربية التي شهدت احتجاجات في السنوات الماضية في ذيل الترتيب واحتلت مراتب متأخرة.
إنّ الفساد يرتبط بشكل كبير بمنظومة الحكم الفاسد وغياب الحكم الراشد، فضلا عن انعدام الرقابة والمساءلة، وسوء الإدارة وغياب الشفافية، في مقابل ذلك، إنّ معالجة الفساد والحدّ منه يجب أن لا يقتصر على المقاربة القانونية، فلا شك أن الأمر يحتاج مقاربة شاملة تنطلق من عديد المحاور أبرزها:
- التربية على المواطنة والعمل التحسيسي القاعدي (الآلية الاستباقية).
- تفعيل الاتصال الأمني، واستحداث منظومة وطنية لمكافحة جرائم الفساد.
- ترقية الإدارة الإلكترونية، والعمل على تعميمها في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدماتية والإدارية.
- إصلاح قطاع العدالة، وتجسيد استقلالية القضاء الحقيقية البعيدة عن الشعارات.
الحرّية الاقتصادية مرتبطة بالحرّية السياسية
- الحكمة تقول: «لا استقرار سياسي بدون وضع اقتصادي سليم ولا نهوض اقتصادي بدون وضع سياسي مستقر»، ما تعليقكم؟
إنّ الحرية الاقتصادية مرتبطة بالحرية السياسية، وإن النمو الاقتصادي ممكن في ظل الأنظمة الاستبدادية على المدى القصير، إلا أنه لن يكون ممكنا على المدى البعيد إلا في ظل نظام سياسي قائم على سيادة القانون وحماية الحريات المدنية والسياسية. ويمكن تحقيق ذلك فقط مع وجود مؤسسات سياسية واقتصادية قوية وقادرة على وضع قوانين وإصلاحات جذرية تستهدف تحسين عملية النمو والأداء السليم للسياسات الاقتصادية. تفيد نتائج الكثير من الدراسات بوجود علاقة سلبية بين عدم الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، وفيما يلي مجموعة من الآثار الاقتصادية لظاهرة عدم الاستقرار السياسي، والتي تؤثر سلبا على التنمية الاقتصادية، وهي: تعطيل أنشطة السوق وعلاقات العمل، تراجع الاستثمار الأجنبي وهروب رؤوس الأموال، ارتفاع معدلات البطالة وزيادة التضخم وغيرها، ولهذا تتجه مختلف التحليلات حول العلاقة بين الاستقرار السياسي والأداء الاقتصادي إلى التأكيد على ضرورة وجود حكومة مستقرة كشرط أولي مسبق وضروري لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)