الجزائر

إدوارد سعيد والفلسفة (2)



بداية، سحب الصندوق القومي للإنسانيات دعمه المالي لبث هذه الحصة الوثائقية، رغم أن السلسلة بثت على قناة ال«بي بي سي" على أي حال. ثم إن ال نيويورك تايمز، وهي الصحيفة العمومية الأولى، نشرت مقالات متوالية تهاجم السلسلة.. وأنه (الحديث موجه لمزروعي) يمارس الإقصاءات والتأكيدات العقائدية.. وأنه يبالغ مبالغة ضخمة في تصوير شرور الاستعمار الغربي.. فها هو ذا، في نهاية المطاف، شخص أفريقي على شاشة التلفاز الغربي، في فترة البث الرئيسية، يتجرأ على اتهام الغرب بما كان قد فعله معيدًا فتح ملف كان قد اعتبر مغلقا. ثم إن كون مزروعي قال أيضًا كلاما حميدًا عن الإسلام، وأظهر تمكنه من المنهج التاريخي الغربي والبلاغيات السياسية الغربية، وكونه، بإيجاز، وقد ظهر نموذجا مقنعا لكائن إنساني حقيقي - كل هذه الأمور جرت مجرى معاكسا للعقائدية والإمبريالية.مؤدى ذلك أن الخطاب - وفق رؤية فوكو - يستحوذ على الفضاء الثقافي، ولا يترك أي مجال لإحداث خلخلة فيه، وأي مقاومة يجب أن تتماشى مع السلطة المساوقة لها، فحيث تقوم السلطة، تكون المقاومة. ومع ذلك، أو على الأصح، بسبب ذلك، فإن هذه المقاومة لا تقوم خارج السلطة. ومهما تنوّعت صور المقاومة، فإنها عند فوكو مجرد ردّ فعل وصدى على السلطة وعلى علائق القوة المنتشرة فيها بعيدا عن الفرد والجماعة والدولة، وهي في الأصل أي هذه المقاومة التي أتكلم عنها ليست جوهرًا، وهي ليست سابقة على السلطة التي تواجهها، إنها مساوية لها في الامتداد ومعاصرة لها طبعا. فمعاني الثورة والتمرد والاعتراض وكسر فكرة التمثيل الغربي، طرائق تعبيرية مرفوضة ومنبوذة من الخطاب الغربي الذي يحوز مرجعية إمبريالية متعالية ومسبقة موجودة بصورة ثاوية كتيمة معرفية قارة في النموذج الغربي، ومنه يغدو: مفهوم فوكو للسلطة كونها شيئًا يعمل في كل مستوى اجتماعي، لا يفسح مجالا للمقاومة.
على هذا المستوى من النقاش الإدواردي مع منجزات فوكو المعرفية، حرص سعيد على التحرّر قدر الإمكان من سلطة فوكو المعرفية، حتى لا يخضع هو بدوره لخطاب فوكوي يهيمن على تخمينه في مسائل الاستشراق والثقافة والسلطة والمقاومة؛ فقد قطع نصف المشوار الفكري . معه، واعتبر ذلك. من منظور إدواردي - لازمة معرفية تسعفه في فهم هذا الخطاب المركب والثابت، غير أن هذا التمشي غير المكتمل الذي قام به ادوارد سعيد مع فوكو يصنف مثلا عند الباحث الهندي بهابها بأنه ذرائعي جدا في استخدامه لمفهوم فوكو للخطاب.
لكن هذه الذرائعية التي وصف بها "بهابها" استراتيجية سعيد في التعامل مع المنجز الفوكوي للخطاب ومدى مساهمته في كشف منطق الاستشراق الخفي والسافر وتعريته، لا تنقص البتة من قيمة سعيد المعرفية في استثمار ما هو فلسفي في مجال النقد الثقافي، أو في الاتكاء عليه بغية مساءلة النص الغربي واستنطاقه لإخراج مخفياته، وإنما كان تقنية فلسفية عالية الدربة اجتهد سعيد فيها من أجل التمكّن من الاستشراق كخطاب، والتعامل معه على هذا الأساس، وكل مناقشة له خارج هذا الإطار تعدّ وفق منظرونا المتواضع مناقشة في غير موضعها وهي مقاربة طريفة في سحب الاستشراق من مجال القطاعات النصية أو الحقول الدراسية إلى فضاء الخطاب الذي يتحكّم في النص، فما تسعى إليه من تناولها لنصوص ليس وضع قائمة بأسماء القديسين المؤسسين، بل بإبراز انتظام ممارسة خطابية ما، إلى واضحة النهار، ممارسة تفعل فعلها، بذات النمط في اللاحقين الذين هم أقل أصالة، أو في أولئك وهؤلاء من الذين سبقوهم، ممارسة لا تشير إلى حضور قضايا في آثارهم هي غاية في الأصالة فقط، بل وأيضًا إلى تلك التي رددوها أو نقلوها عن السابقين عليهم.
لجأ سعيد إلى هذا الإجراء تجنبا لأي انحراف عن المقصد الأصلي - كي يبقى حريصًا على استقلاله الفكري في ظل موجة طاغية من التبعية للتفكير الغربي، سواء على مستوى براديغم الذات أو براديغم اللغة وأفقها التأويلي.
نبحث الآن عن النقطة التي حدثت فيها القطيعة بين سعيد وفوكو، أو ما يمكن اعتباره منعطفا في التفكير الإدواردي، بالنظر إلى مسعى سعيد في التحاور مع المنجز الفوكوي من باب الأخذ والاستيعاب ثم من جهة التجاوز، وهي ممارسة خطيرة من جهة أنها تستثمر في مفاهيم مشبعة برؤية فلسفية ومعرفية قوية تبلورت في محضن فكري خاص لكن على الرغم من هذه المخاطرة، كان إدوارد سعيد محاورا تجاوزيًا بامتياز، تبدّى ذلك في أن منهجية فوكو في تحليل علاقات القوة والمعرفة، تعمل على فضح صيغ التوليتارية وأنظمة الاستبداد أشكال عملها في الفكر والمؤسسات، لكن ذلك لا يقود إلى أي مقاومة ولا يحفز على وضع برنامج عمل. هذا هو الفرق الحاسم بين تفكير فوكو وإدوارد سعيد الذي يشدّ على مفهوم المقاومة وعلاقة النصوص بشروطها المكانية والزمانية، فالشيء الذي جعل من سعيد محاورًا تجاوزيًا لفوكو هو رغبته في الكشف عن الإخفاق السياسي الذي لحق بمختلف الفلسفات الغربية، حيث يقول: إن جميع الطاقات الحيوية التي صُبت في النظرية النقدية، في جميع ممارسات نظرية جديدة مبتكرة تُعرّي الأشياء من السرية التي تلفعها، من مثل التاريخانية الجديدة والتقويضية والماركسية، وقد تحاشت الأفق السياسي الرئيسي، بل أود أن أقول: المحتم المشكل، للثقافة الغربية الحديثة، وهو الإمبريالية.
من داخل الخطاب الاستشراقي، يناضل سعيد على صعد متعدّدة من أجل تكريس مفهوم المقاومة ليس بحسبانها مجرد رد فعل على السلطة المنتشرة في فضاءات المجتمع ومؤسسات الدولة وخطابات النصوص الفكرية، وإنما هي أيضًا نهج فكري واجتماعي بديل لخطاب الاستشراق، فقد تأتي فكرة أن المقاومة بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرّد ردّة فعل على الإمبريالية فهي نهج بديل في تصور التاريخ البشري. وأنه لذو أهمية خاصة أن نرى إلى أي مدى يقوم هذا النهج البديل في إعادة التصور على تحطيم الحواجز (القائمة) بين الثقافات. ومن المؤكد أن الكتابة ردا writing back كما يعبر عنوان کتاب فاتن على الثقافات الحواضرية، وتخريب السرديات الأوروبية عن الشرق وأفريقيا، واستبدالها بأسلوب سردي جديد أكثر لعبًا وأشد قوة تشكل مكونا رئيسيا في هذه العملية.
إن ما يلحظه إدوارد سعيد على الفلسفة البنيوية بصورة خاصة هو انتفاء بعد المقاومة في متنها الفكري؛ ففوكو مثلا يحتفظ لنفسه ب اما هو سياسي بإصراره على السلطة، لكنه يحرم نفسه من السياسة لأنه لا فكرة لديه حول علاقات القوة ودون التفكير في علاقات القوة يصعب التفكير حول المقاومة بأية صورة منظمة)، وما يصدق على البنيوية يصدق على أغلب التوجهات الفلسفية الغربية، لأنها لم تتحدّث عن فكرة المقاومة خارج الفضاء الغربي، والتزمت الصمت المريب حول هذه المسألة، ف: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، بالرغم من تبصراتها النفاذة المخصبة في العلاقات بين السيطرة والمجتمع الحديث والفرص المتاحة للخلاص عبر الفن من حيث هو تنقيد، صامتة صمتاً مذهلا عن النظرية العرقية. والمقاومة ضد الإمبريالية والممارسة الضدية في الإمبريالية، ولكي لا يؤول ذلك الصمت كسهو غير مقصود. فها هو ذا المنظر الرئيسي لمدرسة فرانكفورت اليوم، يورغن هابرماس، يوضح في مقابلة أن الصمت امتناع مقصود كلا يقول هابرماس، ليس لدينا ما نقوله لا الصراعات ضد الإمبريالية وضد الرأسمالية في العالم الثالث.
من هنا، كان نص إدوارد سعيد للاستشراق نصًا نقديًا، من جهة أن أغلب مثقفي الغرب، وخصوصا في مجال العلوم الإنسانية، يعجزون عن الربط بين وجهي، الحداثة وجهها المشرق، من شعر وفلسفة ورواية، وجهها المظلم، مثل الرّق والاضطهاد والاستعمار (33)، وكان مقاوما من ناحية أن هذا المنجز ينخرط في مسار الدفاع عن رؤية تتمسك بأفق المقاومة، ليس عن ذات شرقية فحسب، بل أيضًا عن ذات غربية ما زالت حتى اللحظة حبيسة منظورية مشبعة بأفق إمبريالي؛ فإخفاق الاستشراق هو، في حدّ ذاته، إنساني وليس معرفيا، نظرًا إلى عقابليه الكارثية المتمثلة في الاستعمار والمركزية الغربية والرق والاستعباد والاستغلال وتأسيس الحقيقة على التحدّي هو موقف إتيقي وليس إجراء برهانيا. إنه موقف حيوي متعمد وليس واجبًا مهنيا. لذلك، فإن اختيار.. سعيد لعبارة التحدي لم يكن صدفة بل انبثق عن تصور فلسفي محدّد للأثر النظري أو النقدي بوصفه موقفاً حيويا.
ربَّ نص يقودنا إلى تشريع ضرب جديد من ضروب التاريخ المبني على المقاومة، والانعتاق من حديث فلسفي غربي تيمته الأساسية هي الموت) أو (النهاية)، موت الإله، موت المؤلف، موت الإنسان، نهاية الميتافيزيقا نهاية النسق نهاية الفلسفة، نهاية الأيديولوجيا، تشفّي الذات، عدمية المعنى. فإذا كان التاريخ وفق المنظور الغربي، في أغلبه، يبشر بنهاية السرديات الكبرى للتحرير والتنوير، فإن التاريخ الشرقي أو العربي لم يبدأ بعد مسيرته في التنوير والتحديث، والتنظير لفكرة المستقبل بعيدا عن فضاء إمبريالي مهيمن، والانطلاق في البحث عن حداثة أصيلة ومتأهبة لغد جديد.
يمكن أن نرصد خطاب الفشل في عبارات جان فرانسوا ليوتار وميشيل فوكو، بحيث نجد عند كل منهما التعبير المجازي ذاته المستخدم لشرح الخيبة بسياسيات التحرير، فالسرد، الذي يفترض نقطة بداية عاضدة وهدفًا مسوغا، لم يعد كافيًا لرسم المسار الإنساني في المجتمع. وليس ثمّة ما يتطلّع إليه (بلهفة المستقبل): بل نحن عاقون ملتصقون ضمن دائرتنا، والخط الآن مطوّق بدائرة. وبعد سنوات من الدعم ضد الاستعمار في الجزائر وكوبا وفيتنام وفلسطين وإيران الذي كان قد أصبح يمثل بالنسبة إلى كثير من المفكرين الغربيين انخراطهم الأعمق في سياسات وفلسفة فكفكة الاستعمار المناهضة للإمبريالية، انتهى المطاف إلى لحظة من الإرهاق والخيبة.
بناء عليه، يكون إدوارد سعيد من القلائل الذين تفطنوا قبل الأوان إلى الخسارة التي لحقت بالبنيوية في المجال السياسي، وما تعرضت له من محاسبة على مستوى إغفالها للقضايا السياسية التي أبعدتها عن أفق النقاش، وهذا ما دفعه إلى وضعها تحت طائلة النقد الدنيوي الذي يُرجع فيه النصوص إلى ظروفها الاجتماعية والتاريخية.
هذا على مستوى الجدل مع المنجز الفوكوي والمقدرة على تجاوزه من خلال الانهمام بفكرة المقاومة، التي حفزته معرفيًا على البدء في محاورة التيار التفكيكي الذي غدا - مع تزايد العداء لكل ما هو بنيوي ونسقي - نزعة فلسفية مهيمنة على الفكر الفلسفي الغربي بدءًا من نهاية الستينيات، حينما أصدر جاك دريدا في سنة 1967 كتبه الثلاثة في علم الكتابة والصوت والظاهرة والكتابة والاختلاف المح إدوارد سعيد في التفكيكية أنها دخلت في حرب صريحة مع المشروع البنيوي، بغية تفكيك البنى المختلفة التي ما زالت تحوي ترسبات ميتافيزيقية وعلة ذلك أن البنيوية ما زالت تحتكّم في مفهومها للعلامة اللسانية أو اللغوية إلى ثنائية قارة في الفلسفة الغربية، وهي أن التعارض الذي أحدثته الرواقية بين الدال والمدلول، دون أن نردّه إلى كل الجذور الميتافيزيقية اللاهوتية. ويرتبط بهذه الجذور التمييز بين المحسوس والمعقول على أهمية ما يتضمنه، وهو الميتافيزيقا في مجملها. وهذا التمييز مقبول عامة كأمر بديهي لدى علماء اللغة وعلماء السيميولوجيا الحصيفين، ومنه دشنت التفكيكية استراتيجيا جديدة تنهض على تفكيك البنية، خصوصًا بنية اللغة التي تدور حول مركزية الصوت باعتباره مظهرًا أساسيًا لفكرة الحضور، ولا تكترث على الإطلاق بالكتابة، فكل شيء موجود في اللغة، وحتى مقولات الكينونة أو الوجود مستمدة من بنية اللغة. كما أشار بنفيست إلى أن مقولات الميتافيزيقا الأرسطية مستمدة من بنية اللغة اليونانية. وكل شيء موجود داخل نص يحتوي على دال يكون في ارتباط لساني مع دال آخر، أما المدلول فهو عند دريدا دوما مؤجل، وفي وضع الإرجاء الأبدي.
الحلقة الثانية


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)