الجزائر

أمريكان خائفون من الخوض في السياسة!


أمريكان خائفون من الخوض في السياسة!
بقلم: مالك التريكي*مشهدان يختزلان غرابة أعقاب هذا الزمان الذي يظل فيه اللبيب حيرانا. الأول يجري في إحدى ولايات الغرب الأوسط الأمريكي. يجوب مراسل راديو بي بي سي الشوارع سائلا الناس عن مواقفهم من مسلك رئيسهم الجديد ومن قراراته الأولى فلا يقدم أي منهم إلا إجابات مفرطة في العمومية وفي التنصل من الموضوع المفهوم ضمنا أي موضوع شذوذ المسلك وسماجة القرارات. إجابات من جنس لقد انتخبه الشعب و ذلك ما أعلنه في الحملة: أمريكا أوّلا و الإعلام لا يعرض الأمور على حقيقتها . أما التتويج فقد تمثل في امتناع امرأة عن الرد إلا بأن قالت ما معناه إن من الأفضل إيكال الأمر (السياسي) لصاحب الأمر. فلم يتمالك الصحافي نفسه أن يعلق مشدوها: ذلك لعمري من جنس الأجوبة التي ما كنت لأسمعها إلا في دول الاستبداد حيث يخاف المواطنون الحكومة ويتجنبون الخوض في السياسة!هذا المشهد الدال على بدء سريان حالة (وربما ثقافة) الخوف في أمريكا إنما يؤكد صحة ما سبق أن أشرنا إليه هنا منذ سنوات: وهو أن من الحكام في الدول الغربية من هو ليس بديمقراطي بالمرة.ذلك أن فيهم من ذميم الصفات ما يجعلهم طغاة نموذجيين ولكن ما يمنع الواحد منهم من تحقيق ذاته الاستبدادية رغم أنها توشك أو تكاد هو أن حظهم العاثر قد رمى بهم بمحض صدفة الميلاد في بلاد تحتكم لسلطة العدالة وتأخذ السياسي المؤتمن على إدارة الشأن العام حتى حين بضوابط التداول وصوارم المراقبة والمحاسبة . وإذا كان سيلفيو برلوسكوني ونيكولا ساركوزي وديك تشيني (منشىء جناح الاغتيالات السرية وصاحب معجزة التعذيب التي يتم التغنّي بها علنا الآن في البيت الأبيض) هم أبرز الأمثلة التي كانت ماثلة للعيان آنذاك على هذا النموذج الغربي الشاذ من المستبدين الصاعدين الواعدين الذين أضاعتهم الديمقراطية وأي طغاة أضاعت! فإن بطل هذا النوع من الحكم العضوض اليوم إنما هو أبو جهل الأمريكي المعروف باسم ترامب.هكذا صار ترامب الزعيم الفعلي عن جدارة لما سماه بيار هاسنر منذ عقدين بأنظمة الحكم الديمقرا تورية . صحيح أن هذا التوصيف ينطبق على أنظمة الحكم التلفيقي القاتلة للحريات والحريصة مع ذلك على تنظيم الانتخابات(المضمونة النتائج طبعا) مثل الأنظمة السائدة الآن في روسيا والمجر وبولندا والصين والفلبين. ولكن النظام الأمريكي الحالي هو الأجدر بشرف هذه المفارقة الديمقراتورية: لأن تاريخ أمريكا في العدالة والحريات أعرق ولكن نطق رئيسها الجديد بلسان الاستبداد أصدق!المشهد الثاني حصل الثلاثاء في مجلس العموم بمناسبة المداولات التي سبقت التصويت على تخويل الحكومة البريطانية البدء بتحريك قضية الطلاق ضد الاتحاد الأوروبي. وخلفية المشهد أن جميع البرلمانيين من حزب المحافظين الحاكم سواء منهم من كان أثناء حملة الاستفتاء مؤيدا للبقاء في الاتحاد أم مناهضا قد التزموا موقف الحكومة. بل إن قيادة حزب العمال المعارض دعت برلمانييها إلى التزام الموقف ذاته على أساس وجوب احترام القرار الشعبي (ولكن كثيرا منهم رفضوا كما أن بعض أعضاء حكومة الظل استقالوا). في قلب هذا الإجماع الحزبي لدى المحافظين المعزز بتأكّد نتيجة التصويت سلفا قام كنيث كلارك في المجلس خطيبا فأبدع وأمتع. وكنث كلارك سياسي مخضرم تقلب في عدة مناصب وزارية في الثمانينيات والتسعينيات. وهو من أصلاء المحافظين الكلاسيكيين فضلا عن أنه الوحيد الثابت منذ عقود على أوروبيّته في وجه الكراهية المرضيّة التي يكنّها معظم المحافظين للاتحاد الأوروبي.أبدع كنيث كلارك وأمتع. بل إنه عندي قد أفهم أيضا وأقنع. حيث قال إن قرار هجر الاتحاد هو أشد القرارات ضررا بالمصلحة الوطنية لأن بريطانيا طالما استفادت من أوروبا أيّما استفادة على صعيدي التحديث الاقتصادي داخليا والنفوذ السياسي عالميا. ولكن من عجائب أعقاب هذا الزمان أن مسألة الاتحاد الأوروبي في بريطانيا ليست مسألة حوار وحجاج وإقناع بل إنها قضية ايديولوجية. مزقت حزب المحافظين تمزيقا وراح ضحيتها من رؤساء الحكومات اثنان نابهان جون ميجور وديفيد كامرون.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)