الجزائر

ألجي... ألجيري (31)



ألجي... ألجيري (31)
قارة علي تغيرت ملامحه كثيرا، قال لي إنه توقف عن التدخين لكنه لم يتوقف عن الشرب، رغم أنه قام بثلاث عمرات.. ثلاث عمرات بكاملها ولازلت تشرب؟! ضحك وعلّق.. سأتوقف عن الشرب عندما أحج. وجه عميق، نظرات مكسوة بالصمت واللغة السرية التي تمنح الوجه دلالة يصعب تحديدها أو القبض على جوهرها..كان يرتدي بدلة زرقاء غامقة ويبدو في كامل أناقته الهادئة والوقورة، حتى صوته كان خافتا بشكل طبيعي وعفوي، ويعكس هذا الخفوت في الصوت طبيعته وليس ناتجا عن عادة جديدة اكتسبها من سنواته الطويلة في الدبلوماسية. فقط يجب الإشارة إلى ظاهرة عينيه.. إنهما يتحولان بشكل عجيب من اللون البني إلى الأخضر إلى الأزرق إلى الأسود إلى المزيج العجيب، وكانت ظاهرة عينيه مصدر إعجاب النساء به وافتتانهم به يوم كان شابا، لكنه حتى في هذا العمر المتقدم لازال يحتفظ بتعلق النساء الجميلات به. لم أكن أعرف أن لقارة علي علاقة بمريم العباسية، وحتى هي لم تذكر لي شيئا عن قارة، بل لم نستعيده نحن الاثنان عندما كنا نتكلم عن أولاد المدينة.. وبدا التساؤل معلقا علي وجهي، فهل لهذا السبب راح الكاتب محمد أمير يحدثني عن الصداقة التي جمعت بين مريم العباسية وقارة علي؟! كان قارة علي متدثرا بصمت شامخ يشبه الخشوع ونحن نقف مثل السرب التائه داخل المقبرة العامرة بالأصوات، مدينة ضخمة تضج بالأموات، منذ زمن طويل وهم يأتون بالموتى إلى المقبرة، كل يوم، كل يوم يأتون بالموتى إلى المقبرة، وسيدي بلعباس الولي المهاجر، الذي تحول في لحظة من اللحظات إلى حمامة بيضاء متعلقة بغصن في شجرة أو هكذا تقول على الأقل أسطورة التأسيس يوم سميت المدينة باسمه.. هو دائما هنا، يختبئ تحت القبة البيضاء، تحت القبة الخضراء، تحت الراية الخضراء، تحت الراية البيضاء، داخل الضريح لكنه يرى، يرى بعينيه الحارستين كل هولاء الموتى، وكل هؤلاء الأحياء الذين يأتون ليلقون النظرة الأخيرة على من كانوا بالأمس القريب فقط أحياء، وهاهم تحولوا إلى موتى، لم يعودوا كما كانوا.. هم الآن في عداد الأمة الأخرى، أمة الأموات الذين يتراصون بهذا الشكل المهيب وتحت هذه الأنظار الخائفة، الحزينة المهيبة.. كان يبدو علي قارة شامخا، تماما مثل الشجرة الوحيدة التي يقف خلفها أو تقف خلفه.. أقف إلى جانب الكاتب محمد أمير، صاحب العينين الكليلتين، فوق هضبة صغيرة تكاد تكون مدكوكة بالأرض المحاطة بالأعشاب الشائكة وأشجار الصنوبر، وطبعا فوق الأشجار كانت الطيور تزقزق والحمائم تتحرك [هل كانت فرحة بقدوم مريم العباسية، بقدوم منصورة أخيرا إلى تربتها الأصلية، تربتها البلعباسية، تربة الأسلاف والأجداد والآباء؟!]، هناك كان أشخاص لم أتمكن من التعرف عليهم، كنت أبدو في نظرهم مجرد غريب، كانوا يتحدثون بينما كان الخطيب يتلو القرآن ويتحدث عن أهوال يوم القيامة، يتحدثون مثلما يتحدث النمل إلى بعضهم بعضا، يتحدثون كأنهم يتهامسون، لا أدري إن كانت طريقتهم في التهامس تخفي أسرارا أو تماتم أو فقط بسبب حرمة روح مريم.. وقارة لم يكن يبدو أنه مهتم بهذا الحديث المتهامس، ولا مهتم بتلك الأصوات الباكية المختنقة التي كانت تأتي من وراء الأشجار والقبور المحيطة، كان قارة علي شاردا، أوهكذا تخيلته وأنا أجول بنظري في كل تلك الوجوه التي كان يسكنها الصمت والشرود.. بدأ الناس يخرجون من المقبرة عندما انهالوا عليها بالتراب.. وكانت تلك الأصوات الخفية تتصاعد وهي تئن أنينا عميقا.. وراحوا كذلك يعانقون بعضهم بعضا، ويركبون دراجاتهم النارية وسياراتهم المصطفة بالقرب من باب المقبرة، وآخرون كانوا يدخلون يضعون على أكتافهم نعشا آخر.. وكان قارة علي يقترب مني، وظننت في بداية الأمر أنه كان وحده، لكن تبين لي أنه أنه لم يكن وحده.. كان مع وهيب ذو القامة القصيرة والوجه الأشبه بوجه ذئب البوادي، وذو العلاقة الحميمة مع مريم العباسية، فأنا بدوري تعرفت عليه في حانة العباسية بالجزائر العاصمة، وكان لا يطيق صبرا على سيدي بلعباس رغم أنه غادرها في منتصف السبعينيات، لكنه كان لا يمل من التردد عليها وعلى الأصدقاء القدامى كل نهاية أسبوع. وكانت الأخبار، أخبار الناس القدامى والجدد، كلها عند وهيب المزواج والشريب والزطال لكنه انتهى في نهاية العمر أعزب، لقد هربت منه كل النساء، وهرب منه كل الأولاد الذين أنجبهم مع نساء مختلفات، من الشرق والغرب والجنوب.. اشتغل لسنوات في جهاز الحزب الحاكم، بل كان يطلق على الحزب الحاكم "النظام"، بل كل الذين كانوا يناضلون فيه ويشتغلون في أجهزته، وغادر وهيب الحزب عندما لم تعد الجزائر جزائر زمان، فالتعددية خربت كل شيء وقضت على الزمن الجميل، يعتقد وهيب. في سنوات الدم هرب وهيب إلى سيدي بلعباس، لكنه سرعان ما هرب من سيدي بلعباس كذلك ليستقر عامين بكاملهما في تندوف.. "لكنني كرهت من جحيم تندوف، ومن البوليزاريو وعدت من جديد إلى الجزائر"، كان يقيم في تسالة المرجة بالقرب من بوفاريك عند إحدى صديقاته القديمات.. "جنون أليس كذلك، أن أجد نفسي بعيد كل هذه السنوات في العاصمة بدون بيت؟!"، يضحك بمرارة، يرفض استعادة الأيام السعيدة أين كان يشار إليه بالبنان.. خراب، خراب، لكل شيء انقلب على رأسه، سأغادر هذا البلد اللعين، لن أعود إلى هذا البلد اللعين، لي صديقة حبيبة لا تكف على تحريضي على الالتحاق بها إلى كندا، هي تعيش حياة الملكات، سألتحق بها، وأنفض يدي نهائيا من هذا البلد الملعون، في الأسبوع القادم سأغادر، خلاص انتهيت من كل الترتيبات"، لكن يمر الأسبوع وتمر السنوات ووهيب بين هنا وهناك، بين سيدي بلعباس والجزائر العاصمة. تقدم مني وهيب وتقدمت من قارة علي، وكان محمد أمير يتكلم في نفس الوقت مع أكثر من واحد. احتضان شامل وكبير.. ركبت إلى جانب محمد أمير في سيارته القديمة، وكان قارة علي على متن سيارته الفخمة، وكان يصغي إلى وهيب.. محمد أمير كاتب لكن أيضا صحفي فريلانس وكان يقول محمد أمير إننا سنذهب إلى حانة درداخ حيث كل القبيلة العباسية هناك. درداخ.. ولم لا نذهب إلى حانة الكاميرون؟! الكاميرون؟َ يضحك. لقد أغلقوها منذ وقت. أغلقوها؟َ منذ زمن جبهة الإنقاذ، أغلقوها منذ عهد الفيس، ألم تسمع؟! لقد أحرقوها. مَن الإسلاميون..؟! كيف لم تسمع بذلك؟! كيف لم تسمع بذلك؟! ربما أنك نسيت..


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)