الجزائر

أزمة الجامعة.. طلبة أم كائنات متحوّلة؟



أزمة الجامعة.. طلبة أم كائنات متحوّلة؟
من يتأمّل حال جامعاتنا اليوم يدرك "فاجعة" الأرقام المضخّمة من "الطلبة" التي فاقت المليون "نسمة"، بعدد سكان دولة من الدول الصغيرة التي نستورد منها الإلكترونيك المغشوش أو حتى اللباس الداخلي، ويصل إلى حقيقة مؤسفة، وهي أن أغلب هؤلاء ليسوا سوى "شاغلي كراسي" في الجامعة، ولا يحملون من صفة "الطالب" سوى الاسم، إلا من رحم ربك. ونظرة بسيطة على نسبة "طلبة" العلوم "الإنسانية" مقارنة بقرنائهم في الفروع "العلمية" توضح إلى حد بعيد شساعة الهوة الموجودة بين "الطالب" الجامعي الجزائري وبين متطلبات سوق العمل.. وبالتالي فإن أي حديث عن نسبة البطالة المتفشية في أوساط الشباب، خريج الجامعة الجزائرية، هو بالضرورة وفق ذلك حديث عن نسبة قليلة ممن يمتلكون مؤهلات علمية، تقنية بالأساس، تستجيب لاحتياجات المؤسسات الناشطة فعليا، لا تلك التي وجدت أساسا لامتصاص "الكم" الهائل من الأعداد المتخرجة سنويا، مثل المؤسسات التربوية التي تعتبر قطاعا غير منتج البتة قياسا لمن "تنتج"، حيث لا تتوانى الوصاية عن ضخ الملايير فيه من أجل خلق مناصب "تشغيل بطّالين" تستهلك أكثر مما تنتج. نعم لولا العلوم الإنسانية التي سخر منها سلال، والتي برع فيها ابن رشد وابن خلدون والفارابي وابن سينا من قبل، وغيرها من الأسماء التي لا يظهر اسم سلال البتة أمامها، لما انبنت حضارة، لكن لابد أن نتذكر أيضا أن هؤلاء برعوا بالإضافة إلى ذلك في علوم الحساب والفلك والطب وغيرها من العلوم الكونية.. بل إن الإسلام الذي جعل المسجد مركز إشعاع علمي، لم يقصر دور هذا الفضاء "الديني" على وظيفته الأولى كبيت للعبادة، وإنما وسّع مجال اشتغاله ليكون معهدا علميا ومنارة تربوية، وأمثلة المساجد التي كانت بمثابة جامعات بمعنى الكلمة كثيرة.. وإذا عدنا إلى حديثنا عن الجامعة، لوجدنا أن وصف "الطالب" لا ينطبق إلا على القلة القليلة ممن يشغلون أزيد من مليون كرسي في هذه المؤسسة، التي من المفروض أن يدخلها "نخبة المدرسة" ويتخرّج منها "نخبة المجتمع" في جميع الأصعدة. بل إن تحقيق مفهوم "طالب" في الواقع لا يتعدى البطاقة أو الشهادة التي يتحصل عليها ليس إلا، فلو سألت مدرجا كاملا من "طلبة" الأدب عن آخر نص قرأه أحدهم أو عن عنوان رواية، أو صاحب بيت شعري لوجدت أكثرهم اطلاعا من تصفح في زحمة السير جريدة من التي تعجّ بالاغتيالات والاغتصابات أو أخرى "متخصصة" في عالم الكرة التي تدرّ الملايير على لاعبيها الذين لم يقرأ بعضهم حرفا في حياته. والأمر الملاحظ عند طلبة الأدب ينطبق إلى حد بعيد على طلبة القانون والفلسفة والاجتماع والشريعة وعلم النفس وعلوم الإعلام.. فلو قلّبت الأعداد الهائلة من المنتمين إلى هذه التخصصات لوجدت أكثرهم من الذين أنقذتهم هذه الشعب من البقاء دون شهادة جامعية لا غير، وأكثرهم لا يعرف من المواد التي يدرسها إلا الاسم، فما بالك إذا سألته عن أسماء أساتذته أو عن بعض المراجع في تخصصه، أو استفسرته عن مادة في القانون أو مقولة فلسفية أو نظرية في علم الاجتماع أو علم النفس أو الإعلام أو عن مسألة فقهية من التي يتعلمها الأطفال في الكتاتيب.. فسترى العجب العجاب. وإذا ولّيت وجهك شطر الشق الآخر من "الطلبة"، من الذين "يدّعون" دراسة العلوم والتكنولوجيا ويفتخرون على نظرائهم من "الأدبيين" بذلك، لوجدتهم على شاكلة زملائهم، بحيث لا يقدر طالب السنة النهائية في الطب على تشخيص أعراض مرض بسيط، فما بالك إذا واجه حالة استعجالية، كذا طالب الصيدلة الذي يعجز عن تحديد الدواء المناسب لأنه فشل في فك "الشفرة" التي كتب بها الطبيب وصفته، ولا تتحدث عن طالب الإعلام الآلي الذي يقف عاجزا أمام أبسط خلل يصيب جهاز جاره الذي "أنهكته" الفيروسات، التي "يتلهى" أطفال الشناوة أو الروس في خلقها في أوقات فراغهم، والأمر نفسه عند طلبة التكنولوجيا فلا مجال للمقارنة بين ما كانت تخرّجه جامعة باب الزوار أو البليدة سابقا وبين "طلبة" اليوم الذين تجدهم مكدسين لا في المكتبة ولكن في "الحشيش أو الڤازو" يلعبون الدومينو ويغلقون على بعضهم ب«الدوبل سيس".. في المحصّلة ستجد نفسك أمام "كم" هائل من "الكائنات المتحوّلة" من طور الابتدائي إلى الطور الجامعي، يدخلون الجامعات والمعاهد من أجل شهادات يكونون في آخر سنة من "تعليمهم العالي" قد نسوا ما أخذوا في أولها، ليستخرجوا "شهادات" لا تؤهل أغلبهم لولوج عالم الشغل. غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تحميل "الطلبة" وحدهم مسؤولية ضحالة مستوياتهم، فالخطأ لم يكن خطأهم وحدهم، وإن كان أغلبهم يتحمّل الوزر الأكبر، بل هو خطأ منظومة كاملة، أحد فاعليها سلال وحكومته، الذي أعاب على أصحاب الشعر وقل أعوذ برب الفلق قصورهم المعرفي، وقد رأينا ومازلنا نرى ونعيش المصير المشؤوم الذي يقودنا إليه هو وأصحاب "الكمال المعرفي" الذين يتبادلون بينهم أدوار "الهمهم" السياسي.. منظومة كرّست الرداءة ولم تشجع في يوم من الأيام موهبة إلا تلك "المواهب النادرة" ذات الصلة ب«الشطيح والرديح" وأغدقت على مهرجانات "الضحك بلا سبب" و«الزردات والوعدات" عوض أن ترعى البحث العلمي الحقيقي وتعمل على استثمار جهود الشباب الباحث الحقيقي، وتزوّد المخابر التي ينشط أصحابها فعلا من أجل البحث لا التغذي كالطفيليات والاغتناء من الريع كحال أكثر مخابر "البحث العلمي" في جامعاتنا. منظومة أهملت كل ذلك، وأهملت قبل كل شيء "المحاسبة"، لأن أكذوبة الإمكانيات الموفرة هي هروب من مواجهة الحقيقة، حيث غاب أهم عنصر في كل هذه "المعمعة" وهو عنصر "المحاسبة والعقاب"، فلا أحد يسأل كيف ولماذا؟ ولا أحد يحاسب، فالوزير السابق ل«التربية" وبعده وزير التعليم "العالي" غادرا منصبيهما اللذين عمّرا فيهما طويلا من غير أن يسألهما أحد عن الكوارث التي خلّفاها في قطاعين هما ركيزة بناء المجتمع والنهوض به، ولذلك لن يأبه مديرو الجامعات والمعاهد والمدارس بعد ذلك بمردود المؤسسات التي يتقاضون من أجل تسييرها الشيء الفلاني. ولو كانت لكل واحد منهم حظيرة للحيوانات لوقف على وضعية حيواناته ب«الرأس" ولعرف كل حيوان وما ينقصه، ولكن لأن أبناء الشعب أقل منزلة من الحيوانات فلا أحد يتكلم، ولذلك كذلك لا يهتم المعلم من تعلّم من تلاميذه الحساب ومن لم يتعلم، لأن ما يهمّه في الأول والأخير هو أن يقبض "الشهرية" التي تتضخم في كل مرة في علاقة طردية مع تضخم غباء أبنائنا.. ولذلك وإلى أن يحقّق فعلا كل طرف من المعادلة متعددة الأطراف، ابتداء من الولي والتلميذ والمعلم وانتهاء بالمسؤولين عن مصائر الجزائريين، المطلوب منه عمليا في إطار منظومة متكاملة، وأن يستوعب الطالب "بلا معقوفتين" موضعه في إطار أخلقة قيم المجتمع وبناء المتآكل منها وترميمها، ويتحكم في العلوم والتقنية لفائدة تنمية المجتمع ذاته، ويتيقن المسؤولون أنهم سيُسألون اليوم قبل الغد، ويدرك الجميع ما هو بصدد مواجهته والمسؤولية الملقاة على عاتقه، ويواكَب كل ذلك بإرادة فوقية واعية بالمجتمع وتحولاته، سنبقى نأمل أن يأتي جيل غير هذه الأجيال التي خرجت إلى الحياة "معلولة"، لينهض بعبء مجتمع كل شيء فيه آيل للزوال. [email protected]


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)