الجزائر

أحلام ضياع البوصلة



لم أرها في المنام منذ توفيت عام النكبة، حتى ظننت أنها غاضبة مني وأنا من كان محسنا بارا بها.. أدعو لها بالرحمة والغفران في كل صلاة.. والدتي الركن المتين والقاعدة الأم لم تكن كالأمهات، كانت امرأة في البيت ورجلا في الحقل، لا تفوتها زراعة فصل، ولا وقت صلاة، مدرسة في النهار وصدر حنون في الليل.. كنت أتعمد الحديث عنها، وقراءة القرآن لها عساني أراها في المنام، وأحلم بها في أحلامي، وأرضع من عطفها وأمومتها، أم أن لعقوق إخوتي لها دخلا في هذا الصد!
غير أنها لم تخيبني هذه المرة، حيث تضرعت إلى الله أن يريني إياها في منامي إذ بمجرد ما وضعت رأسي على الوسادة حتى طواني سحر نوم جميل كوالدتي في عنفوانها ورأيتها تتهادى نحوي في وقار مهيب، تخفي حبا وحنوا عظيما، هي هكذا لا تظهر لنا كل عواطفها حتى لا نصاب بالغرور، ربما كانت تخشى أن نغرق في حبها ونقدسها.. اندفعت نحوها كالطفل الغرير وارتميت في حضنها حتى كدت أسقطها، وأجهشت بالبكاء والنحيب وشكوت لها ظلم إخوتي، وصد أخواتي لي، وهجر أبنائي.. شكوت لها قساوة الطبيعة، وبرودة الطقس، والجوع أحيانا وندرة الاحساس والحاجة، والجيران، والزملاء، والقسمة... شكاوى لا حصر لها، حتى الذين نظروا إلي نظرة كبرياء، أو قالوا فيها كلمة سيئة.. عرض حال ضم تفاصيل سنين عشتها كالفطيم.. وشعرت حينها أني ولدت من جديد، وأن والدتي بعثت لأجلي لفك الحصار علي وإنقاذي.. نظرت إلي بعينين حالمتين ذابلتين، وهمت بالكلام، غير أنها ما لبثت أن عادت إلى صمتها.. ماذا أصابك، لم لم تأتي طوال هذه المدة.. لم تقسين علي كل هذه القسوة، لم أطلت الغياب حتى كدنا نيأس من أنفسنا! لماذا...؟ طرحت عليها ألف سؤال في ثانية واحدة، فما كان جوابها إلا أن قالت : دع عنك لومي، فإن المشكل يكمن في فقداني البوصلة، هل تذكر البوصلة التي ابتكرتها ذات عهد، وطورتها، وعلمت الناس كيف يهتدون بها، هل تذكر كيف كنا نقطع الفيافي، والبحار ولا نخشى الضياع أو السباع.. لم أستطع تحديد مكانك ابني بدون بوصلة أنفقت العمر في اختراعها وتطويرها، ولذلك عشت عمرا آخر في غياهب ودهاليز فاقدة الاتجاه أي اتجاه.. والآن قم، قم بني وامسح دموعك وجدد عزيمتك ودعنا نفكر في سلاح جديد، أو نحد سلاحنا القديم، ونصنع بوصلة أكثر تطورا ونمضي إلى مستقبل هو في انتظارنا... فما استيقظت في حياتى من نومي سعيدا مستبشرا مثل ذاك الصباح.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)