الجزائر

أبو جرة يكتب : قالوا إنْ يسْرِق فقدْ سرَق أخٌ له منْ قبْلُ



تعيش الجزائر هذه الأيام مشاهدَ حيّة من قصّة يوسف (ع)، أشار إلى بعضها غاية الأديب الفلسطيني أدهم شرقاوي (قسّ بن ساعدة)، فاستكملت ما أعتقد أننا بحاجة إلى فقهه وتجسيده في أخلاقنا وسلوكنا، إذا كنّا نريد أن نكون عند الله لا عند الناس من المحسنين. فيوسف (ع) دخل السّجن بشبهة امرأة العزيز. فشهد له المساجين بالإحسان. ثمّ ظهرت براءته فخرج منه ليتولى وزارة الزّراعة والخزينة العموميّة. فشهد له الشّعب بالإحسان. ولكنّ إخوته اتّهموة بالسّرقة، فلم ينتقم منهم، لأنه كان يراقب الله في عمله ولا يلتفت لما يقوله الناس. ولم يتأثّر بما كانت تذيعه نسوة في المدينة. فعلاج الحسد الإحسان، ودواء السّفاهة التّجاهل.من قصّته ﺗﻌﻠمنا ﺃﻥّ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻨّﺎﺱ ﻳبغضون الإنسان ﻟما فيه من ﻤﺰَﺍﻳﺎ، لأنها تكشف عيوبهم. وإخوة يوسف (ع) أبغضوه لاستقامته وحبّ أبيه له.. وهذه جرائم في نظر إخوته تذكّرهم بما فيهم من نقص. ﻭﺍﻟﻨﺎﺱ ﻻ يحبّوﻥ عادة ﻣﻦ ﻳﺬﻛّﺮﻫﻢ بعيوبهم، ولو كان أخاهم من أبيهم. فتتوالى عليه الطّعنات ﻣﻦ داخل الصفّ، بل من داخل البيت بيد إخوته. والطّعنة من يد الأخ أوجع، لأنها تأتي من قريب، وتصيب في مقتل، يتّخذه خصومك حجّة لطعنك في الظّهر. فإذا ﺳﻠِﻤﺖَ ﻣﻦ ﺍﻟتهمة لم ﺗﺴﻠﻢ ﻣﻦ الشّبهة، وإذا بَرّأك البعيد من الحسد لم تسلم من غدر القريب. فكتمان السرّ عن أقرب المقرّبين نجاةٌ من الحصار، فلا تقصص ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﻛﻞَّ ما ﻭﻫﺒك ﺍﻟﻠّﻪ من خير. فأكثر الناس يحسدون النّاجحين على ما أتاهم الله من فضله. وﺍﻟﻤﺠﺮﻣوﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮﻥ ﺃﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺛﻴّﺎﺏ ﺍﻟﻨﺎﺻﺤﻴﻦ، ﻓﻘﺪ ﻗﺎﻝ ﺇﺧﻮة يوسف ﻷﺑيهم، لما أرادوا التخلّص منه: ” وَﺇﻧّﺎ ﻟﻪ ﻟﻨَﺎﺻﺤُﻮﻥ”. وخادعون بالقول أرسله معنا يرتع ويلعب. وطمأنوه بأنهم ﻟﻪ ﺤﺎﻓﻈﻮﻥ. ولكنّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ليسوا سواء؛ فهم متفاوﺗﻮﻥ ﻓﻲ الصّلاح وفي الفساد، فقد أجمع إخوة يوسف على قتله فأﻧﺠﺎه ﺃقلّهم سوءً بالتماس حكم مخفّف فقال: “ﻻﺗﻘﺘﻠﻮﺍ ﻳﻮﺳﻒ وألقوه في غيابة الجُبّ”.
ومن قصّته تعلّمنا ﺃﻥ ﻻ نبوﺡ ﺑﻤﺨﺎﻭفنا للناس ولو كانوا ذوي قُرْبى ﻛﻲ ﻻ يضربوننا بسلاحنا. فقد قال يعقوب (ع) لأبنائه: ” وﺃﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﻳﺄﻛﻠﻪ ﺍﻟﺬّﺋﺐ”. فألقوه في البئر ورجعوا ليلا يبكون ويقولون لأبيهم: ﺇﻥّ ﺍﻟﺬﺋﺐ الذي حذّتنا منه قد أكل أخانا !! وﺗﻌﻠﻤنا ﺃﻧﻪ ﻻ توﺟﺪ في الكون ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ، فكل ﻤﺠﺮﻡ يغفل عن بعض التّفاصيل الصغيرة فتتحوّل إلى قرينة تهمة تجرّه إلى الفضيحة، ﻓﻘﺪ ﻧﺴﻲّ ﺇﺧﻮة يوسف تمزيقَ ﻗﻤﻴصه، ففضح أمرهم؛ ﻓﺄﻱّ ﺫﺋﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﺘﺮﺱ ﺻﺒﻴًﺎ ﻭﻳﺒﻘﻰ ﻗﻤﻴﺼﻪ ﺳﺎﻟﻤًﺎ عليه دمٌ كذب؟ وﺗﻌﻠمنا ﺃﻥّ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺸّﺮ ليسا ﻓﻲ أصل ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻣﻨﺎ ﻟﻬﺎ، ﻓﻘﻤﻴص يوسف ﻛﺎﻥ ﻣﺮﺓً قرينة تهمة، وﻣﺮﺓً ﺩﻟﻴﻞ ﺑﺮﺍﺀﺓ، ﻭﻣﺮﺓ علاجا لذهاب البصر. .وﺗﻌﻠﻤنا ﺃﻥّ الغوغاء لا يعرفون قيمة الرّجال، ولو كانوا رسلا، فالدّهماء هم الذين باعوا يوسف (ع) ﺑثمن بخس ﺪﺭﺍﻫﻢ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ وكانوا فيه من الزّهدين . وﺗﻌﻠمنا ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﻭﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺎﺕ ﻭﺍﻟﻜﺘﺐ والشّهادات العليا.. ﻟﻴﺴﺖ ﺇﻻ ﺃﺳﺒﺎﺑًﺎ، أما ﺍﻟﻤﻌﻠﻢ ﺍﻟﺤﻖّ فهو ﺍﻟﻠّﻪ (جل جلاله)، فهو الذي علّم ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ، وهو الذي ﺁﺗﺎﻩ ﺣﻜﻤًﺎ ﻭﻋﻠﻤًﺎ..
وتعلّمنا ﺃﻥّ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻻ ﻳﻐﺪﺭ. ﻭﺍﻟﺤﺮّ ﻻ ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﺑﺎﻹﺳﺎﺀﺓ. ﻭﺍﻟﻨّﺒﻴﻞ ﻻ ﻳﺒﺼﻖ ﻓﻲ ﺑﺌﺮ ﺷﺮﺏ منها.. وانظر إلى يوسف لمّا تهيّأت له امرأة العزيز وغلّقت الأبواب قال لها: ” ﻣﻌﺎﺫ ﺍﻟﻠﻪ ﺇﻧّﻪ ﺭﺑّﻲ ﺃﺣﺴﻦ ﻣﺜﻮﺍﻱْ”. فاﻷﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴّﺔ ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻣﻊ ﻗﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺎﻧﺔ. وﺍﻟﻌﻔّﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘّﺔ ﻻ ﺗﻜﻮﻥ ﺇﻻ ﻣﻊ ﻗﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺰّﻧﺎ. ﻭﻗﺪ كان يوسف ﻗﺎﺩﺭًﺍ على الاثنتيْن ﻭﻟﻜﻦّ المحسن ﻻ ﻳﺨﻮﻥ ﻭﻻ ﻳﺰﻧﻲ . واﻟﻤﻌﺼﻮﻡ ﻣﻦ ﻋﺼﻤﻪ ﺍﻟﻠّﻪ، ﻭﺍﻟﻤﻔﺘﻮﻥ ﻣﻦ ﺗﺮﻛﻪ ﺍﻟﻠّﻪ ﻟﺸﻬﻮﺍﺗﻪ، ﻭﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻣﻊ ﺍﻟﻠّﻪ ﻓﻲ ﻳﺴﺮﻩ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻠّﻪ ﻣﻌﻪ ﻓﻲ ﺷﺪّﺗﻪ. وﺍﻟﻌﺎﻟَﻢ ﻛﻠُّﻪ لا يملك قدرة على ﺠﺒْﺮ إنسان ﻋﻠﻰ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻻ يرﻳﺪ فعله، فلا يتعلّلنّ أحد ﺑﺎﻟﻈّﺮﻭﻑ، ولا يتحجّجنّ أحد باﻷﻭﺿﺎﻉ، فمن وقع في المعصيّة فيداه أوكتا وفوه نفخ. وتعلمنا ﺃﻥّ ﺍﻟﻠّﻪ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺍﺩ ﺃﻥ ﻳُﻈﻬﺮ ﺃﻣﺮًﺍ، ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ الكون كلُّه ﺳﺘﺮﻩ، ومن ستره الله لن يجرُأ الكون كلّه على فضْحه. فكم ﻓﻲ ﺍلدّنيا ﻣﻈلومون. وكم يقبع في ﺍﻟﺴّﺠوﻦ أبرياء ﻋﻘﺎﺑًﺎ ﻋﻠﻰ ﻋﺪﻡ خضوعهم للباطل، وكم في سدّة الحكم مجرمون يتستّرون خلف المصلحة العليا، وهم فوق القانون بما ابتدعوه لأنفسهم من مسمّى “حصانة” تجعلهم في منآى عن المساءلة، كحال عزيز مصر الذي لما علم بجريمة امرأته، أمر بسجن البرئ والتستّر على الجاني، لأنها صاحبة حصانة: ” ثمَّ بدا لهمْ بعدما رَأوا الآيات ليسْجُنُنّه إلى حينْ”. فاﻟﻈﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ قديم .ولكنّ ﺣﻼﻭﺓ ﺍلبراءة تحجب عن السّجين ﻣﺮﺍﺭﺓ ﺍلسّجن، فلو أخطأ يوسف (ع) واستجاب لرغبة امرأة مصر الأولى، لضاق عليه ﺍﻟﻘﺼﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﺗّﺴﺎﻋﻪ، ولكنّه وجد السّجن أحبّ إليه من خيانة الأمانة . ففي طاعة الله ﻣﺘّﺴﻊ ﻟﻠﺪّﻋﻮﺓ.
فقد كان داعيّة إلى الله وهو ﻣﻤﻠﻮﻛٌ ﻓﻲ ﻘﺼﺮ العزيز.
وصار داعيّة إلى الله وهو محبوسٌ ﻓﻲ ﺴّﺠﻦ العزيز.
وأصبح ﻋﺰﻳﺰًﺍ ﻋﻠﻰ ﻛﺮﺳﻲّ مصر، وهو داعيّة إلى الله .
فاﻟﻤﻌﺪﻥ ﺍﻷﺻﻴﻞ ﻻ ﺗُﻐﻴﺮﻩ ﺍلمواقع، وقد قيل له ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﻦ:” ﺇﻧّﺎ ﻧﺮﺍﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﻤُﺤﺴﻨﻴﻦ”. وقيل له ﻭهو ﻋﻠﻰ ﻛﺮﺳﻲ ﺍﻟﻤﻠﻚ: إنا نراك من المحسنين. وطلب منه إخوته ﺍﻟﻌﻔﻮ ﻷﻧﻬﻢ ﺭﺃﻭه ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺴﻨﻴﻦ.. فلم يحسد ولم يحقد ولم يصفّي حسابات قديمة. فما ﺃُلقاه إخوته ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺐّ ﺇﻻ حقدًا وﺣﺴﺪًﺍ، ولما تمكّن من رفابهم سامح وعفا، لأنه أدرك ﺃﻥّ كثرة الالتفات إلى الماضي تضيّع الهدف، وأنّ النّظر إلى المستقبل أولى، وأنّ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ الذي ضرب مصر كان ﻣﻦ ﺳﻮﺀ ﺍﻹﺩﺍﺭﺓ وليس ﻣﻦ ﻗﻠّﺔ ﺍﻟﻤﻮﺍﺭﺩ، فعمل على إخراج شعبيْن (المصريون وبنو إسرائل) ﻣﻦ ﺍلأزمة بسياسة ﺟﺪﻳﺪﺓ أنهت الفساد في القصر أوّلا ، لأنه لم يطلب ﺧﺰﺍﺋﻦ ﺍﻷﺭﺽ ليملكها، ﻭﺇﻧﻤﺎ ليوﺯّﻋﻬﺎ على الناس بالعدل. وقد تعلم من درس البئر أنّ اﻟﻌﺪﻝ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺑﻨﺎﺀ ﻣﻄﻠﺐ، ﻭالحذر من المفاضلة بينهم أوجب، والعدل في كل الأحوال عبادة وقرْبَى. والشّكوى لغير الله مذلّة، فأبوه لم يشكُ بثّه ﻭﺣﺰنه ﺇﻻ لله، أما اﻟﻨﺎﺱ فمحبٌّ ﻭﻣﺒﻐﺾ، فشكواك لغير الله تحزن المحبّ، ﻭتشمت بك المبغض. ﻭﻛﻼﻫﻤﺎ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﻣﻦ ﺃﻣﺮك ﺷﻴﺌًﺎ. فتجاهل إساءة الجاهلين، وحقد الحاقدين، وسفاهة المغرضين، وكلام الفارغين.. ليبقى حبْل الودّ بينك وبين الناس موصولا، واجعل نفسك كأنك أصمٌّ، فيوسف (ع) سمع إخوته يتّهمونه بالسّرقة فكتمها في نفسه وﺃﺳﺮّها، وكان ﻗﺎﺩﺭًﺍ أن يبْهَتهم، ولكنّ السيّد يتغابَى: ” قالوا إنْ يسْرق فقدْ سَرقَ أخٌ له منْ قبْلُ فأسَرّها يُوسُفُ في نفْسه ولمْ يُبْدِها لهم”. وهو يعلم أنهم هم من سرقوه من أبيه، وهم من رموه في بئر، وهم من ذرفوا عليه الدّموع، واتّهموا ذئبًا بريئًا بأكله.. وكم في عالمنا اليوم أشباهٌ لإخوة يوسف يفترسون أخاهم ويرمون جريمتهم على الذّئاب، وهم الذّئاب.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)