الجزائر

آلو... هنا 1984..


"هنالك مراحل ثلاث لا بد أن تمر بها حتى تتم إعادة تأهيلك وخلقك من جديد وهي التعلم.. ثم الفهم.. ثم القبول.. وقد آن أوان دخولك المرحلة الثانية" عن جورج أورويل.. في روايته 1984..تواصل هذه السيرة اللاّوثائقية النبش في الغابر، المعتم والثمانيني، وهي تعمل على جمع شوارد ذاكرة متعبة، فيها من تقنية الكولاج ما فيها، اللاّنسقية وهمّ التعبير عن الفائت، السالف، المنسرب من شجرة بدأت تحترق من جذورها..
لماذا ستكون للثمانينيات الجزائرية طفح ذاكرات لا توارى ولا تحجب، بل ليس من السهل فعل ذلك، لأن بها العنفوان والمرونة والصخب الحياتي والإقبال على اللهو والدعة والإنطلاق..
إن هذا الاستدعاء لعوالم 1984، 1985، 1986، 1987، 1988 ولواحقها من السنين والعذاب والإكراه ليس استدعاءً على طريقة جورج أرويل حيث تعدم الحميمية والألفة والأنس.. على ما تكون عليه هذه الأنواع الأدبية العصيّة على التجنيس وعلى ما تكون عليه هذه الكتابة الصيفية السابحة تارة في الظلمة والظلموت وتارة أخرى في دنيا العيش الطريفة..
يالرهبة السنين الفوائت، دنيا وناس وعيش، لذة وصيف وخريف، سردية حكائية عن إيلاف قريش ورحلة الشتاء والصيف، أصوات باعة الدلاع والسردين والكوكا، وهم يصيغون نص الحي، هامشه ورواقه الجانبي..
الدروب والفشخات، الطرق الملتوية المفضية إلى جحيم فردوسي لاذع لاذع، إنه ذاته الالتواء في المسار والوجهة والأفق، هل هنا مسكن الكائن أم اندثاره ودثاره بالبياض وصلوات الجنازة، أم أفقا يتبين كخيط أبيض، درب البلوك 4، درب شانيو، درب الكهف، درب التشينة.
إنها الدروب الوعرة التي يتنزل من سافلها إلى عاليها كائنا كسعدي ابراهيم وشركائه في الهجرة والدين والترحال والتجارة والرياضة واللهو..
«لم يغير هؤلاء من النظرة حيالهم نظرة الإزدراء والحقارة"، ما كان ابراهيم سعدي زقاقيا يترصد ابنة الجيران الطالعة من بيت أبيها ولا مدمن زطلة مدوخة وعقّارات 6-15، وما كان من لصوص الإمارة أو العرض أو الشرف، كان لص الكلمات الذي اختطفته "الحادثة الأصولية" وتطرفاتها وسارت به نحو فجاجها الوعرة..
سعدي رجل رقيق، ملئ الوفاض، يوقت للكلمات مواقيتها.. رجل شعر وبلاغة نبوغ ينصرم عند أترابه من إخوة المسجد وإخوة أبناء العم، فلقد عاش بين أسرتين، ولطالما شابه هو الإمام ابن حزم.. العلاقة الوجدانية الخاصة مع الأخت، تقدير الأب، يتسلطن في خطه العربي المشرقي، يتسلطن في العروض والمتن الخطابي، الرهيف الآسر كابن حزم نهل من طوق الحمامة ما نهل، ومن مصارع العشاق، ومن طرافات دعيل الخزاعي وديك الجن الحمصي..
نشر مقالاته الصارخة عن "المايكيليون" نسبة إلى مايكل جاكسون، واستبسل في معارك الغزو الثقافي وأشجانه وشجونه، إذ خيّمت آنذاك على الآفاق المسجدية أفكار أنور الجندي، محمد البهي، البهي الخولي، محمد قطب وسيد قطب، وسعيد حوى، أبو الحسن الندوي، وحيد ابن خان..
إنه الكاتب الجيد مبتدأ ومبتدئا في صحيفة الشعب وأسبوعية أضواء فضلا عن المساء وأرشيفات أخرى.. مسار شاعري، فكراني، بلاغي، به الغرابة والأسى والحسرة، مسار التعرجات والتشوهات.. توضّح أكثر للرائيين والمراقبين، سعدي خليط العصامية والفكر الإسلامي وتعشق الآداب الإنسانية، رجل الضحك العفوي، نحات النظم والعروض القصير الحرة، اليتم المفجوع، سيرة الزخم والولدنة والشقاء والنيتشوية..
الرحيل المبكر للشاعر الذي اختطفته ريح الأصولية، عواصفها الهادرة وأنوائها العاصفة، ليس الموقف بين حماقة دم وثأر ومذهب باطل في الحياة وعن الحياة، ما كان العمر المكتمل له إلا أقل من عقد ثالث وما اكتمل.. ثم الاندثار، الانطمار تحت تربة..
يصل سعدي لترجمة شخصيته على هذا النحو الساخر، صوفي، على دهشة إضحاك وحب مرح لا يضاهى، به قلق الكتابة واعتصارات الحنين، لقد صدمت فيه النخب اللاّمونطانية أيما صدمة وهي تسمع عن غيابه الذي طال، لعلّه التحق، لعلّه استمسك بعروة لا انفصام لها من التنسك.. لعله في محراب الإبداع يخط بوارقه وأرقه، كان خطه كاليغرافي مثير، نابض كدم الحسين..
لا تتظافر الحقائق عن سوسيولوجيا دامية كهذه التنصل عن الشعر وامتهان الكلم، الإنقاذ والجبل، الغياب والموت، ابراهيم المهاجر الذي رمى بجثته من أعالي بئر..
عبر المخرج العصامي والروحية المقاومتية الطموحة انبرت فعاليات أخرى لتقديم مشهد حي وثاب، حيوي، لا ينتظر زمن المهدي، فترة ثمانيته انحفلت بالتحولات والتحولات العشوائية ولم يبرز الميل إلى التحضر بفضل التأميمات التي حصلت والإلحاقات العمومية المتأتية من سير اشتراكوي متعثر بل من أعماق الحي، من الأعماق التي ناهضت العنصرية وبرامج الإفراغ والتهجير، عمال السمباك وبروليتارياريا "الد أن سي" ودواكرة الميناء والعسّاسين ومبتاعي الخردة المنزلية ومجمعي النفايات لم يكونوا هم التاريخ ومنتجيه إذ ظلوا على حال قسمتهم ووافر نصيبهم على طريقة ضعف الطالب المطلوب، بيد أن الذين سيقومون بكسر عظمة الجوز وتخطي العتبة هم شباب الموجة الثانية، أي ذلك الجيل الذي لم ير بأم ناظريه الثورة والبارود ورائحة النار.. تعلم من النموذج المدرسي أبسطه وأسرعه لتحقيق المآرب وتقوية الشكيمة وليس مثل ذلك كالتكسب الفردي وشحذ همة الساعد والإيمان بالصدف، قيم كتلك ما انعدمت عند مقتدرين مهرة في صناعة الأحذية وسوق الجلد.. إن الأمر إن صدر من بيت فلان أو بيت غلان فلا ضير، لم يكن الناس يومها ليستغربوا، من قبائليي بني عمران وفطاحلتهم، فلقد تمنّعوا ضد الإلغاء والمحو، قاوموا التأميم الاشتراكي والضرائب الموجهة، وصنعوا مجد الحذاء بمجدهم الشخصي.. كانوا يتسربون من بين أصابع السلطات المحلية والفوق محلية لتصير الورشة مصنعا صغيرا، أو هو وحدة إنتاج مجهرية تزاول التفنن في التصميم والتجميل للمشهد الحذائي الوطني في مضاهاة ومغالبة لمحلاّت باطا كما لوحدات صناعة الحذاء والجلود الوطنية التابعة لمؤسسات الدولة الموجهة المسيّرة للمونوبريات وأسواق الفلاح.
سيكون التغيير ضاربا ضربة معلمين، راديكالية إيجابية تفك الارتباط بسوالف العصر اللاّمونطاني الذي غرق في أقاصيص "البيرات" و«بيرام" و« باباي" وغيرهم من رموز المدينة المحتشد والمعزل..
إنه "الأزيل" المعزل الإنساني والأخلاقي والفكري والنفسي والاجتماعي الذي يمكن أن يعاقب عليه انسان رمي به من الأعالي.. هذا المعزل فكّكته عناصر فرادى من بيت فلان وفلان.. من آل بوجلطي وآل جويدر وآل سعيدي وكثيرين من صناع الأحذية المهرة وهم من كانوا لوحدهم على استطاعة لخلق طبقة متفردة تتمرد على النمط وتفقس البيضة وتدفع بآلية جديدة من أجل الانتظام الإداري والضرائبي والسوسيوثقافي والسوسيوسياسي، مما عنى ذلك ذات ثمانينيات الاندراج في التاريخ الوطني برضا وعن غير رضا السلطات، كانت لوحدها ثورة الصّباط الورشة والورشات، لبيت جويدر واخوانه وأصهاره، تجارة الجملة لآل بوجلطي ومودّن، نقاط التزويد التي كانت تتخذ من البيوت الأرضية منطلقا ومرتكزا للأنشطة ثم الإسكافيين الصغار والصناع والخياطين والخياطات في البيوت، عمل الحذاء وصنّاعه عمل العقيدة في شعب منفي، عمل الفكر التقدمي في بيئة لا نعرف فرقا بين شوكة وسكين، عمل الركيزة والإرهاص والإيذان بساعة الحقيقة.. قلنا والحقيقة أن تلك الورشات اللصيقة ببيوت السكن والتي اندغم فيها الساكنة القبائل المتحدرين معظمهم من بني عمران وتيزي وزو وبجاية ليس عبثا من أن تستعين بوسائل وأدوات شبه تقليدية لكنها كانت قاعديّة، لم تكن أبدا بدائية، حتى أنها كانت حاصل الخبرة والحداثة الإيطالية والإسبانية بالمحاولة والخطأ المحليين.. المسامير والبراغي، آلات الخياطة، المقصات، رافعات صغيرة، دلاء اللصاقة والغراء، كراطين التعليب، جلود متنوعة المستوى، مواد بلاستيكية متفرقة، أشياء وأشياء دقيقة أخرى، آلات التقطيع، النقش والرقش، وسائل التغليف..
لقد ازدهرت منتوجات وأينعت بموديلاتها المقلدة وشغل الشباب والفتيان من الذين انعدمت لديهم خطوط التمدرس النظامي وجاءها الغرباء من حسين داي والقبة خاصة طالبين الوظيفة والمكانة وسدّ فراغ الحومات والحكومات..
حسنا سيقوم أحدهم ببناء الجسر نحو العالمية لامونطان إيطاليا، المكننة والانفتاح، ماكينة سحج لحوائف الأحذية، ماكينة تقطيع وتصميم، وكذلك الجلود نفسها واستيرادها، هذا لأحدهم من بيت جويدر سيواصل في شأن البناء القاعدي التصنيعي التحديثي على منوال الرديف الموازي للإمام يخلف شراطي.. تقدمت البنية وتقوّت، انبثّت دماء جديدة وما عاد البيت بطابقين قبالة "الحمام" و«أصحاب الحمام" يسع فكرا صناعيا قائما بذاته..
بداية للتأريخ في الصناعة الحذائية الوطنية لا يقبل جدلا الإدعاء ببورجوازيتها وانتماء الصناع إلى هذه الفئة الضئيلة التواجد، إن الهوامش وأصلهم هم من قاموا بالجهد وملازمة المهنة حتى اشتداد العود والازدهار، فعدا مصنوعات باطا والشركة الوطنية، وعطفا على ذلك أصحاب "الفابريكات" les fabriquant من وهران وتلمسان والمدية والبليدة كثيرا ما قدّموا الإضافة لفكرة المسايرة والبناء التنموي الأهلوي، أي أن المقاربة واحدة، صناعي صغير من حي شعبي يجتهد في الصنعة وينجح ثم ينجح أقرباؤه معه وعشيرته معه لتتنمذج الطبقة وتكبر ويتغير شكل الحي أو المجمع السكني، أو الفضاء، لكن النسق الثقافي والهندسي والتنظيمي والأداتي يغيب.. إنه السبب الكفيل بالمغادرة والترك والخلو ومباعدة النشاط.. يأتي القرار من أجل السكنى في الحي وتوسيعه إقامة ودارا ومحلا ومرتعا عائليا أو النقيض من ذلك بسبب عقم السياسات الجوارية تلك التي تستهدف في تحديثاتها وانشاءاتها مباركة الفضاء والاهتمام به والاهتمام بأجودهم في الطاقة والمبادرة والحيوية، وذاك لم يحصل أبدا في حالة بيت جويدر، فهؤلاء تمدّدوا شساعة نحو القبة وميزاتها الأقل شراسة في التوسعات ولياقتها بالإقامة والتجارة النظيفة الأنيقة وتاليا لم يكن لحوض بن يطو الكبير بأراضيه من أن تغيره الذهنية الذرائعية العملانية لهذا الصناعي مع تقادم السنين وانصرام حقبة العنف السياسي والاجتماعي الداخلي والخارجي رغم احتواء الحوض حاليا على انشاءات مخوّلة للتجارة أو الخدمات أو للصناعات الجد خفيفة مما لا يضر السكان القريبين إلاّ أن الرهان الاقتصادي يتعثّر غالبا أمام مخلوقات صغيرة مقذوفة إلى الحياة بلا تهيئة ولا أنسنة ولا مشروع..
حسنا ستسطع النجوم وتتراص بلآلئها، فإن ميلود ابراهيمي سيتقدم إلى الإدارة التنفيذية لفندق ماريوت العالمي الباهر، ويسجل بغزوز اسمه أصفرا يندلق باللمعان حائزا على بكالوريا من الرئيس هواري بومدين وتتراكم محطات "الدياسبورا" نحو كندا، أمريكا، فرنسا، إيطاليا فيأتي على الذكر الإسم ومعناه ومنبته العائلي، عائلة شوبخة، عائلة بريڨن، عائلة برار، عائلة حبّوسي،.. أسماء، أسماء الدياسبورات متنوعة، فسيفسائية السحنة، الشكل، اللكنة، المناطقية، منسوب الحداثة والتدين..
إن حيا كهذا الذي نحكيه ونعبره بالتأريخ المفتوح واللفتة الكتابية من هذه الأحياء التي تنسى مطمورة تحت تراب العلية من القوم المكابرين لكنه خرج إلى العلن شامتا فضاحا للدهليز بصوت الغناء الصادح، حيث برز عند الشعب وعامته المطرب محمد لمين وحفنة فنانين في الشعبي والدرابكية والراقصين الذين رافقوا الفرح الثمانيني، وليس هو وحده الصانع للابتهاج ولحيوات الغلمة والكسل والهناءة الداخلية...
إنه على شبه قريب بالممثل "إيدي مورفي" بلاك أسود رياضي، أنيق، أرستقراطي الحديث والقامة والمشية والطرافة، هو، هو وعائلته الرياضية عن بكرة أبيها.. "غول وهّاب" لاعب التنس المشهور ابن الدي 4، 17، الذي عاصر وردة بوشابو وغيرها، كان غول وهابا طموحا، يتهادى مشيا مترنحا حالما برخام البيفرلي هيلز وهو الذي جعل منافسة كأس ديفيس نصب العين والقفا وجعل ذهبية الألعاب الجامعية العالمية بزغرب مطمحا لا تقر له خواطره.
مع هذه الميادين الفسيحة من ميادين الصبوات واللعب والقفز، ظهروا، أطلّوا، انفتحوا علينا وأضاؤوا فرسانا تحمد عقباهم، عضلاتهم وأقدامهم، لاعبون في ملاحة حسين داي من أمثال تومي، محمد علام، بودور، فتوحي، عمروش، وكذلك بن عروس في رائد صلب القبة، وحرابي في اتحاد مناجم الحراش - ويالذكره الأليم في تعديه على لخضر بلومي-..
تماثلا مع الطبقة، الجغرافيا، الهيئة، البشرة قدمت الرياضة الجماعية والفردية مخزونا وافرا سرعان ما صبّ في المجموع الوطني برمته، إذ أن الميولات لم تكن ترفيهية لها دافع واحد على ما هي عليه الرياضة ومفهومها المجتمعي والإنساني بل هي احتفظت بهواها المناطقي ومنزعها الطبقي عدا هذه الانزياحات المباغتة والمبادرات الاستثنائية والاختيارات الرائدة، إن هؤلاء الشباب كانوا يتآلفون أيّما ألفة وتزيد مع رياضات كالملاكمة، الكراطي والمصارعة، حتى أن المصارع نعماني بانتسابه إلى هذا الحيّ حقق هذا الذيوع والشهرة له ولعائلته وعشيرته الأقربين ولحيّه بإحرازه الألقاب الوطنية والقارية وتكريسه للتفوق "اللاّمونطاني" في هذه الرياضة الغائبة اليوم.
قبل أن يشهد الحي طفرة التحجّب الإسلامي، العقائدي، العرفي والاجتماعي، كانت النساء هنا غاديات ذاهبات على خفر وموضة وأناقة تنأى عن الابتذال، يسجلن الحضور بالغياب ويسجلن الغياب بالحضور، لهن أسرار وخفايا، طقوس في الفرح والمعازيم وفي أداء الإبر بوصفهن ممرضات حقيقيات، كانت الأنثى هنا، أنثى، أي ليست منظومة، صورة، حجاب، ثوب عرس، خاتم خطوبة، إنها الممرضة السافرة المحتشمة بالحايك، معلمة الابتدائي والمتوسط الحاملة لهوية بارزة وشخصية جريئة ترمق السماء اللاّزوردية خلف باب موارب، خلف لعجار الذي سيرتدى أيام الخميس والجمعة والعطلات..
إن خالتي وريدة - كاليزابيت تايلور في إحدى أفلامها - يجري التفتيش عنها، في غدوها ورواحها وهي تعلم الأبجدية واللثغ البدائي بالفرنسي، ملفتة النظر بزيارتها الطبيّة كي تطمئن على الكمادات والإبر وحقنة الدواء، وليكن التفوق المدهش في التربية والتعليم والتوجيه لسيدة كالسيدة تريكي مثار متابعة وقراءة للزمن المدرسي الما قبل فوندامونتالي فتقدم هي العلم والفكاهة والجدية ليحيا من يحيا على بيّنة وليغادرها هذه الملعونة المدرسة من لم يرد ويرغب..
نساء 1984، لسن بشعات، مقدودات من حطام الروح مقلدات، امتثاليات، لأن التعليم ووجهاته وخلطة تكويناته بلور فيهن إرادة التطلع والمقدرة على المناورة الاجتماعية كيفما كانت اللعبة وكان التعاطي معها، إن سيدات كخالتي وريدة والسيدة موسوس والسيدة تريكي بدين دائما كسلطانات مخفيات من وراء جدار لهن البشارة الضحوكة وشهوة النزال مع الرجال الأغبياء..
على أرض مسطحة، انردمت بالتراب الأصفر الرطيب، أرض هشة جدا موحولة غالبا ثم هي لترتمي على كتف جانبية ليست يمنى وليست يسرى تموقعت منطقة التعليم الابتدائي بمدرستي قويزي سعيد للبنات والأخرى المختلطة فضلا عن مدرسة التكوين والتأهيل المعروفة وطنيا ومنازل الروسيين الذين مثلوا هنا مفهوم الغرباء بسلوكهم الأرعن، وصراخهم اللاّمتوقف، تكشفهم وعريهم، بخلهم الذي لا يردّه رادّ، مصيغين خطاب التمثلات الاستشراقي منظورا إليهم كخواجات، كغرب له صرعة الحرية والمشي الحرّ لا ناظرا أو مباليا أو محتشما..
كان الناس بداخلهم إحساس ما بالعجب أو بالألفة أو بالتقبل لهكذا سلوك يصدر من السيد فانطاطو الإيطالي الذي يعمل في فترة تدريبية في معمل الحذاء عند بيت جويدر الأب وابنه - أو هم يؤلفون النكات والأحجيات عن "جوزيف" الفرنسي الذي عانق الإسلام معايشا "غرباءه" في التقدم والانفتاح قياسا إلى فكره ومنطقه الغربي، مثل يوسف ظاهرة في النسيج الحاراتي، إنه ثقافة فرنسية، ولغة، لون وشقرة، تطرف غربي وصوفية اسلامية.. قميص إسلامي وثوب مرقش..
سكن الغريب مع الغريب، تجاورا، ائتلفا، شكلا السمفونية وغرابة الطور، الصدام والمرحمة، الخير المحض والشر المحض.. وحاز الخواجة الأجنبي مقاما محمودا لن يعيشه بعد انتهاء عالم 1984 معكوسا..
تعالوا نبحث في المقاربة السوسيولوجية ونتسلى، نتلهى في تفسيرات عاشقة تطيش بنا ذات يمين، ذات يسار.. تقرأ هذه الأحياء الشعبية على مفاصل وتمفصلات يعسر تركيبها، ولا تفتح على نسق واحد فيسهل التنبؤ ببقائها وفنائها.. لكن المحاولة المقارباتية لا تنهي الشائك والعابر والخفيف.. فهذه الأحياء إما أنها تنجرف وتبتبلعها الجغرافيا الأفقية والتجديدات الجوارية أو تبزغ وتفرض حال سبيلها سبيلا جديدا يوائم العصرنة والتعمير المؤسّس على القواعد الحديثة..
إنها قبلا كأنها لم تكن، مولودة كيما تعرف اندثارها، ثم تصرف معها الفرد كأنه المخلص الحتمي لأن بقاءها والعكس، ثم خروجها إلى العلن والساحة واثباتها أن السلطة لا تقدر على الإغفال ومعابثة الزمن فهذه الأحياء إما أن ينظر إليها بعين التخطيط والإنماء والتحضير أو تكون هي السلطة، موضوع التهديد والوعيد والخطر، ما الذي تغير والذي لم يتغير إذ بقي على سائر معهوده، جغرافيا الحي، ظواهره الاجتماعية، طقوسه الحداثية، مستويات تعلم أبنائه، أحوال جوامعه ومساجده الأخرى التي تنامت بعشوائية أكبر.. إن الأحواش والبلوكات والبيوتات التي سعى أصحابها إلى البحث عن التحضر من خلالها كما في المقاربة السوسيولوجية عبر توسيعها، وتوسيع منافذها عقّدت الأمر أكثر، مرور صعب، فضاء منغلق، مواقف للسيارات حقيرة وبشعة المنظر، تمدّد ديمغرافي برباري، أسواق غير مغطاة في كل مكان، الرصيف المملوء، الباعة الجوالون بين المنازل، الملابس فوق الأسطح دائما، وكرة القدم بين الزقاق والزقاق..
a_maouchi@live. Com
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)