يصنف دارسون المفكر وعالم السيمياء الجزائري الكبير ''أبو العباس أحمد بن علي البوني'' (520/622 هجرية)، كأحد رواد فلسفة التصوف في شمال إفريقيا وأشهر المؤلفين في العلوم الخفية وعلوم التنجيم، اشتهر بكونه عميد علم الحروف الذي مهّد لقيام منظومة السمياء الحديثة.
يعدّ أبو العباس البوني أصيل مدينة "بونة" القديمة وكنيتها "هيبون الجميلة" ذاكرة ولاية عنابة حاليا (800 كلم شرق الجزائر)، وهي منطقة أنجبت الفيلسوف أوغستين (354-430 م) أبو الفكر العصري، أبو الليث البوني، وسيدي إبراهيم بن تومي وهي وجوه تركت بصماتها على المسيرة الثقافية المحلية والدولية.
وفي تصريحات خاصة بـ"إيلاف"، يبرز "سعيد جاب الخير" الباحث الجزائري في التصوف والطرق الصوفية، المرجعيات العريقة للبوني وغزارة مؤلفاته، حيث يحصي ما لا يقلّ عن مائة كتاب نفيس أبرزها "شمس المعارف الكبرى" و"منبر الحكمة".
ويحيل جاب الخير إلى أنّه فضلا عن مرجعيات البوني المغربية التي يرفعها لأبي مدين شعيب التلمساني والمشرقية التي تربطه بشيخه المباشر أبي عبد الله شمس الدين الأصفهاني الذي تتصل سلسلته بجابر بن حيان وأبي بكر الرازي الذين اتصلا كلاهما بالتعليم الباطني للإمام جعفر الصادق.
كما يشير محدثنا، إلى أنّ البوني لم يغفل عن ذكر أفلاطون، أرسطو، فيثاغور، أبوقراط، هرمس مثلث العظمة، ذو القرنين فضلا عن المنجمين الكلدانيين، الصابئة والبابليين، ويصرح البوني في كتاباته أنه عثر على مخبأ تحت أهرامات أخميم بأعالي النيل، مليء بالمخطوطات التي تعود لحقبة ما قبل الطوفان والتي يمكن مقايستها مع بردي Rhind المحفوظ بالمتحف البريطاني، وبردي Golenischev المعروف ببردي موسكو والأسطوانة الجلدية وألواح أخميم المرتبطة بكسور عين حورس والمعادلات الخوارزمية المرتبطة بالأشكال الدينية والرموز الغريبة المثيرة للصورة الأكثر عجائبية للرياضيات.
ويقول جاب الخير وهو إعلامي أيضا أنّ البوني المتوفى في تونس (يُتردد أيضا أنّه قضى في مصر)، بجانب ريادته للعلوم الباطنية التي تنتمي إلى الحقائق الصوفية (ما يقابل علوم الظاهر/الشريعة)، انفرد كذلك بكونه أشهر المصنفين العرب في صناعة الكيمياء والعلوم الخفية في ذخيرته الباطنية الذائعة الصيت الموسومة بـ"شمس المعارف الكبرى"، هذه الأخيرة كرّست الارتباطات القائمة بين الحروف والعناصر الأربعة للطبيعة، السماوات السبع، الكواكب، البروج الإثني عشر والشخوصات الملائكية. بالنظر إلى عددها البالغ 28 حرفا توافق الأبجدية العربية منازل القمر.
وبرسم ملتقى احتضنته الجزائر قبل أسبوعين بمشاركة باحثين وأكاديميين من عشرين دولة، تطرقوا بإسهاب إلى سيرة العلاّمة البوني، أشار كل من "سليمان حاشي" مدير مركز البحث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا، الأديب الجزائري "رشيد بوجدرة" وكذا "سميح جيهان" الأستاذ بجامعة اسطنبول (تركيا)، إلى أنّ البوني لطالما أبرز تأثير ماهية الإنسان الكامل في التصوف التطبيقي، ما جعله رمزا للسخاء العلمي والإشعاع الفكري التصوفي.
ويضاهي كتاب "شمس المعارف" للبوني مصنّف "غاية الحكيم" المؤلف أواسط القرن الحادي عشر والذي ترجم إلى اللاتينية بأمر ملك قشتالة ألفونس العاشر المدعو بالملك العالم نهاية الخمسينيات من المائة الثانية بعد الألف للميلاد والمنسوب للعالم العربي في الرياضيات والكيمياء والفلك المجريطي (950-1008م)، ولا يزال "شمس المعارف" يعد أهم مرجع في العلوم الباطنية والممارسات الكيميائية فضلا عن تركيب الحروف والأعداد والنظر في مفعولها ليس فقط في العالم الإسلامي بل وحتى في أوروبا وأمريكا، أين يحتمل – بحسب جاب الخير - أن يكون الكاتب أ.ب. لوفكرافت H.P. Lovecraft (1890-1937م) المعروف بكتاباته المرعبة والخيايلية قد استلهم من "شمس المعارف" في كتابة مؤلفه الشهير Necronomicon تماما كما فعل قبله الصيدلي الفرنسي ميشال نوسترودام Michel de Nostredame (1503 – 1566 م) المعروف بـNostradamus) والمشهور بنبوءاته لمسار العالم.
ويعتبر علم الحروف والألفاظ الذي تنبني على أساسه السيمياء علما كونيا لطالما استطرد ابن خلدون في ذكره عبر مقدمته الشهيرة، بيد أنّ جاب الخير يقدّر باحتمالية انحراف هذه التسمية لغويا، بحيث تشير في معناها الشائع إلى علم الجفر الشرعي من المصدر العربي كيمياء.
والحال أن الحروفية لا تزال تسعى مشرقا ومغربا لتطوير معايير جمالية وأدبية وشعرية وعلمية ولاهوتية جديدة ولا تأل جهدا في سبيل توسعة نطاق بحثها إلى سائر فروع المعرفة ومجالات الكون كالعمران، علم النفس، الفيزياء، الكيمياء، وغيرها.
وبرز علم الحروفية في القوقاز في حدود القرن الرابع عشر أين عرفت رواجا كبيرا بفضل الهمة الخارقة للصوفي الكبير فضل الله نعيمي أسترابادي أحد ورثة تعاليم الحلاج، ابن عربي وجلال الدين الرومي عبر أهم مؤلفاته "جاودان نامه" أو كتاب الخلود قبل أن يعدم من طرف ميران شاه نجل أمير تيمور عام 1394 بالقرب من قلعة آلنجه بمقاطعة نخجوان بآذربيجان.
بيد أن التصوف الحروفي الذي انتقل بفضل الشاعر عماد الدين نسيمي تلميذ أسترابادي، واصل مسيرته في الأنضول وبلاد البلقان أين احتفظ بإرثه الروحي في نطاق الطريقة البكتاشية وهي طريقة فتوة منحدرة من الفنون القتالية للرماة المرابطين في بغداد انخرطت في قيدها العساكر الانكشارية، وامتد إشعاع الطريقة شرقا حتى وصل بلاد ما وراء النهر بآسيا الوسطى انطلاقا من أفغانستان بفضل المساعي الحثيثة للشاعر الصوفي الشهير قاسم الأنوار.
بينما وصل التصوف الحروفي إلى أوروبا الغربية في خمسينيات القرن الماضي، في شكل اختراقات خطية أو تهليلات كتابية قائمة على تنظيم خاص للحروف والأشكال من إبداع الكاتب السينمائي والشاعر الفرنسي Jean-Isidore Goldstein، بتخليه عن استعمال الكلمات ارتبطت هذه المدرسة التي خلفت المدرسة الدادائية وعاصرت الفلسفة الوجودية بشاعرية الأصوات وحركة وموسيقى الأبجديات.
وثمة الكثير من الأسماء الصوفية الجزائرية الكبيرة التي ما تزال خفية وتحتاج إلى التعريف بها عبر العالم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر "سيدي محمد بن عبد الرحمن القشطولي الأزهري الشريف الحسني" الولي الصالح الكبير صاحب البراهين الساطعة ومؤسس الطريقة الرحمانية الخلوتية، الذي ترك تراثا صوفيا لا يقدر بثمن، وهو الآن محل دراسات وبحث عميق في مخابر الدراسات الروحانية والباراسيكولوجية ومخابر الطاقة البشرية عبر العالم.
ومن هؤلاء أيضا "سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي الدرقاوي" مؤسس الطريقة العلاوية، التي تضم أتباعا في أماكن كثيرة من العالم وبخاصة أوروبا حيث كانت سببا في إسلام عدد كبير من الأوروبيين الذين قاموا بترجمة تراث الشيخ العلاوي إلى العديد من اللغات.
مفهوم الصوفية للإنسان الكامل
بشأن ماهية الإنسان الكامل في التصوف التطبيقي، يورد جاب الخير أنّ كلمة الصوفية اتفقت على أن النموذج الأول للإنسان الكامل هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن وراثة الولي لنبي ما من الأنبياء، هي في الواقع وراثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والأنبياء في واقع الأمر، وكما يقول ابن عربي، نواب للنبي في عالم الخلق، وهو صلى الله عليه وآله وسلم روحٌ مجردٌ عارفٌ بذلك قبل نشأة جسمه. قيل له : متى كنت نبيا ؟ فقال:"كنت نبيا وآدم بين الماء والطين، أي إنه عندما كان نبيا، لم يوجد آدم بعد". إلى أن وصل زمان ظهور جسده المطهر صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يبق حكم لنائب من نوابه وهم الرسل والأنبياء عليهم السلام.
لذلك فإن مسألة "الإنسان الكامل" ترجع - بمنظار جاب الخير- في الواقع إلى "الحقيقة المحمدية" التي تعد من أهم المفاهيم الإسلامية وأكثرها أصالة وعمقا، وهو المفهوم الذي يرمز إليه بـ"النور المحمدي" أو "نور محمد"، وهذا لم يكن بدعة أو عملا مخترعا، بل على العكس من ذلك تماما، لأن الربط الوثيق بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين رمز "النور"، هو ربط مستمد من نصوص القرآن الحكيم نفسه. ففي الآية 46 من سورة الأحزاب، وصفٌ صريح للنبي بأنه سراج منير، وفي الآية 15 من سورة المائدة:"قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين". فالنور في هذه الآيات كما يقول المفسرون، هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويلاحظ جاب الخير أنّ المسلمين لا يطلقون وصف النور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إطلاقا بالمعنى المجازي البسيط، بل يطلقونه إطلاقا حقيقيا، يؤيد ذلك ما جاء في سيرة ابن إسحاق صاحب السيرة والذي ولد بعد وفاة النبي بسبعين عاما فقط، يذكر في سيرة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قبل زواجه بالسيدة آمنة والدة النبي، نظرت إليه امرأة وهو يسير في الطريق وطلبت إليه أن يتزوجها وتدفع له مئة من الإبل، لكنه لم يفعل. فلما دخل بالسيدة آمنة وخرج من عندها، لقي المرأة التي اعترضته من قبل، غير أنها لم تكترث به. فقال لها:مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت علي بالأمس ؟ قالت له : "فارقك النور الذي كان معك بالأمس. فليس لي بك اليوم حاجة".
ويورد جاب الخير حديثٌ شريف ذكر فيه "النور المحمدي" بشكل واضح، وهو حتى وإن لم يرد في كتب الصحاح، إلا أنه يعتبر أصلا هاما في مسألة أولية النور المحمدي وأسبقيته على الخلق، يقول جابر بن عبد الله : قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال : يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء، نور نبيك من نوره".(راجع : اسماعيل العجلوني، كشف الخفاء. والزرقاني، شرح المواهب. وللحديث عدة ورايات متشابهة وردت في جامع الترمذي وسنن أبي داود ومسند أحمد).
وعلى غرار كثير من الدارسين، يلفت الباحث الجزائري في التصوف والطرق الصوفية، إلى نصوص إسلامية قديمة أكّدت انتباه العارفين بالله من أهل الإسلام إلى حقيقة "النور المحمدي" ووعيهم المتواصل بأبعادها ودلالاتها العرفانية، ففي تفسير الإمام جعفر الصادق للآية الأولى من سورة القلم التي تبدأ بحرف من الحروف الأربع عشرة، وهي الأحرف النورانية الفردة التي تظهر في مُفتتح تسع وعشرين 29 سورة من سور القرآن، يقول الإمام جعفر:"نون هو نور الأزلية الذي اخترع منه الأكوان كلها، فجعل ذلك لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك قيل له : وإنك لعلى خلق عظيم (الآية 04 من السورة نفسها) أي على النور الذي خُصصت به في الأزل".
والحلاج (ت 309/922) في كتاب الطواسين وهو يفسر قوله تعالى (النور/35):"الله نور السموات والأرض"، يماثل بين "المشكاة" المذكورة في الآية الكريمة وبين شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويماثل بين المصباح الموجود في "المشكاة" وبين "النور المحمدي"، ويضفي على البطن الذي ينتمي إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصف "لا شرقية ولا غربية"، ومن ثم يشبهه بـ"الشجرة المباركة" التي يوقد زيتها ضوء المصباح كما هو مذكورٌ في الآية الكريمة. يقول الحلاج :"أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، العلوم كلها قطرة من بحره، الحكم كلها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره، هو الأول في الوصلة، هو الآخر في النبوة".
وينتهي جاب الخير إلى أنّ تبجيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتوقيره بهذه الصورة التي تنيط به وظيفة كونية وراء وظيفته الرسالية التاريخية، لم يكن قاصرا أو محصورا في دائرة ضيقة من النصوص الصوفية التقليدية، بل كان منتشرا أيضا في نصوص ذائعة ومشهورة مثل كتاب الشفاء للقاضي عياض، الفقيه المالكي الشهير (544/1149) وكتاب المواقف للأمير عبد القادر الجزائري.
تاريخ الإضافة : 31/12/2010
مضاف من طرف : soufisafi
صاحب المقال : كامل الشيرازي الجزائر
المصدر : elaph.com