في الأيام القليلة الماضية طرحت مشكلات الجالية المغاربية مجددا في فرنسا، حيث طلب منها أن تندمج اندماجا قهريا وبدون خلق القواعد المادية والمناخ الثقافي والروحي التعددي لطمأنتها بأنها لها الحق في الحياة والتمتع بهويتها. ومن هنا ينظر لهذا النوع من الإدماج نظرة نقدية لأنه يتناقض كلية مع طبيعة المجتمعات متعددة الإثنيات والقوميات والديانات.
وكما نعرف فإن الجالية المغاربية في القارة الأوروبية تاريخ طويل ومريض، وهي تعتبر من أضخم الجاليات الأجنبية في هذه القارة من ناحية التعداد البشري. إنه لحد الآن لا توجد إحصائيات دقيقة بهذا الشأن، ورغم ذلك فإنها تقدر بالملايين. ويعيد المؤرخون الهجرة إلى أوروبا من المنطقة المغاربية على نحو خاص من الجزائر وتونس والمغرب إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي للمنطقة، ولكنها تكثفت أكثر في مرحلة الاستعمار وفي مرحلة ما بعد استقلال الدول المغاربية حتى أصبحت ظاهرة قائمة بذاتها.
لقد لعبت الهجرة العمالية هذه أدوارا اقتصادية مهمة سواء داخل المجتمعات الأوروبية، أو في مجتمعات أوطانهم الأصلية. ومما يؤسف له أنه لا توجد دراسات كثيرة وجادة تتناول تاريخ الجالية في أوروبا وواقعها الاجتماعي والثقافي، واللغوي والإثني، وكما لعبت أيضا أدوارا فاعلة أثناء الكفاح التحرري، ولكن لم يؤرخ لها مؤرخونا ما عدا محاولة هنا أو هناك حيث لا ترقى إلى مستوى الظاهرة المتميزة بالاستمرارية.
وفي الوقت الحاضر فإن الجالية المغاربية في القارة الأوروبية تزداد اتساعا وتنوعا، حيث إنها لم تعد فقط مشكلة من العمال البسطاء، بل نسيجها يضم أصحاب رؤوس الأموال والمثقفين من إعلاميين وأساتذة جامعات وأدباء وفنانين وسياسيين يقدر عددهم بالآلاف. وبالنظر إلى هذا التنوع فإن عناصر المشكلة للجالية المغاربية في أوروبا ممكن أن تكون المرشح الأول للقيام بالحوار بين الضفة الجنوبية والضفة الشمالية، وبتمتين علاقات التواصل مع المجتمعات الغربية بشكل عام. ولكن إنجاز هذا الدور المهم يحتاج إلى تخطيط وتدعيم مالي وأدبي من بلداننا وبالتحديد من قبل الوزارات المكلفة بشؤون الهجرة والمهاجرين في الحكومات المتعاقبة.
إن المشكلة الأولى التي تعاني منها الجالية المغاربية تتمثل في الاستلاب الثقافي والتنصل من الهوية الوطنية الأصلية، وخاصة بالنسبة للأجيال التي ولدت وتربت وتعلمت في المهجر الأوروبي. إن هذه الأجيال مهددة بنسيان لغات أوطانها الأصلية وبعدم الحس بالانتماء إليها تاريخيا ووجدانيا، ولهذا السبب فإنه ينبغي على الأنظمة الحاكمة بالمنطقة المغاربية إعادة النظر جذريا في سياساتها المتعلقة بجالياتها المهاجرة، لأنها ليست جدية ولم تنجز أي شيء جوهري، ما عدا القيام ببعض الأعمال الإدارية على مستوى القنصليات.
لكي يتم التصدي لظاهرة الاستلاب الثقافي ينبغي العمل على عدة جبهات منها الإعلام بكل أنماطه، والتربية والتعليم، وتكوين الجمعيات والمنظمات، والاتحادات، والسياحة المنظمة والهادفة وغيرها من الآليات الكفيلة بربط مغتربينا بتاريخهم الوطني وقيم مجتمعاتهم، وذاكرتهم الثقافية.
بخصوص الإعلام فإن المطلوب تشجيع الصحف المغاربية بين أوساط الجالية، سواء تلك الناطقة باللغة الوطنية أو تلك الناطقة باللغات الأوروبية. إلى جانب هذا فإنه من الضروري إنشاء فضائيات متخصصة بشؤون المهاجرين داخل المجتمعات الأوروبية على أن تكون معبرة عن تفاصيل حياتهم ومشاغلهم اليومية. فالأجهزة الإعلامية مقصرة فعلا في حق الملايين من مهاجرينا؛ إنها لا تنطق بلسانهم ولا تعكس واقعهم المتميز.
وفي تقديرنا فإن هناك صيغة إعلامية أخرى يمكن أن تلعب دورا استثنائيا في إبراز نشاطات الجالية المغاربية بكل تفرعاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية، وتتمثل في تخصيص ميزانيات لإنشاء صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات لهذه الجالية، وتسند إليها لتكون منابر خاصة بها مع القيام بتوزيعها داخل الأقطار المغاربية على نطاق واسع لتعريف مواطنينا وعلى نحو دائم بواقع جزء من شعبهم المهاجر.
أما إذا جئنا إلى عنصر آخر يحتل الصادرة وهو التربية والتعليم، فإن أبناء وبنات جاليتنا في أوروبا بحاجة ماسة إلى بنية تربوية وتعليمية تحميهم من الذوبان الكامل في الثقافات الغربية التي ينغمسون فيها في الشارع وفضاء العمل وفي المدارس والمعاهد والجامعات الأوروبية فضلا عن البيئة الإعلامية التي تحيط بهم من كل جهة وهي ذات مضمون أوروبي- غربي خالص. إنه بالإمكان إنشاء المدارس والمعاهد وفروع جامعية تكرس لتدريس العناصر المشكلة لتاريخ وثقافة المنطقة المغاربية جنبا إلى جنب مع العناصر الثقافية والتاريخية الإنسانية الأخرى. فالقوانين الأوروبية لا تمنع بلداننا من تكوين منظومة تربوية متكاملة في الفضاء الأوروبي، وبالعكس فإنها ترحب بمشاريع من هذا النوع.
إن الدعوة إلى بناء هذا النوع من المنظومة التربوية لا تعني الانغلاق على ثقافات وقيم المجتمعات الأوروبية، بل إنها ستقوم بمهمة حماية الذاكرة الوطنية من جهة والتفتح على المضامين الإنسانية للحضارة الأوروبية، الغربية من جهة أخرى.
ما دامت الدول المغاربية تملك مؤسسة الإتحاد المغاربي فإنها قادرة أن تضع مسؤولية المنظومة التربوية على كاهل الإتحاد. إنني أعني بذلك أن بلداننا في الإتحاد المغاربي مدعوة أن تخصص ميزانية جماعية لإنشاء أسس سليمة لهذه المنظومة المنشودة والضرورية مثل الأوكسجين. ومما لا شك فيه أن هناك بعض الجهود التي بذلت في هذا المجال ولكنها ناقصة وغير كافية. إنه لا بد من توسيع نطاق المنظومة التربوية في إطار مغاربي موحد تكون أيضا بمثابة فضاء لتطوير الوعي المغاربي الوحدوي في المجهر.
تعتبر الروابط والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي والخيري، والرياضي، والثقافي والفني من أهم الفضاءات التي يلتقي فيها أبناء وبنات جالياتنا المغاربية للتحاور، وتبادل الخبرات، وممارسة مختلف النشاطات. وحسب علمنا فإن هناك عددا من الروابط والجمعيات وهي من تأسيس مجموعات مغاربية مهاجرة. ولكن يلاحظ أن نشاطاتها لا تمولها سفاراتنا أو وزارات الهجرة ببلداننا، إنها تمول من قبل الجمعيات الخيرية والمؤسسات التابعة للدول الأوروبية. وزيادة على ذلك فإن هذه الجمعيات والروابط لا يربطها رابط بالجمعيات والاتحادات المهنية والثقافية المتواجدة في المنطقة المغاربية. إن هذا الانقطاع فيما بينها يجعل منها عالمين منفصلين انفصالا كليا، وأكثر من ذلك فإنه لا توجد تغطية إعلامية في الأجهزة الإعلامية، داخل الأقطار المغاربية.
تتمتع البلدان المغاربية بفضاءات سياحية متميزة، سواء تعلق ذلك بالمناخ والطبيعة الخلابة، أو بالجوانب الحضارية الثقافية والتراث الشعبي. وكما هو معروف فإن السياحة تمثل مدرسة ثقافية وحضارية قائمة بذاتها. ومن هنا ونظرا لهذه الخصوصية فإن الجالية المغاربية في أوروبا في حاجة ماسة إلى هياكل وآليات تشجعها على السياحة الفردية والجماعية داخل البلدان المغاربية. ولحد الآن لم تنشئ الدول المغاربية، سواء على المستوى القطري أو على مستوى الإتحاد المغاربي، وكالات ووسائل إعلامية سياحية متطورة ومتخصصة في استقطاب جاليتها المغاربية إلى الفضاء السياحي المغاربي.
نعم هناك بعض الوكالات، غير أن ثقافاتها السياحية لا تزال دون المستوى. فالدول الأوروبية تعمل بآلية السياحة الجماعية الهادفة والتي تجمع بين الترفيه والتعلم من الحضارات والمدنيات والثقافات الأجنبية. فلماذا لا نعمل نحن بهذا النمط من السياحة؟ ولماذا لا نطبقها على أفراد جاليتنا الذين يعدون بالملايين؟
لبلداننا سفارات وقنصليات في جميع البلدان الأوروبية، من المفترض أن تكون مهمتها ذات شقين: الأول يتمثل في التمثيل الدبلوماسي في البلد الأجنبي، أما الشق الثاني فيتلخص في رعاية أفراد الجالية التي ينتمي إليها الطاقم الدبلوماسي المعين لأداء هذه المهمة. ويلاحظ بأن النشاط القنصلي لقنصلياتنا غالبا ما ينحصر في الأمور الإدارية البحتة على نحو روتيني وبيروقراطي. وحسب علمي لا تصدر أية سفارة مغاربية نشرة شهرية إخبارية توضع بين أيدي أفراد الجالية دون أي استثناء. وكما نعلم فإن النسبة الكبرى من أبناء وبنات جالياتنا محرومة فعلا من الأخبار التي تتعلق بالقوانين التي تصدر ببلداننا أو تتعلق بنشاطات السفارات ذاتها.
أليست مهمة الملحق الإعلامي أو الصحفي بسفارة هذا القطر المغاربي أو ذاك الإشراف على الجالية إعلاميا؟ أليست مهمة الملحق الثقافي تدعيم وتنشيط الحياة الثقافية والفنية بين أوساط جالياتنا؟ مع الأسف الشديد فلا الملحق الإعلامي، ولا الملحق الثقافي، يقوم بالمسؤولية التي عين أصلا للاضطلاع بها في المهجر.
إنه حان الأوان أن تعيد بلداننا النظر في سياساتها تجاه مغتربينا في المهاجر الغربية وغيرها من المهاجر؛ ودون ذلك فإن جزءا من شعبنا سيبقى معزولا ومهددا في ذاكرته الوطنية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 23/01/2011
مضاف من طرف : fakhri
صاحب المقال : أزراج عمر
المصدر : العرب أونلاين