الجزائر

Poétique-fiction (علم الخيال - الشّعري)



Poétique-fiction (علم الخيال - الشّعري)
إن الشعر لا يتأسس على الدلالة والموسيقى، ليسربهما إلى القارئ إذ ذاك فحسب، إنه مخالف حقيقي، ورد صارم لكل دلالة تشغل حيّزا محدودا ومحددا، ولكل شكل حيزي كذلك مهما كان.
أعتقد أن الشعر إنما كان ذلك التجسد الفعلي والواقعي، لتلك الرغبة الإنسانية الخائبة الأولى، في توسيع العالم والإنسان المَطْويين في ضيق حواسهما، تلك الرغبة التي تُماهي الإنسان بهوسه الغريزي المتمثل في حلوله خارجَه، إنها تمططه لتفتحه مع الفسيح اللامرئي، إنها تلك الرغبة التي تتيح المطارَدة الأبدية (اللابُدّ) منها، لأثر الآفاق التي تفوقت برحابتها على حدود جسد الإنسان.
إن الشعر منطق بارع، مفعم بالإلغاء، يشتغل على إقصاء الأحياز كلها وإدانتها، إنه - بالأحرى - انتقائية فذة لا تتقبل مبدئيا إلا المجرد من كل حيز تجريدا، ومع ذلك فإن الشعر لن يعثر على وجوده الإنساني في ممارسة العدم، لذلك فقد كان ينبغي عليه شغل منزلة بين المنزلتين، ولأجل الإنسان، حل الشعر بين المحدد والمجرد.
إن تلبس الشعر الظاهر بالهوية الناجزة للدلالات والموسيقى، هو مرحلة قبل قرائية لا أكثر، متعلقة بالتحقق القرائي، لا بجوهر الشعر، وتأقلما شكليا مع مقتضى ومنطق الظاهرة، الذي يقتضي مما يقتضيه التشكل (للتمكن من)، وكأن ماهية الشعر، مبتوتة الصلة بكل ما هو تلقي، وبكل ما هو تأويل ربما، وبكل ما هو (بعد شعري) بعد ذلك، إن (بعد الشعري) هنا هو كل ما ينجزه الشعر في الإنسان، بعد أن يخالطه، فيتخلى عن بعض جوهره الفوق إنساني.
وهكذا يراوغ الشعر جوهره وحقيقته، في مرحلة عبوره إلينا، إن البروز في عالم الظواهر لا يعدو أن يكون للشعر غير محاولة جادة منه، ومباغتة محنكة للتخلي عن حقيقته وسويته، التي تمنعه عن الإنسان، كل ذلك لأجل إثبات وجوده المضارع لوجود الإنسان، (كأن الشعر يسكن بين الوجود والعدم، في برزخ بين النفس والجسد، هكذا يصير الشعر (بين بين إنساني، بين النفس والجسد) بدل فوق إنساني.
إن الكلمات والتي تعد سكن الشعر (القسري) غير الوثير بالتأكيد في اعتقادي، والضيق، قد أرغم الشعر عليها بادئ الأمر إرغاما لا غير.
كأن هذا الافتراض أعلاه، يستفزنا على إعادة التفكير مجددا وبجدية في هوية الشعر المختفية خلف دمغة الكلمات، وفي رغباته القبلية في التمنطق والتشعر.
يمكنني أن أتصور الشعر الآن، في بدئه، وهو يجر جرا إلى بيت الكلمات على مضض، وما هذه الحيرة التي تلازم كل مقترب منه، إلا من جراء هذه المغالطة السكنية للشعر، هل كان يجدر بالإنسان إذن إسكان الشعر في غير مسكن الكلمات؟ ما هي الإقامة التي بحث عنها الشعر يا تر؟ أم أنه كان على الإنسان توسيع بيت لغته أكثر كي تليق بطموحات الشعر الجمالية وبانطلاقه فحسب؟ أم أن أوان الشعر لم يحن بعد؟ وأن كل ما (تم) له، هو محاولات للبدء فيه فقط؟ أعتقد أن الإنسان لم يقل شعرا بعد، أعتقد أنه لم يبدأ بفعل الشعر بعد، وأعتقد كذلك أن هذه الأسئلة فيما تعلق بمسكن الشعر، ليست في متناول الشعرية، بقدر ما هي في مرمى التجريب الإنساني، وفي علم الافتراض الشعري والجمالي، في (علم الخيال الشعري) ربما.
الشعر: إنه ذلك المعنى الذي لا تهيمن عليه سطوة الأشكال الاستيعابية الخاضعة لمسكوكات (تحت طلبية)، لا يوجد شعر عمودي، وآخر مثلث، أو مربع، أو مستطيل، إن الأشكال في الشعر، والتي تحكم الظاهرة القرائية، هي نزول منه عند رغبة هذه الظاهرة وعند حدود استحقاقاتها البراغماتية.
إن الدلالة تنسل شيئا فشيئا عن حيز الأشكال، لتمرق عن نطاق تأثير سلطتها، هكذا ليعود الشعر بعد مروره إلى القارئ، في مرحلة (ما بعد التلقي) إلى سيرته الأولى التي ورطته في الابتعاد والشرود عنها، صبغة الكلمات.
إن الشعر هو أكبر من أن يكون دلالة فكرية جمالية، إنه يتجاوز الدلالة إلى حد التأنسن، يصير الشعر بعد أن تتشربه الذائقة، ليغوص في طبقاتها السفلى، وديانا حيوية، إنه منطق مختلف تماما، ذاك الذي يجعل (أرض الإنسان) تسقى من أعماقها، هكذا ليصير الشعر جزءا من الإنسان شيئا فشيئا.
إن الشعر يتجاوز الحيز الدلالي، ذاك السياج المقام بالرغبات المسبقة للقارئ الاقتصادي، الذي يقسم فيضانات الشعر الجارف إلى جرعات كؤوس محسوبة، إن الشعر يعطي الإنسان بحسب استعداداته، ووصفاته، وإن كان الشعر في اعتقادي هو الإنسان عينه.
* جامعة تيزي وزو.
عبدالقادر مهداوي
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 9
إقرأ أيضا:
* محمد مفلاح
* رولان بارت.. لازال بيننا
* قراءة النسق والسياق
* الأديب محمد مفلاح ل«لأثر»: بعد أحداث أكتوبر1988 قررت مقاربة الواقع لفهم الرموز والتقاليد
* في حضرة العطر
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)