المولد والنشأة :
الشيخ عبد الحميد بن باديس
ولد "عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس" المعروف بعبد الحميد بن باديس في (11 من ربيع الآخِر 1307 هـ= 5 من ديسمبر 1889م) بمدينة قسنطينة، ونشأ في أسرة كريمة ذات عراقة وثراء، ومشهورة بالعلم والأدب، فعنيت بتعليم ابنها وتهذيبه، فحفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتعلّم مبادئ العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ "أحمد أبو حمدان الونيسي" بجامع سيدي محمد النجار، ثم سافر إلى تونس في سنة (1326هـ= 1908م) وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتلقى العلوم الإسلامية على جماعة من أكابر علمائه، أمثال العلّامة محمد النخلي القيرواني المتوفى سنة (1342هـ= 1924م)، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي كان له تأثير كبير في التكوين اللغوي لعبد الحميد بن باديس، والشغف بالأدب العربي، والشيخ محمد الخضر الحسين، الذي هاجر إلى مصر وتولى مشيخة الأزهر.
وبعد أربع سنوات قضاها ابن باديس في تحصيل العلم بكل جدّ ونشاط، تخرج في سنة (1330هـ= 1912م) حاملاً شهادة "التطويع" ثم رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى بشيخه "حمدان الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة،
متبرّمًا من الاستعمار الفرنسي وسلطته، واشتغل هناك بتدريس الحديث، كما اتصل بعدد من علماء مصر والشام، وتتلمذ على الشيخ حسين أحمد الهندي الذي نصحه بالعودة إلى الجزائر، واستثمار علمه في الإصلاح، إذ لا خير في علم ليس بعده عمل، فعاد إلى الجزائر، وفي طريق العودة مرّ بالشام ومصر واتصل بعلمائهما، واطّلع على الأوضاع الاجتماعية الثقافية والسياسية لهما.
ابن باديس معلمًا ومربيًا
آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو التعليم، وهي
الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر لهجري،
وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.
وقد بدأ ابن باديس جهوده الإصلاحية بعد عودته من الحج، بإلقاء دروس في تفسير القرآن بالجامع الأخضر بقسطنطينة، فاستمع إليه المئات، وجذبهم حديثة العذب، وفكره الجديد، ودعوته إلى تطهير العقائد من الأوهام والأباطيل التي علقت بها، وظل ابن باديس يلقي دروسه في تفسير القرآن حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في (13 من ربيع الآخر 1357هـ= 12 من يونيو 1938م).
الشيخ الطيب العقبي رفقة الشيخ عبد الحميد بن باديس ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسطنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.
ثم بعد بضع سنوات أسس جماعة من أصحابه مكتبًا للتعليم الابتدائي في مسجد سيد بومعزة، ثم انتقل إلى مبنى الجمعية الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة (1336هـ= 1917م)، ثم تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي أنشئت في (رمضان 1349 هـ= 1931م) وتكونت هذه الجمعية من عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية،
والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم، ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.
وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية،
للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم، والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا المسلمين الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر، لأنه لا بقاء لهم إلا الإسلام، ولا بقاء للإسلام إلا بالتربية والتعليم.
وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد، وحمّل مسئولية جهل المرأة الجزائرية أولياءها، والعلماء الذين يجب عليهم أن يعلّموا الأمة، رجالها ونساءها، وقرر أنهم آثمون إثمًا كبيرًا إذا فرطوا في هذا الواجب.
وشارك ابن باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ=1931م)، وتضمن اقتراحه خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق الدراسة فيه ثماني سنوات، وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.
ابن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
احتفلت فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر في سنة (1349هـ= 1930م) فشحذ هذا الاحتفال البغيض همّة علماء المسلمين في الجزائر وحماسهم غيرتهم على دينهم ووطنهم، فتنادوا إلى إنشاء جمعية تناهض أهداف المستعمر الفرنسي، وجعلوا لها شعارًا يعبر عن اتجاههم ومقاصدهم هو: "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا"، وانتخبوا ابن باديس رئيسًا لها.
شيوخ جمعية العلماء بنادي الترقي
وقد نجحت الجمعية في توحيد الصفوف لمحاربة المستعمر الفرنسي وحشد الأمة الجزائرية ضدها، وبعث الروح الإسلامية في النفوس، ونشر العلم بين الناس، وكان إنشاء المدارس في المساجد هو أهم وسائلها في تحقيق أهدافها، بالإضافة إلى الوعّاظ الذين كانوا يجوبون المدن والقرى، لتعبئة الناس ضد المستعمر، ونشر الوعي بينهم.
وانتبهت فرنسا إلى خطر هذه التعبئة، وخشيت من انتشار الوعي لإسلامي؛ فعطّلت المدارس، وزجّت بالمدرسين في السجون، وأصدر المسئول الفرنسي عن الأمن في الجزائر، في عام (1352هـ= 1933م) تعليمات مشددة بمراقبة العلماء مراقبة دقيقة، وحرّم على غير المصرح لهم من قبل الإدارة الفرنسية باعتلاء منابر المساجد، ولكي يشرف على تنفيذ هذه الأوامر، عيّن نفسه رئيسًا للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
بعض شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
ولكي ندرك أهمية ما قام به ابن باديس ورفاقه من العلماء الغيورين، يجب أن نعلم أن فرنسا منذ أن وطأت قدماها الجزائر سنة (1246 هـ= 1830م) ملت على القضاء على منابع الثقافة الإسلامية بها، فأغلقت نحوا من ألف مدرسة ابتدائية وثانوية وعالية، كانت تضم مائة وخمسين ألف طالب أو يزيدون، ووضعت قيودًا مهنية على فتح المدارس، التي قصرتها على حفظ القرآن لا غير، مع عدم التعرض لتفسير آيات القرآن، وبخاصة الآيات التي تدعو إلى التحرر، وتنادي بمقاومة الظلم والاستبداد، وعدم دراسة تاريخ الجزائر، والتاريخ العربي الإسلامي، والأدب العربي، وتحريم دراسة المواد العلمية والرياضية.
إسهامات ابن باديس السياسية
لم يكن ابن باديس مصلحًا فحسب، بل كان مجاهدًا سياسيًا، مجاهرًا بعدم رعية الاحتلال الفرنسي، وأنه حكم استبدادي غير إنساني، يتناقض مع ما تزعمه من أن الجزائر فرنسية، وأحيا فكرة الوطن الجزائري بعد أن ظنّ كثيرون أن فرنسا نجحت في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية، ودخل في معركة مع الحاكم الفرنسي سنة (1352هـ= 1933م) واتهمه بالتدخل في الشئون الدينية للجزائر على نحو مخالف للدين والقانون الفرنسي، وأفشل فكرة اندماج الجزائر في فرنسا التي خُدع بها كثير من الجزائريين سنة (1353 هـ= 1936م).
ودعا نواب الأمة الجزائريين إلى قطع حبال الأمل في الاتفاق مع لاستعمار، وضرورة الثقة بالنفس، وخاطبهم بقوله: "حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب أمة ترى –أو ترى أكثريتها- ذلك كثيرا علينا…! ويسمعنا كثير منها في شخصيتنا الإسلامية ما يمس كرامتنا"، وأعلن رفضه مساعدة فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
بعض شيوخ و علماء الجزائر
وكانت الصحف التي يصدرها أو يشارك في الكتابة بها من أهم وسائله في نشر أفكاره الإصلاحية، فأصدر جريدة "المنتقد" سنة (1345 هـ= 926م) وتولى رئاستها بنفسه، لكن المحتل عطّلها؛ فأصدر جريدة "الشهاب" واستمرت في الصدور حتى سنة (1358هـ= 1939م) واشترك في تحرير الصحف التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مثل "السنة" و"الصراط" و"البصائر".
وظل هذا المصلح -رغم مشاركته في السياسة- يواصل رسالته الأولى التي لم تشغله عنها صوارف الحياة، أو مكائد خصومه من بعض الصوفية أذيال المستعمر، أو مؤامرات فرنسا وحربها لرسالته، وبقي تعليم الأمة هو غايته الحقيقية، وإحياء الروح الإسلامية هو هدفه السامق، وبث الأخلاق الإسلامية هو شغله الشاغل، وقد أتت دعوته ثمارها، فتحررت الجزائر من براثن الاحتلال الفرنسي، وإن ظلت تعاني من آثاره.
وتوفي ابن باديس في (8 من ربيع الأول 1359 هـ= 16 من إبريل 1940م)(**).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/04/2013
مضاف من طرف : ahlamennahar