الجزائر

هكذا نواجه متاعب الحياة



قضى الله – جلّ وعلا – بحكمته أن يجعل هذه الحياة الدّنيا دار متاعب ومصاعب، لا مناص للإنسان من أن يعاني بعض نوائبها ويكابد بعض مشاقّها، حتى لا ينسى أنّه يعيش في دار فناء وعناء سمّاها الله "دنيا" لأنّها قصيرة العمر وضِيعة القدر، ويتطلّعَ إلى الدّار الحقيقية الباقية وإلى السّعادة الكاملة التي لا يشوبها كدر ولا ينغّصها ضجر، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.لا بدّ للشّاب من أن يجد بعض المصاعب والمتاعب في دراسته وفي طريقه لتحصيل وظيفةٍ يكسب منها رزقه، ويجدَ مصاعبَ ومتاعبَ على طريق تحصيل السكن وعلى طريق الزّواج وبناء الأسرة.. لا بدّ للمرء من أن يجد بعض المتاعب في برّ والديه وفي عشرة زوجته وتربية وتنشئة أبنائه، ولا بدّ له من أن يجد بعض المصاعب في سعيه لكسب رزقه، وفي مكان عمله مع المسؤولين ومع زملاء العمل.
اقتضت حكمة الله أن يمتزج كلّ خير وتمتزجَ كلّ نعمة ببعض المنغّصات، حتى لا تتعلّق القلوب بهذه الدّنيا الفانية وتنسى الموت والآخرة والدار الباقية، وحتى لا تزهد في الجنّة ونعيمها.. لولا مصاعب هذه الدّنيا ومتاعبُها لنسينا ضعفنا وقلّةَ حيلتنا وحاجتَنا إلى رحمة مولانا وخالقنا، ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)).. بل لولا مصاعب الدّنيا ومتاعبُها لربّما طغى كثير منّا وعلَوا في الأرض، وربّما سوّل لهم الشّيطان أنّهم مستغنون عن خالقهم جلّ شأنه.. المصاعبُ والمتاعب والنّوائب والمصائب تُعَرّف الإنسان قدرَه، وتذكّره بحاجته إلى من بيده ملكوت السماوات والأرض ومن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء سبحانه.
لذلك فمن أعظم الأسباب التي تعين على مواجهة مصاعب الحياة ومتاعبها، أن يوثّق العبد المؤمن صلتَه بالله، فيحفظَ حدودَه جلّ في علاه، ويسخّر جوارحه في طاعة مولاه، ويحفظَها عن معصية خالقه وتجاوز حدوده؛ لا ينظر ببصره إلى ما حرّم الله، ولا يسمع بأذنيه ما حرّم الله، ولا يحرّك لسانه بما يغضب مولاه، ولا يعطي ويأخذُ بيده ما حرّم الله، ولا يسعى بقدميه إلى ما نهاه عنه ربّه جلّ في علاه…
يُروى أنّ الإمام أبا الطيب الطبري، المتوفّى رحمه الله سنة 450ه عن عمر ناهز 102 سنة، كان في أواخر أيام عمره ممتَّعا ببصره وسمعه وكلّ جوارحه، حتى إنّه ركب يوما سفينة، فلمّا أراد أن ينزل منها، قفز قفزة يعجز عنها الشّباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيّب؟ فقال: هذه أعضاءُ حفظناها في الشّبيبة، تنفعنا في الكبر.. هكذا؛ من حفظ جوارحه عن معصية الله في وقت الشّباب، متّعه الله بها في وقت الشّيخوخة.. لهذا قال نبيّ الهدى -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لابن عباس وكان يومها غلاما فتيا: "يا غلام، إنّي أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده تجاهك".
ومن الأسباب المعينة –كذلك- على مواجهة مصاعب الحياة ومتاعبها، أن يفرّ العبد المؤمن بضُعفه وقلّة حيلته إلى مولاه سبحانه، ليدعوَه ويسألَه ويستعينَ به، ولهذا بعد أن قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لابن عبّاس "احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده تجاهك"، قال: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف".. إنّه لا أروع ولا أهنأ ولا أنفع في هذه الدّنيا من أن يتوجّه العبد المؤمن بقلبه وكلّ جوارحه إلى الله، أن يعيش وقلبُه عامر باليقين بأنّ مقاليد الأمور كلَّها بيد الخالق سبحانه، لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع؛ فيتوجّه برجائه ودعائه واستعانته إليه وحده.. قال الأحنف بن قيس رحمه الله: شكوت إلى عمّي وجعاً في بطني، فنهرني وقال: "إذا نزل بك شيء فلا تشكُه إلى مخلوق مثلك، لا يقدر على دفع مثلِه عن نفسه، ولكن اُشكُ إلى من ابتلاك به، فهو قادر على أن يفرّج عنك، يا ابن أخي إحدى عينيّ هاتين ما أُبصرُ بها من أربعين سنة، وما أخبرت امراتي بذلك ولا أحداً من أهلي".
من أعظم الأسباب المعينة –كذلك- على مواجهة مصاعب الحياة ومتاعبها أن يوطّن العبد المؤمن نفسه على الصّبر والتحمّل، فما رُزق عبد مؤمن في هذه الدنيا بعد الإيمان بالله وتقواه خيرا من الصّبر، فالصبر "زاد لا ينفد، وجواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند لا يهزم، وحصن لا يهدم".. يقول الله جلّ وعلا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين)) (البقرة، 153)، ويقول سبحانه: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون)) (البقرة: 155، 156)، ويقول الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: "عجبًا لأمرِ المؤمنِ. إنّ أمرَه كلَّه خيرٌ. وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن. إن أصابته سرّاءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له".. وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بلى، قال: هذه المرأةُ السَّوْداءُ، أتَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ: إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال: إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ. فقالتْ: أصبِرُ، ولكن ادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها".. يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أفضل عيش أدركناه بالصّبر، ولو أنّ الصبر كان من الرّجال كان كريما"، ويقول مولى المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الصّبر مطية لا تكبو"، ويقول الحسن البصريّ رحمه الله: "الصّبر كنز من كنوز الجنّة، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده".. نعم، إنّه الصّبر، أفضل زاد بعد التّقوى يتزوّد به العبد المؤمن لمواجهة مصاعب ومتاعب الحياة.. رُزقَ منه الأنبياء -عليهم السّلام- حظّا وافرا وضربوا في التحلّي به أروع الأمثلة؛ فهذا مثلا نبيّ الله أيوب عليه السّلام، كان صاحب مال وأولاد، فحلّ به البلاء فجأة فقد ماله وأبناءه جميعا، وألمّ به مرض أقعده 18 سنة، كلّ ذلك وهو صابر لله، حتى إذا بلغ به البلاء مبلغه ما كان منه إلا أن قال يدعو مولاه: ((إنّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين))، فأجاب الله منه الدعاء ورفع عنه البلاء ورزقه المال والأبناء.
مصاعب الحياة ومتاعبها مهما بلغت ومهما تطاولت، فإنّها –لا شكّ- زائلة بإذن الله، يقول الله تعالى: ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)).
روى أبو الحسن المدائني، قال: رأيت بالبادية امرأة لم أرَ مثلها في الصبر والجلَد، ولا أحسن منها وجهاً ونضْرة، كانت دائمة التبسم، فقلت لها: تالله قد فعل هذا بكِ الاعتدالُ والسّرور، فقالت: كلا والله، إنّ لديّ أحزاناً وخلفي هموما، وسأخبرك، وبدأت المرأة تحكي قصتها قائلة: كان لي زوج ولي منه ابنان، فذبح أبوهما شاة في يوم الأضحى والصَّبيّان يلعبان، فقال الأكبر للأصغر: أَ تريد أن أُريك كيف ذبح أبي الشاة. قال: نعم، فذبحه، فلمّا نظر إلى الدم خاف وفزِع وهرب نحو الجبل، فأكله الذئب، فخرج أبوه يبحث عنه، فضاع ومات عطشاً، فأفردني الدّهر، قال المدائنيّ: فقلت لها: وكيف أنتِ والصبر؟ فقالت: لو دام لي الزّوج والأبناء لدمتُ لهم، ولكنّه كان جرحاً فَشُفِي .
وهذا رجل آخر من عباد الله الصّالحين نحسبه كذلك، ابتلي بزوجة ناشز إذا قال لها يمينا قالت بل شمالا، وإذا قال: أنا وأنت على نوائب الزمان، قالت: أنا ونوائب الزمان عليك. ماذا يفعل إزاء هذا البلاء؟ قال له أحد أصدقائه: يا أخي، ما ضرّ لو طلقتها؟ فقال الرجل الصالح: أخشى إن طلقتُها أن يُبتلى بها غيري فتؤذيه، ومعاذ الله أن أكون سببا في أذى عباد الله. قال: فماذا عساك أن تفعل؟ قال: أصبر على نشوزها فإنّي علمتُ أنّه أيّما رجل صبر على سوء خلق زوجته -في غير ما يتعلّق بعرضه- أعطاه الله مثلما أعطى أيوب في بلائه، وأيّما امرأة صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثلما أعطى آسية زوجة فرعون.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)