الجزائر

هذه أسرار استشهاد مليكة قايد، زنزانة بوحيرد ومقصلة بربروس



هذه أسرار استشهاد مليكة قايد، زنزانة بوحيرد ومقصلة بربروس
اكتشفت اسم المجاهدة خديجة لصفر خيار، من أحاديث المجاهدة جميلة بوحيرد وكتابات زهور ونيسي التي تكرمت وأعادت ربط صلتي بالمجاهدة التي مرّ على لقاء الأول بها أزيد من سنتين، إذ لم يكن سهلا دفع السيدة خيار للبوح ببعض ذكريات ثورة التحرير المظفرة، لأن هذه السيدة التي تخطت سنواتها السبعين، مازالت تجاهد للخروج من تلك المرحلة الأليمة التي لم تغادر مخيلتها. وقد يبدو صعبا أن تجلس في حضرة مجاهدة وتنكأ جرحا عمره أكثر من خمسين سنة لم يتوقف يوما عن النزيف، لكنها استقبلتني ذات أمسية من شهر جوان في بيتها بأعالي القبة وفتحت بحضرتي بعض الصفحات من دفتر الكفاح. في لحظة نسيتُ كل أسئلتي وتفاصيل فضولي وتركت المسجلة تلتقط حتى الحديث العابر بيننا، لأن الجلوس إلى خديجة لصفر خيار، لم يكن جلوسا إلى امرأة عادية، بقدر ما كان جلوسا في حضرة التاريخ.

لحظات الصمت طالت حتى كنت في كل مرة أعتقد أن المجاهدة تراجعت ولن تبوح بشيء، لكنها كانت كمن يستعد للصلاة والدخول إلى المحراب، بدأت في ترتيب بعض الذكريات التي قبلت أن ترويها لنا “باختصار شديد”، لأن لكل حكاية وذكرى قصة طويلة تسحق صفحات وكتب لا تسعها جلسة صحفية، اعتدلت المجاهدة في جلستها، فللذكريات الثورة قداسة عصية عن البوح وقد تحتاج لطقوس خاصة.

قصة خديجة لصفر خيار مع الثورة، لم تبدأ في جبال البويرة لكنها امتدت إلى مدارس جميعة العلماء المسلمين التي كونتها في بجاية، حيث دخلت العمل الثوري مبكرا قبل أن تصعد رفقة صديقتها خيرة بن العربي “هجيرة”، على يد الكموندو السي قاسي الذي كان مسؤولا عنها أثناء عملها الثوري بالولاية الثالثة.

ابنة 22 ربيعا تخطب أمام قادة الثورة

تقول خديجة لصفر خيار، إن صعودها إلى جبال الثورة صادف انتهاء مؤتمر الصومام في 1956 الذي تقرر فيه إعادة تنظيم مختلف هياكل الثورة، هناك التقت المجاهدة بمختلف قادة الثورة، أمثال عميروش والكولونيل محمدي السعيد وغيرهما من المجاهدين، تقول المجاهدة إن قرار صعودها إلى الجبال جاء بعد قرار قادة الثورة إعادة تنظيم وهيكلة مختلف الفرق والفيالق الثورية.. حيث كان وفد المجاهدات الذي صعد إلى الجبال يضم إلى جانب خديجة خيار واسمها الثوري “دانيا” كل من مليكة قايد وخيرة بن العربي واسمها الثوري “هجيرة” ودوجة شريف زهار ولويزة عتوز وزهرة، وعائشة حداد وفيفي.

تقول المجاهدة خديجة في هذا الصدد: “كنا نعيش في المقر الذي خصص لاجتماع الصومام وكنا نلتقي في اجتماعات خاصة لتلقى التوجيهات والتنبيهات، لأن القيادة كانت قررت الاحتفال بذكرى أول نوفمبر في الجبال”. وتواصل المجاهدة رواية شهاداتها فتقول: “كنت أنا و صديقتي هجيرة ( خيرة ابن العربي) في البيت المخصص لنا رفقة عدد من المجاهدات، فجاء إلينا الكومندو قاسي وكولونيل آخر، لأن السي قاسي هو الذي تكفل بصعودنا إلى الجبل في الولاية الثالثة، وأخبرنا بعزم القيادة على إقامة احتفال بأول نوفمبر في الجبل. ولأنني كنت أحسن العربية وأقوم بتجويد القرآن طلب مني أن ألقي خطبة بالعربية وبالقبائلية ولم يترك لي حتى الوقت لأحتج أو أناقش.. بكيتُ ولم أنم تلك الليلة لأنني خفت أن لا أكون في مستوى تلك المهمة..

مع ساعات الصباح الأولى وجدت نفسي في باحة كبيرة محاطة بالأشجار والأحجار الضخمة يتوسطها محمدي السعيد وعميروش والسي صادق وقادة آخرين. وفي حدود العاشرة صباحا تم وضع كل مجاهدة بجانب مجاهد في ترتيب منظم في الصفوف الأمامية. فجأة خاطبني محمدي السعيد قائلا:”دانيا هل أنت جاهزة؟” فأجبته “إن شاء الله أنا جاهزة”، ثم جاء أحدهم وتحدث لبعض الوقت مع محمدي السعيد ثم أعطيت إشارة البداية، فبدأت في تجويد القرآن حيث قرأت ابتداء من آية “لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق..”، ولما انتهيت من التجويد بدأت الخطاب بالعربية؛ ثم قرأت الخطاب بالقبائلية، لا أذكر الآن شيئا عن تفاصيل ما قلته لكنني أذكر أنه كان خطابا عن الثورة. استغرقت خطبتي الحماسية بعض الوقت وكانت الدموع والتأثر يقطع خطابي من حين لآخر. ولما انتهيت من الخطاب أرعد الجبل من التصفيق. كل الفرق كانت تصفق.

تأثرت كثيرا لدرجة البكاء، تلقيت تهاني حارة من جميع الإخوة، وأنا كنت أحاول أن أخبئ نفسي من الحشمة، جاءني السي قاسي وقال لي “الله يعطيك الصحة يا لالا”، فزعت وقلت له خيرا إن شاء الله؟ فقال كدت أن تقتلي كل المجاهدين لقد أغمي على الكثير منهم جراء خطابك، يومها هنئني على الخطاب و روى لي يومها الإخوة أن المجاهدين كانوا فرحين وقالوا إنهم لم يتوقعوا يوما أن تكون هناك نساء تضاهي مواقفهن عشرات الرجال!؟.

تواصل المجاهد دانيا سردها لقصتها مع الجبل.. “بعد ذلك اجتمع بنا محمدي السعيد وقال لنا إنه تم تعيين مليكة قايد ممرضة، وأنا وهجيرة مساعدتين لها، وتم تعيين الفرقة التي سنعمل معها في ضواحي واقورن بين البويرة وبجاية، وبدأت بعدها الفرق تغادر إلى ولاياتها وأماكن عملها، حيث كان يراعي أن يكون الفارق الزمني بين مغادرة فرقة وأخرى ربع ساعة تجنبا لأي طارئ أو خطر.

معركة اواقورن واستشهاد مليكة قايد

مازالت قصة استشهاد مليكة قايد ذكرى أليمة؛ بل صدمة في حياة المجاهدة لصفر خيار، لم تنجح في الخروج منها إلى يومنا هذا “لم تكن فقط صديقة وأخت و رفيقة جهادو كانت كل هذه الصفات مجتمعة”، تقول المجاهدة عن صديقتها مليكة، ورغم أنها لا تريد المجاهدة العودة إلى هذه الذكرى نلح عليها أن تجاهد ذاكرتها قليلا فتسترسل:”كانت معركة دامية وطويلة شارك فيها 3000 جندي فرنسي بقيادة بيجار، دامت لأكثر من أسبوع، حاصر فيها الفرنسيون المنطقة. ونتيجة وشاية من طرف أحد الحركى، ألقي القبض في 28 جوان بعد عشرة أشهر من العمل الثوري في الجبال، على خديجة لصفر خيار ورفيقاتها.. القدر وحده كتب لنا يومها عمرا آخر لأننا في نفس اليوم كنا قد سلمنا سلاحنا لقائد الناحية السي مولود؛ حيث كنا نحن الثلاث أنا ومليكة و هجيرة قد أُعطيت لنا قطعة سلاح من نوع “سات 67” ودربنا على استعمال السلاح وإطلاق الرصاص، وكانت القطعة تبقى شهرا في عهدة كل واحدة منا إلى أن جاء السي مولود قبل بداية المعركة وطلب منا تسلم القطعة، وقد حدث بيننا عراك لفظي لأننا رفضنا في البداية تسليمه سلاحنا، لكن في النهاية اقتنعنا وسلمنا له القطعة بعد أن وعدنا أن القائد عميروش وعد كل مجاهدي المنطقة بامتلاك قطعة سلاح من نوع “مترايات”. تأخذ المجاهدة نفسا وفاصلا ثم تكمل حديثها “يومها صعد كل مسبلي المنطقة إلى الجبل، كانوا على علم أنه سيكون يوما “كبيرا”، صعدنا إلى الجبل يومها على الساعة الثالثة مساء والمعركة الحاسمة بدأت على الرابعة مساء وأمام قلة السلاح؛ إذ لم تكن كل فرقة المجاهدين التي تضم ما بين 20 و 30 فردا مزودة كلها بالسلاح.

عندما خرجنا من المغارة التي اختبأنا فيها، كنا نرفع العلم الوطني خرجنا تحت صيحات الله أكبر”.. جذب الحركي مليكة من قميصها، كان يريد أن يظهر نفسه أمام أسياده، لكن مليكة قايد صفعته بكف يدها، فما كان منه إلا أن أفرغ فيها بندقية الصيد التي كانت في يده. لا أستطيع نسيان تلك اللحظة التي كانت فيها مليكة تتخبط في دمائها”.. تتوقف المجاهدة للحظات وهي تسرد حكايتها بتأثر كبير ثم تواصل قائلة “العسكري الفرنسي وبخ الحركي وقال له (من أعطاك الإذن لتقتلها)..

لازلت إلى اليوم أستيقظ دائما بالخلعة.. لا أستطيع نسيان منظر استشهاد مليكة”.

تواصل المجاهدة فتح أوراق الذاكرة لنا:”عندما ألقي القبض علينا ربطونا بالحبال وجرجرونا في الجبال لا أستطيع أن أصف تلك الحالة، وصلنا إلى الهليكوبتر ولم تبق منطقة من جسمنا سالمة بسبب الصخور وأشواك الجبل.. تم اقتيادنا إلى عيادة في نواحي البويرة اسمها (عيادة الإسلام) ولست أدري من أين أتوا بهذا الاسم.. هناك في بيت معزول سلمونا إلى طبيبين أشرفوا على تطبيب جروحنا لإخفاء آثار التعذيب الذي تعرضنا له ثلاثتنا، رغم ذلك أضربنا عن الطعام في اليوم التالي لإلقاء القبض علينا، بعدها تم نقلنا إلى سجن البويرة، وضعونا في زنزانة صغيرة أنا وهجيرة؛ حيث بقينا هناك لمدة ثلاثة أشهر، كنا نخرج فقط إلى الفناء الصغير جدا لربع ساعة في اليوم ونعاد بعدها إلى الزنزانة، هناك رأينا الويل.. سأذكر لك فقط أنه في عز شهر جوان أحضروا لنا فساتين من قماش البطانيات العسكرية الخشنة وطلب منا لبسها على الجلد”.

ليالي برباروس..

هكذا نودع شهداء الإعدام

تعذبنا بتلك الطريقة 3 أشهر وبعدها أخذونا إلى سركاجي”بارباروس”، وكانت أول مرة نسمع فيها وجود سجن مثل هذا، دهشنا مما رأيناه هناك، عندما دخلت الشاحنة إلى باحة السجن كنا مقيدات.. وتم وضعنا في دورتوار أو العنبر رقم 5 الواقع في آخر الرواق. كان هناك عنبر آخر و 3 زنازين للمحكوم عليهن بالإعدام. كانت زنزانة جميلة بوحيرد وأخرى لجميلة بوعزة وثالثة لباية حسين أو زهية خرف الله، لا أذكر بالضبط.. في العنبر رقم 5 التفت حولنا الأخوات.. كنا نجلس حول حصير كبير داخل القاعة، اجتمعنا كلنا وكل واحدة تروي قصتها ماذا فعلت وأين تم إلقاء القبض عليها، كانت كل واحدة منا تقص حكايتها على رفيقتها. لم نكن نعرف أن حكم الإعدام موجود في الجزائر، كنا نعرف فقط أن ثمة مجاهدون يثورون ويستشهدون لكن “الفينڤا وقطع الرؤوسن أول مرة نسمع بها “ .

وتواصل المجاهدة اطلاعنا على أجواء سجن الموت:”في سجن بارباروس، كان من السهل جدا أن ينهار الإنسان ويجن وفي أحسن الحالات يُدفع للاستسلام، كان السبيل الوحيد للبقاء على قيد المقاومة أن تبتكر الأخوات أساليبهن الخاصة في مواجهة الحروب المعنوية وكل أساليب التحطيم النفسي التي يبتكرها الاستعمار البغيض كل يوم، إذ لم يكن يكفي فقط وضع سجناء القضية والسياسيين مع سجناء الحق العام.

كان الاستعمار يريد من وراء هذا الإجراء أن يؤكد أن هؤلاء مجرد خارجين عن القانون، فكان خطأ ارتكبته فرنسا وكلفها فيما بعد ثمنا غاليا عندما انتقلت عدوى الثورة إلى سجناء الحق العام والتحق الكثير منهم بالثورة.

كان أيضا على الفتيات الشابات مواجهة حرب الجوسسة والعملاء الذين يزرعون في صفوف المجاهدين داخل السجن.. لقد أبدعت المجاهدات في سجن برباروس قانونا خاصا بهن بحيث كانت في كل ليلة تبقى اثنتان منهن ساهرات تحرسن، حتى إذا جاء زوار الليل يقتادون المجاهدين إلى المقصلة، يقوضن السجن لتوديع الذين كانوا ينتقلون يوميا من مجاهدين إلى شهداء، كانت أروقة السجن والزنزانات تشهد كل ليلية ميلاد شهيد جديد.. العساكر الفرنسيون كانوا يخشون لعنة الأرواح الطاهرة فكانوا يأتون قبل بزوغ الفجر على رؤوس أصابعهم ليقتادوا الشهيد للمقصلة التي لا تبيت في السجن حيث كانت تنقل إلى مكان آخر بمجرد أن تنهي مهمتها في فصل الرؤوس، لكن الشهيد الذي كان يقتاد إلى المقصلة على أصوات التكبيرات ينقل صوته لحناجر الأخوات تقول المجاهدة “كنت أبدأ في تجويد القرآن؛ ثم الأناشيد ثم تنطلق صيحات (الله أكبر) التي ما تلبث أن تنتقل إلى العنابر والطوابق العلوية، حيث الإخوة المجاهدون الذين يطلقون صيحاتهم، كان صدى الأصوات ينتقل إلى خارج السجن فترعد القصبة وتفصح أزقتها على أصوات الرصاص، كان حراس السجن يخافون من زغرودة النساء وصوت القرآن وأناشيد القضية فاجتهدوا في محاولة إسكاتها؛ حيث كانوا يأتون بخراطيم المياه الساخنة والقذرة ويرشون العنابر، لكن ذلك لم يثني الأخوات فعمدوا الى اقتحام الزنازين وصرع المتظاهرات بالدبابيس ولكن حتى تلك الطريقة لم تنفع في إسكات الأصوات التي كانت تودع كل ليلة الشهداء بالقرآن والأناشيد.. في اليوم الموالي يكون يوم صيام بالنسبة لنا كان قانونا بيننا أن نصوم صبيحة كل يوم يطلع على رأس شهيد مقطوعة.. كانت هذه يومياتنا في برباروس طيلة 9 أشهر.. لم يكن ثمة فرق بين الجنسين لم تكن هناك امرأة أو رجل كانت ثمة قضية..

وقائع ليلة في زنزانة جميلة بوحيرد

في حديثها عن جميلة بوحيرد لا تحتاج المجاهدة خديجة أي ربط من صحفي لذلك، سأترك المجال لذاكرتها وحدها لتروي تفاصيل اللقاء.. تقول خديجة:

..”على الساعة العاشرة من صباح خريفي، خرجت جميلة من زنزانتها القريبة من زنزانة جميلة بوعزة وكانت أول مرة أرى فيها وجه جميلة.. كان ذلك في أكتوبر 1957، وهناك تحدثنا عن العديدة من الأشياء رفقة أخوات أخريات بعد أن طلبت جميلة بحكم العادة والأسلوب الذي ينتهج مع الوافدات الجديدات الاستماع إلى قصصنا مع الثورة، كانت جميلة أيامها شابة آية في الجمال ومعجزة في الإيمان والثبات، وكنت أسألها بفضول كبير عن حالتها النفسية وهي التي تنتظر كل يوم دورها في المقصلة، لكنها كانت ذات معنويات مرتفعة كانت تقول لي “سأموت شهيدة وحياتي ليست أغلى ولا أثمن من حياة شهداء آخرين”. تأثرت بتلك الروح الوطنية المرتفعة أيما تأثر وكان الاتصال بيننا يتم يوميا عن طريق الحواجز التي كانت تفصل الدور توار عن زنزانات المحكوم عليهن بالإعدام.

ذات يوم من أيام برباروس المظلمة، حوالي الحادية عشر والنصف مساء، كنت غافية لأنني لم أستطع النوم إذا بحارسة السجن المعروفة بالسيدة “قيقلييمي”، جاءتني تقول إن جميلة تطلبني، تلك السيدة التي قام الثوار برمي زوجها من فوق أسوار السجن صارت تخاف على نفسها، وقد استمالتها جميلة ناحيتها فصارت تسرب لها الجرائد لتقرأها دون أن يتفطن باقي الحراس للأمر، جاءت تلك السيدة تنادي “الآنسة خيار..الآنسة خيار”.. طلبت منى أن أتبعها، أصابني ذعر كبير، لحظات شككت أنهم يريدون إعدامي فقمت بالتشهد والاستغفار ولحقت بها، قبل أن تقول لي أن جميلة بوحيرد تطلب رؤيتي، وهنا خفت أكثر لأنني ظننت أنهم يستعدون لإعدام جميلة ويريدون تلبية آخر رغباتها. دخلت زنزانة جميلة ووجدتها تضحك، كانت الزنزانة ضيقة جدا وفوقها كانت نافذة تطل مباشرة على المقصلة، ومن هناك كانت جميلة تسمع كل ليلة رؤوس الشهداء وهي تتساقط “صوت غزغزة الرؤوس مازال يسكن رأس جميلة إلى اليوم لا أدري كيف حافظت جميلة على عقلها”.

قالت لي جميلة “أنا من طلبت من الحارسة أن تأتي بك لنقضي الليل معا ونستمع لبعضنا، وهناك طلبت من الله أن لا يتم إعدام جميلة في تلك الليلة حتى لا أكون شاهدة على آخر لحظاتها، في تلك اللحظات ذقت عذاب الخوف، وفي تلك الليلة حكت لي كيف ألقي القبض عليها وحكت لي عن حسبية بن بوعلي، كانت صديقتها المفضلة والمقربة منها والبطل العربي بن مهيدي، هي كانت تحكي بينما كنت أنا مستغرقة في تأمل هدوئها ورزانتها، كانت شابة رائعة الجمال صافية الذهن وذات شجاعة نادرة وصلابة كبيرة. فجأة ركزت جميلة نظراتها في وجهي كأنها تبوح لي بسر ثم قالت “هل ترين هذه النافذة من هنا أستمع كل ليلة لوقع الرؤؤس المقطوعة”. كانت تروي رعب الليالي التي تقضيها في الاستماع إلى صوت الرؤوس التي تتطاير كل ليلة على المقصلة، وهنا انفجرت جميلة بالبكاء وقالت إن صوت الرؤوس تلك لا يمكن أن ينمحى من ذاكرتها، وكلما حاولت أن أصم أذني تبوء محاولاتي بالفشل”. بكت جميلة طويلا وبحرقة تلك الليلة وبكيت معها أنا”.

وكان الاستعمار الذي وضعها في تلك الزنزانة وذلك المكان قصد جديا إيذائها وقتلها حية، وهذا يعكس درجة حقده على الجزائريين. وهنا قلت لجميلة أتمنى أن لا أسمع هذا الصوت اليوم . قضيت معها ليلة أدعو الله أن يجنبنا الاستماع في تلك الليلة لأصوات الرؤوس المقطوعة.

قضيت ليلة مع جميلة، لن أنساها إلى يوم القيامة. كنا نتجاذب أطراف الحديث عندما رأيت جميلة قد استسلمت مثل طفلة صغيرة لنوم هادئ و عميق وكأنها ليست في زنزانة تنتظر المقصلة تأملت وجهها النائم مثل الملاك، ولما رأيت ذلك الثبات والوطنية الكبيرة عندها تركتها تنام لبضع الوقت، ثم لما استيقظت قلت لها “كيف تستطيعن النوم وأنت تنتظرين المقصلة؟”، فقالت: “إن ذلك بعض من فضل الله علي”. قالت هذا قبل أن تنخرط في حملة سب وشتم الاستعمار، كانت صلبة في مواقفها مثل الجدار، ومنها استمدت الشجاعة وبقيت متمسكة بوصاياها في السجن “الشهادة نعمة من الله يهبها لمن يشاء”، تلك كانت حكمتها في مواجهة ظلم الزنزانة. كانت ليلة لن أنساها ما حييت أعادت فيها جميلة تكويني وصياغاتي من جديد، هي التي غيرتني و زرعت في روح جديدة، كانت تلك المرأة معجزة من معجزات الله في ثورة الجزائر ،عندما كانت تطل كل صباح على العاشرة عبر سياج زنزانتها، كنت أتامل جمالها وأتعجب كيف يمكن لتك الرقبة أن تكون هدية المقصلة؟ كانت جميلة بوحيرد تستغرب نظراتي تلك وتكتفي بالقول “حذاري أن تنسي تلك الوصايا”؟ وفعلا لم أنس يوما وصاياها ومنها كنت أستمد زاد الشجاعة لمواجهة ظلمات السجن.

تقاسمنا كل شيء في السجن.. جميلة كانت تروى قصصها عن أمها السيدة باية تلك المرأة كم كانت تشبه ابنتها كانت تقول لها في كل زيارة “يا سعدك يا جميلة ستموتين شهيدة وكانت جميلة ترد وأنت أم الشهيدة”، كانت أمها السيدة باية آية في الجمال وتحترف الطبخ كانت سيدة من سيدات القصبة العريقة.

قضينا تسعة أشهر في برباروس قبل نقلنا لسجن الحراش كانوا في كل مرة يأتون لنقل جماعة بين النزلاء، كل 10 أيام أوأسبوعين يتم نقل نزلاء عنبر معين حتى يقينا نحن فقط أنا وهجيرة وجماعة صغيرة، وكانت معنا يما زليخة المرأة التي قتلت عسكري فرنسي لأنه أراد أن يتعدى على شرف ابنتها حوكم عليها بالإعدام؛ ثم فلتت من حكم الإعدام وانضمت إلينا. في تلك الليلة التي بقينا وحدنا نحن الثلاث لم نتمكن من النوم جراء الرعب اعتقدنا أننا سنعدم في تلك الليلة، خاصة أنهم قاموا بنقلنا إلى العنبر رقم واحد، يما زليخة كانت تقول “يا بنياتي رايحين نموتو الليلة شهدوا”، لكن كنا نشجعها بقولنا “يا يما زوليخة سنموت شهيدات أرواحنا ليست أغلى من أرواح الآخرين التي تقصف كل ليلة”، بقينا نصلي ونبتهل إلى الله. وفي تلك الليلة تم إعدام أربعة أو خمسة شهداء لا أذكر جيدا العدد، ودعناهم بنفس الطريق، كنا في غرفة نوافذها عالية جدا لكن صعدنا فوق الأسرة التي وضعناها فوق بعضها حتى نتمكن من رؤية ما يقع خارجا، على الصور المقابل كانت جماعة العساكر تمسك بأسلحتها في وجوهنا “اسكتوا وإلا أطلقنا النار”، لكن لا نحن سكتنا و لا هم أطلقوا النار ودعنا الشهداء بأصواتنا في آخر ليلة في برباروس قبل أن نقتاد إلى سجن الحراش. يومها لم يأت العساكر لاقتحام الزنزانة لإجبارنا على السكوت ربما تأكدوا أن ثلاث نساء لن يقدر على تثوري سجن افرغ من نزلائه تدريجيا كان نزلاء بارباروس ينقلون يوميا نحو المجهول”.

في زنزانات فرنسا..

معركة من أجل حق السجين

بعد الحراش نقلنا إلى فرنسا إلى سجن لروكات؛ ثم سجن غان، هناك كانت الظروف جد قاسية البرد لا يحتمل والجو جد قاسي، كنا نحتمي بأنابيب الغاز المثبت في الحيطان نسترق الدفء الذي لا يأتي، تدهورت صحتنا يوميا كانت الأخوات ينقلنا إلى المستشفيات بشكل دوري وتقارير الأطباء أكدت انه يجب أن يغير لنا السجن، كنا أول فوج من السجناء السياسيين ينتقل إلى فرنسا من لروكات إلى غان ثم أخيرا سجن بو، هناك كان الجو يشبه إلى حد كبير مناخ الجزائر، في سجن بو كنت رفقة أخوات أخريات مريم بلميهوب، فضيلة مسلي، نسيمة حبلال، أني ستينر وجاكلين ڤروج. هناك في سجن بو كانت لنا معارك منظمة مع الإدارة الفرنسية، هناك قدنا إضرابات متكررة عن الطعام ومعارك قانونية من أجل افتكاك حق الاعتراف بصفة السجين السياسي الذي لم يأت إلا بعد الإضراب الذي قادته جماعة بن بلة في السجن وشاركنا فيه نحن، ودام 17 يوما، وكنا خلاله نعيش فقط على الماء و السكر، الكثيرات تم نقلهن إلى المستشفي أمثال مريم بلميهوب و هجيرة وأخريات لم أعد أذكر جيدا الأسماء. بعدها تم الاعتراف بنا كسجناء سياسيين وصارت لنا بعض الحقوق مثل الاستفادة من مكتبة السجن، وتلقي الرسائل من الأهل والطرود كل 3 أشهر، وقد كتبت لوالدي بعث لي مصحف، كما كان لنا الحق في حمولة 3 كلغ من الكتب يرسلها الأهل إلينا، فقط الجرائد بقيت ممنوعة عنا. في سجن بو تنظمنا أكثر، هناك كنا ملتحمات أنا كنت اشرف على تعليم الأخوات اللغة العربية بعضهن أخذن الشهادة الابتدائية في اللغة العربية بعد الاستقلال، بينما كانت آني ستينر تشرف على تعليم الفرنسية في السجن كنا نبتكر طرقا للدفاع عن وجودنا وحماية أنفسنا من الانهيار، هناك كتبت جزء من كتابي “النداء الخالد”.

“آني جميلة”.. المجاهدة وعلبة الرسم

لحظات من الدموع كانت فاصلة بين المحطات الكثيرة والصعبة تركتني خلالها المجاهدة أملئ بخيالي فراغات وفواصل الصمت، كنت أتخيل كيف كانت الشابات الثائرات كنا يمارسن ألعابهن الطفولية ويحلمن بالاستقلال، مازالت خديجة خيار تحتفظ بذكرى عيد ميلادها رسم معبر عن الطبيعة في منطقة القبائل و أشعار ثورية عن تلك “القبائلية التي تحلم بالحرية” وتوقيع خلف الرسم يحمل أسماء كل رفيقات السجن.. كم كان خط “آني جميلة” يعكس قوة شخصيتها وصفاء ذهنها كأنها ما كانت تكتب من السجن؟. مازالت الورقة الصغيرة تحمل من العبق و رائحة الماضي ما يستحق أن تكئب فيه كتبا و تنجز عنه أفلاما.

من السجن خرجت خديجة لصفر خيار ورفيقاتها إلى شوارع الاستقلال احتفلوا بالاستقلال في باريس وعادت بهم جبهة التحرير إلى أرض الوطن، بعد الاستقلال كانت معركة أخرى مع “الجهاد الأكبر “لبناء الجزائر اختارت لصفر خيار أن تدخل الجامعة و أخذ شهادة الماجستير في الأدب العربي وتدرس في ثانوية عائشة أم المؤمنين وتربي أبنائها عملت أستاذة ملحقة بالمكتبة، حيث أشرفت رفقة زهور ونيسي على إعادة ترتيب أرشيف مكتبة ابن شنب التي أحرقها الفرنسيون غداة الاستقلال كانت تضم أمهات الكتب وما تم إنقاذه وأعيد ترتيبه في الثانوية التي تخرجت منها أجيال كونت أطارت الجزائر المستقلة.

أكثر من ثلاث ساعات قضيتها في بيت المجاهدة لصفر خيار احتضنت فضولي وعطشي لماض لا نعرف عنه شيئا، كانت موجعة محطات الوقوف التي عبرتها رفقتها على عجل، اعتذرت لها عن دموعها التي جرت بسب فضولي الصحفي، لكنها أهدتني في ختام الزيارة دعوة بحرارة أمومية مازالت تحمل بعضا من صدق الثائرات ووردة حمراء قطفتها بيدها من حديقة بيتها كانت بالنسبة لي هدية غالية مشيت بها بزهور في شوارع القبة، فكم هي جميلة وغالية الورود التي يغرسها المجاهدون في هذا العمر ويقدموها لجيل الاستقلال.. ترى ماذا قدمنا نحن بالمقابل؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)