الجزائر

هدوء وقدرة على مواجهة النفس والتصدي للأمور ‏حين يصبح الصيد بالصنارة علاجا للهموم




يعتبر تنظيم المعارض حدثا هاما وفرصة لاستقطاب الزوار ومناسبة بالنسبة للعديد من التجار لعرض والإشهار بمنتجاتهم وسلعهم الجديدة، لكن كثيرا ما تولد على هامش هذه التظاهرات تجارة موازية يسعى أصحابها إلى الاستفادة من وجود ذلك الجمع الغفير من الزبائن وتحقيق أرباحهم الخاصة، وهو ما وقفت عليه ''المساء'' في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر، حيث كان لها أن تحدثت إلى بعض من هؤلاء ''التجار''.
وقد اتخذ هؤلاء الطريق المؤدية إلى خيمة صالون الكتاب بمركب محمد بوضياف، تلك الطريق الطويلة التي يمر بها المئات من الزوار في هذا الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر ومن مختلف فئات المجتمع؛ أباء وأطفال، طلاب وأساتذة، مثقفين وفضوليين.
تجار لا يمكن وصفهم بتجار الأرصفة -ببساطة لعدم وجود أرصفة على تلك الطريق- بل يمكن تسميتهم بـ ''تجار حافة الطريق''. يعرضون سلعهم الخاصة على زبائن المعرض من مكسرات وشاي ومياه معدنية وبعض الحلويات على طاولات وتلك هي رفوفهم.
ومن بين هؤلاء الذين استغلوا الفرصة للاستفادة من هذه التجارة، نجد الشاب ''صالح'' الذي جاء على لسانه أنه أصبح يسجل حضوره هناك وذلك منذ انطلاق فعاليات الصالون أي منذ 21 من الشهر الجاري، وسيستمر في ذلك إلى غاية الفاتح من أكتوبر -يوم الاختتام-.
تجارته في المكسرات ''لوز وكاكاو'' مملح يصل سعرها إلى 15 و25 دج، يعتبرها تجارة مثمرة ومربحة، فهو معتاد على ممارستها في باقي أيام السنة على مستوى موقف ''شوفالي''، وتلك هي مهنته كما يقول.
وحتى لا يشعر زبون خيمة ''سيلا'' بالعطش قبل الوصول إليها جراء الحرارة، وحتى يتخلص من طعم الملوحة في فمه، فإن قارورات الماء المعدني هي الأخرى تسجل حضورها هناك على حافة الطريق بمختلف الأحجام والأسعار.
و''رفيق'' شاب بطال في العشرين من عمره، اغتنم الفرصة برفع سعر القارورات بعض الشيء، وربح بعض المال بـ 60 دج للقارورات ذات الحجم الكبير و30 للقارورات الصغيرة.
كما كان لباعة الشاي حضورا مميزا على مستوى تلك الطريق وخارج الخيمة الثقافية، ليصل سعر الكوب إلى 30 دج، حيث كانت تلك هي تجارة ''صالح'' القادم من غرداية والذي ارتدى الزي الصحراوي للقيام بعملية البيع.
وقد يكون الأمر شبيها بموسم الصيف التي يميزها تجار الشواطئ الذين يستغلون وجود ذلك الجمع الغفير على البحر لربح المال، أو تجار خبز ''الملطوع'' أو ''الشربات'' وغيرهم من الذين يستغلون ضعف الصائم أمام ما يشتهيه ويعرض عليه من مأكولات.
والجديد في سلع هؤلاء هو تلك الأكياس البلاستكية مختلفة الأحجام والتي كثيرا ما يتم بيعها على أرصفة أسواق ساحة الشهداء بومعطي(الحراش) لغرض حمل الخضروات وباقي الحاجيات، والتي تحولت وظيفتها في الصالون الدولي إلى أكياس لحمل الكتب الثقيلة لهشاشة أكياس المعرض وتمزقها السريع.
لتكون تلك هي أساس تجارة ''فريد'' - في العقد الرابع من عمره وأب لأربعة أطفال- والتي وصل سعرها لديه إلى 250 دج للكيس متوسط الحجم و350 دج بالنسبة للأكياس كبيرة الحجم، ولتعود بفائدة أكثر عليه، فإنه اعتمد على تزويد سلعه بعلب الحلوى وباقي السلع التي سبق لنا ذكرها تماما مثل زملائه.
ويعترف محدثنا أنه اضطر إلى اللجوء إلى هذا العمل بعد إقالته من منصبه كسائق في إحدى الشركات الخاصة في الفترة الأخيرة، وليستطيع تلبية حاجيات عائلته، أرغم على التجارة بمثل هذه السلع على مستوى الطريق المؤدية لمعرض الكتاب.
وقد يتساءل المتوافد على خيمة الصالون كيف يمكن أن تقوم مثل تلك التجارة في مثل هذا الفضاء الثقافي الذي ترافقه سمعة دولية ووجود عارضين وناشرين من مختلف بقاع العالم، بالإضافة إلى عدد من أفراد الشرطة وأعوان الأمن وتوفر مرافق تقدم مختلف أنواع الطعام وفضاء للجلوس والاستراحة.
ليكون رد السيد ''فريد''، تاجر الأكياس، حول هذا السؤال أن أعوان الأمن لا يمانعون وجودهم هناك طالما أنهم يحافظون على الهدوء لا يتسبون في إشاعة الفوضى.
ويستطرد قائلا أن نوع السلع المعروضة لديهم لا حاجة لها لرخصة، فتجارتهم لا تدخل في إطار صالون الكتاب وليست منافسة لما يعرض فيه.
ومن جهته يقول ''رفيق'' أن بقاءهم خارج المساحة المخصصة لفضاء الكتاب هي أهم الشروط، وطالما كانت السلع المتاجر بها غير محظورة وتقتصر على تلك المواد ولا تشكل منافسا لكتب المعرض بإعادة بيعها أو التجارة بأخرى، وغير ذلك فهي تجارة مسموح بها.
ويضيف محدثنا أن دوريات الأمن تمر كل يوم ولا تعارض وجودهم هناك، ذلك أن غرضهم الوحيد هو ربح بعض الدينارات -كما يقول- لا السرقة والإساءة إلى سمعة صالون الكتاب.
أما زبائن المعرض، فلا يضايقهم وجود هؤلاء بل عكس ذلك، يرون في الأمر طريقة لتفادي الطوابير التي تتشكل في المقهى والمطاعم المحاذية للخيمة وعدم تضييع الوقت في ذلك، بل التفرغ إلى آخر ما ينشر من كتب، وعدم الإنفاق في أمور أخرى إلا في بعض المكسرات والكتب بشكل خاص.

يعود الصيد بالصنارة في هذه الأيام الأخيرة بعد ثلاثة أشهر من قلة الاهتمام، ليكون للبحر زوار بل رفقاء جدد أقل عددا من المصطافين وأكثر ولعا به، باعتبارها متعة لكل من يمارسها وطريقة للترويح عن النفس والاختلاء بالذات.
وصيد السمك، بحسب تعابير العديد من هواتها، مدرسة تهذيبية للنفس والأخلاق تجمع بين الصبر والشعور بالرضا والطمأنينة.
أما درس الصبر فهو درس تكلف الصنارة بتدريسه على ممارسيها، وهذا بحسب قول أحد الهواة، إذ أصبح السيد ''علي'' يرى في تلك القصبة رفيقته اليومية بعد تقاعده عن العمل، ملأت أوقات فراغه بعد ثلاثين سنة من الدوام، وعلمته جميع معاني الصبر والمواظبة والحماس لتكرار المحاولة، فالصيد كما يقول ''حظ'' ومن يعرف هذه الهواية يعرف ذلك جيدا.
ويضيف محدثنا أن الحصول على سمك أبسط الأمور والأسواق موجودة لذلك، لكن للجلوس أمام البحر في انتظار تلك ''القطعة الثمينة'' لا يعتبر وقتا ضائعا، إنما مسافة زمنية تساعد الفرد في الغوص في بحر التفكير وإعادة ترتيب ما يدور في ذهنه.
فنزول صاحبنا إلى البحر -بحسب اعترافاته- ما هو إلا ربحا لأعصابه، لا للهروب من ازدحام المدينة وضوضائها فحسب، بل طريقة للفرار من الفواتير والالتزامات الاجتماعية والهموم التي وصفها بالمرض المزمن.
والسيد ''علي'' ما هو إلا عينة من فئة الصيادين الهواة الذين لا يرون في البحر وسيلة للتجارة ومصدر ربح، بل وسيلة للانقطاع عن العالم وهمومه والرمي بها في تلك المساحة الزرقاء الشاسعة التي يصفها هؤلاء بالوصفة السحرية لعلاج كل توتر واكتئاب يصيب الفرد جراء أيام العمل الشاقة، وتزيل همومه اليومية وتبعث في نفسه ذلك الشعور بالراحة والاطمئنان.
لكن كيف يمكن لهواية كهذه أن تصبح علاجا فعالا وأكيدا لتلك الأمراض النفسية والعصبية، رغم بساطة معداتها واقتصار متطلباتها في حضور صياد ورمية بالصنارة إلى الماء، والجلوس أمام البحر في انتظار تلك السمكة التي قد لا تستجيب لـذلك الخبز أو الطعم المستخدم كـ ''كمين'' لجذبها.
وقد يكون فضولا يدور في ذهن كل شخص يحاول فهم شعور هؤلاء الهواة، وسؤالا لابد من الإجابة عنه ليصبح الصيد علاجا للجميع.
وفي هذا الشأن، ارتأت ''المساء'' طرح هذا السؤال على إحدى المختصات في علم النفس للبحث في تلك الهواية المهدئة للنفوس والأعصاب، لتكشف لنا السيدة ''حنان، ف'' في معالجتها لهذا الموضوع عن تدخل ثلاثة أبعاد في هذه الهواية: التأمل والعلاج بالألوان وتأثير العطور.
أما التأمل -حسب أقوال محدثتنا- فهو تمرين هام ومفيد للجسم والعقل والروح تتصل فيه النفس بالطبيعة واللغة الوحيدة لاتصال الإنسان بنفسه، فمن منا لا يتحمل كل يوم وليلة ضغوط الحياة المستمرة ومشكلاتها في البيت أو في العمل. وهناك من يعالج نفسه بالنسيان أو التناسي أو التجاهل، لكن أصعب علاج هو ''المواجهة''، مواجهة النفس والتصدي لها وهنا صاحب هواية الصيد أكثر من يتمنع بهذه الميزة بجلوسه أمام الماء ليتفاعل مع الطبيعة، يفكر ويبحث ويتحاور مع نفسه ويفرغ همومه وحمولة ضغوطه ويتزود بطاقات متجددة.
كما أن الجلوس على شاطئ البحر ومتابعة منظره يحسن الحالة النفسية، مما يجعل شفاء الأمراض العضوية بسبب العلاقة الوثيقة بين الحالة النفسية ومناعة الجسم لمختلف الأمراض النفسية، وتضيف أن الإصغاء إلى الأمواج وإيقاعها يؤثر في الدماغ بشكل يشبه التنويم المغناطيسي فيتنقل الشخص إلى حالة الاسترخاء.
وفيما يخص العلاج بالألوان، فإن محدثتنا تقول أنها حقيقة علاجية، فالألوان التي تحيط بنا تؤثر مباشرة على أنفسنا وسرعان ما يتحول هذا التأثر إلى تأثير عضوي يجعل الجسم قابلا للإصابة ببعض الأمراض أو ما يعرف بأمراض النفس الجسمية.
وتضيف محدثتنا أن اللون الأزرق يفيد كثيرا في علاج التوتر العصبي وضغط الدم، فبمجرد وضع صورة البحر فوق المكتب تهدأ الأعصاب، لذا فإن الإنسان يبحث عن البحر وزرقته لتأثيره الباعث إلى الاتزان والراحة الجسمانية والفكرية.
وتستطرد بقولها أن الرائحة التي تنبعث من الأعشاب البحرية لها تأثير في تحسين معنويات الفرد والشعور بالاسترخاء، وصفاء الذهن والتمتع بحالة مزاجية إيجابية، كما هو الحال في العلاج بالعطور التي أثبتت شأنها دراسات علم النفس عن فاعليتها في القضاء على القلق.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)