الجزائر

نجاح مغشوش



نجاح مغشوش
ربما عسر على أي كاتب أن يكتب موضوعا يفيض خيرا وتفاؤلا إلا في بعض المناسبات كرمضان أو عن بعض الأعمال الخيرية التي تقوم بها مجموعة من الطيبين في إطار تلك الجمعيات التي تهتم بشؤون الفقراء والأرامل واليتامى، والذي يبعث القلق في نفوس المصلحين والراغبين في الخير هو التردي الذي يزداد كل يوم.لقد أصبح المنطق السلبي في حياة كثير من الناس هو السائد، ولا شك أن ذلك ينمّ عن حالة مرضية خطيرة انتشرت بين أفراد المجتمع لأسباب كثيرة. فالمجتمع الجزائري مر بظروف عسيرة بدءا بالاحتلال الذي عمل على تغيير تفكير الأفراد وزرع فتن وأفكار خطيرة، ثم جاءت مرحلة عسيرة جدا أخرى بعد خروج فرنسا حيث احتجنا إلى عقول مفكرة ومخططة وبناءة، لكن ذلك لم يتحقق، لأن فرنسا لم تَعُدْ تلميذا غبيا- كما وصفها أحد زعماء الهند الصينية- فقد أدركت أنها تستطيع أن تفعل من وراء البحار ما لا تستطيعه وهي في الجزائر بجنودها، وهذا ما أدركه ديغول الخبيث هو وأعوانه، لقد زرعت أوراما خبيثة استحال استئصالها لحد الآن، وأتذكر لما كنت تلميذا في الثانوية أننا درسنا مقولة لديغول يقول فيها: “سنعود بعد أربعين سنة”.إن هذه الفكرة جئت بها لأصل إلى فكرة أخرى غزت مقاعد الدراسة خاصة في الجامعة، وهي ظاهرة الغش التي شوهت الجامعة تشويها بشعا، يجعل الأستاذ النظيف يتثاءب وهو في رحاب الجامعة مدرسا، أو حارسا في الامتحانات، فقد لفت انتباهي وأنا في واجب حراسة طلبة قسم اللغة العربية في جامعة من جامعات بلدي هذه الظاهرة الخطيرة، والغريب في الأمر أنك يندر أن تجد طالبا أو طالبة يختار المقاعد الأمامية ويركز في الأسئلة معتمدا على نفسه، بل إن معظم الممتحنين يحضرون أنفسهم نفسيا وتخطيطا من أجل ارتكاب جريمة الغش، ولا مجال للتذكير بحديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم: “من غشنا فليس منا” لأن الوازع الديني هو آخر ما يمكن الحديث عنه للأسف الشديد.لما كان يوم إجراء امتحان المقياس الذي أدرسه كتبتُ في بداية الأسئلة العبارة التالية: “استعن باللّه ثم أجب عن الأسئلة”، وقد وظفت الحرف “ثم” بدلا من “الفاء” حتى يقرأها الطلبة على مهل ويركزوا فيها، لكني كنت كمن يضرب الماء بالعصا، أو كمن قال فيه الشاعر: “كناطح صخرة يوما ليوهنها”، فلمْ تلفت انتباه إلا ثلة ورعةً من هؤلاء، إذْ لم يبق مجال للحديث عن اللّه عز وجل، لأن الطباع قد فسدت والقلوب مرضت والعقول أصيبت بالركاكة الفكرية، تأملت في المشاهد ثم تألمت كثيرا، وقلت إلى أين سيذهب هؤلاء؟ أيعقل أن يتجه هؤلاء إلى ميادين التربية والحياة لبناء أجيال الغد؟ أجبت نفسي بنفسي لأن الواقع يدل على ذلك، بل إني تذكرت نماذج من أساتذة عملوا أو حرسوا معي سابقا كانوا من المتساهلين مع الغشاشين، بل من المشجعين على الرداءة الفكرية والخلقية.حاولت أن أقوم بعملية رجوع إلى الوراء بذاكرتي إلى من درسوا معي في الجامعة واستحضر بعض الطرائف المبكية لزملائي الذين تفننوا في الغش طوال حياتهم التعليمية، وكيف هم الآن في الحياة، فلما فعلت ذلك بتأمل عرفت خطورة هؤلاء على أبنائنا حقا، أتذكر منهم من يقول للطلبة: إذا غششت فافعل ذلك بطريقة مهذبة وبذكاء، ومنهم من يقول: افعل دون أن تصدر حركة أو تلفت انتباها وسأتظاهر بأني لم أرك، ومنهم من يرتكب حماقة أشد بشاعة؛ إذ يحضر له الأسئلة بطريقة اللصوص المكرين. أتذكر حادثة وأنا في عمر البراءة لما كنا في السنة الثانية متوسط طلب أستاذ من زميله أن يعينه على تسهيل عملية الغش لنا– نحن التلاميذ- فرفض ذلك الأستاذ بشدة فغضب الآخر، ولكن لما كبرت وصرت راشدا ظللت أدعو لذلك الأستاذ النظيف بالخير دائما لأنه تعفف في عمله، أما الآخر فإلى يومنا هذا كلما رأيته تذكرت الغش فلا حول ولا قوة إلا باللّه. عجبت لأمر الفرد الجزائري كيف حدث هذا الانقلاب العجيب في فكره، وكيف تخلى عن قيم كثيرة أصيلة فيه عجزت فرنسا عن إماتتها، صحيح أن فرنسا حاولت زرع الفساد في عقول الجزائريين، لكن ربما لم يصل الفرد حينها إلى ما وصل إليه اليوم من رداءة، وما أصدق مالك بن نبي حين قال: إن مشكلتنا ليست مشكلة سياسية أو اقتصادية أو.. إنما هي مشكلة حضارية شاملة. [email protected]




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)