الجزائر

من سلمان رشدي إلى نيقولا باسيلي : متى يفيق المسلمون؟



من سلمان رشدي إلى نيقولا باسيلي : متى يفيق المسلمون؟
ما زلت أذكر جيداً أول مظاهرة لمسلمي بريطانيا شهدتها وشاركت فيها (ولعلها أيضاً كانت الأولى من نوعها على الإطلاق). كان ذلك في مدينة برادفورد في وسط بريطانيا، وفي صيف عام 1982، وبالتحديد في شهر رمضان المصادف لشهر تموز (يوليو) من ذلك العام. وكان موضوع المظاهرة هو فلسطين. وقد يذكر البعض أن تلك كانت أيام الغزو الإسرائيلي للبنان، واحتلال بيروت، ومحاولة إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وكانت المظاهرة ضخمة بمقاييس تلك الأيام في تلك المدينة، حيث شارك فيها قرابة أربعة آلاف متظاهر، وجابت شوارع المدينة وهي تهتف بحياة فلسطين وسقوط إسرائيل.
يبدو الآن أن تلك الواقعة تنتمي إلى عصر آخر، حيث أن أيام الاهتمام بقضايا المسلمين الحقيقية أصبحت من الماضي. فبعد بضع سنوات، تفجرت قضية سلمان رشدي وروايته 'الآيات الشيطانية' التي أثارت مسلمي بريطانيا ومن ورائهم مسلمو العالم، وشغلت الرأي العام لسنوات. ولكن منذ ذلك الوقت، تدهورت أوضاع العالم الإسلامي بصورة تجعل كثيرا من الفلسطينيين يحنون إلى صيف عام 1982، بينما تمزقت الصومال، ودمرت البوسنة والشيشان وأماكن أخرى لاتحصى، واحتل العراق وأفغانستان، وتقسم السودان ومالي، ومات وتشرد الملايين من الجوع والاضطهاد والحروب. وفي الفترة بين انطلاق المظاهرات مطلع الأسبوع الماضي ونشر هذا المقال، فقد ما بين ألف إلى ألفي شخص حياتهم في سورية، قصفاً أو إعداماً أو تعذيباً. ولكن بريطانيا شهدت يوم الأحد الماضي مظاهرة ضد الفيلم المسيء.
صحيح أن مسلمي بريطانيا تظاهروا من حين لآخر من أجل قضايا الأمة، مثل رفض غزو العراق، أو الاحتجاج على حصار غزة. وصحيح أيضاً أن مقدسات الأمة هي التي يدافع عنها، وليس العكس. فقد نجح المسلمون في الاجتماع لأول مرة لإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي بعد حريق المسجد الاقصى، بعد أن كانت دول كثيرة تعارض مجرد الفكرة. وفي عام 2000 تفجرت الانتفاضة، حينما انتهك شارون حرمة المسجد الأقصى. ولكن المسجد الأقصى ما يزال تحت الاحتلال، كما أن أوضاع الفلسطينيين هي اليوم اسوأ بكثير منها يوم قامت انتفاضة الأقصى. والحديث النبوي يؤكد لنا أن حرمة الدم البريء أعظم عند الله من حرمة الكعبة. فلماذا تثور الجماهير فقط عندما تمس أحجار المسجد الاقصى، ولا تنتفض حين يحرم المصلون من الوصول إليه، أو يهجروا من بيوتهم أو تسفك دماؤهم؟
كنا قد أشرنا في وقت سابق إلى 'مصادفة' نشر مذكرات سلمان رشدي مع الأحداث الجارية، حيث نشرت مقتطفات منها في مجلة 'النيويوركر' وتناقلتها الصحف يوم الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، وهو نفس اليوم الذي شهد تفجر المظاهرات ضد فيلم لم يتأكد وجوده بعد. ولعلها كانت مفارقة ذات مغزى أن راديو 4 في الإذاعة البريطانية بث مقابلة صباح السبت الماضي مع رشدي يسأله رأيه في الاحتجاجات الجارية ومقارنتها بما وقع مع روايته. وكانت الإجابة متناقضة مع نفسها، حيث انتقد الفيلم ووصفه بأنه تافه، ناصحاً المسلمين بأن يتجاهلوه ولا يستجيبوا لمثل هذا الاستفزاز. ولكنه في نفس الوقت دافع عن 'استفزازه' هو للمسلمين، مؤكداً أنه وأنصاره وقفوا دفاعاً عن مبدأ حرية التعبير، وانتصروا. في نفس المقابلة وصف ما تعرض له من استهداف بأنه كان مقدمة لما وقع في 11 سبتمبر، مما يفيد بأن الاحتجاج ضد كتابه والإرهاب شيء واحد، ولكنه في نفس الحديث فرق بين مقتل السفير الأمريكي في بنغازي والاحتجاج على الفيلم، واصفاً الامرين بأنهما مختلفان تماماً!
مهما يكن فإن الإذاعة استضافت بعد رشدي أحد قادة مسلمي بريطانيا ممن كان لهم دور في الحملة ضد رشدي، وقد جاء في مداخلته اعتراف بالخطأ في الطريقة التي أدارت بها الجالية الإسلامية معركتها مع رشدي، خاصة لجهة مطالبتها بحظر الكتاب. وقال لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لكان لنا تصرف مختلف. المفارقة أنني كنت قد قلت لهذا الشخص بعينه وغيره من الناشطين في ذلك الوقت أن تصرفاتهم كانت خاطئة، وانفعالية أكثر من اللازم، وستؤدي إلى أثر عكسي. ولكن التيار كان جارفاً في تلك الأيام. وهذا يذكرنا بأن المسلمين ظلوا لعقود ينجرفون بهذا التيارات وبمحض إرادتهم ولكن طوع أجندة أعدائهم- من ردة فعل إلى أخرى. فإذا لم يكن رشدي فهي الرسوم الدنماركية، أو الأفلام الهولندية، أو تصريحات البابا، والآن فيلم المدعو نيقولا باسيلي الذي تحول بفضلنا من نكرة إلى أشهر شخص في العالم. ولن تمضي فترة طويلة حتى ينشر مذكراته، وتستضيفه المنابر الإعلامية، ويجني الملايين، ويفتي في كل شيء، بينما تبقى غزة محاصرة وغالبية شعوبنا تعيش الذل والحرمان.
في الأسبوع الماضي، ثارت ضجة أخرى حين أعلنت القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني وقف إعادة بث برنامجها الوثائقي: 'الإسلام: القصة التي لم ترو بعد'، الذي كان قد بث لأول مرة في الثامن والعشرين من اب (أغسطس) الماضي. وقد عللت القناة وقف إعادة البث ب 'دواع أمنية'، حيث قيل ان معد البرنامج ومقدمه، المؤرخ توم هولاند، تعرض لإساءات وتهديدات بالقتل. ولا شك أن القناة قصدت من هذه الخطوة زيادة الدعاية لنفسها وبرنامجها، خاصة أنه ما يزال متاحاً على موقعها الالكتروني. وبالفعل تناقلت الأجهزة الإعلامية خبر 'وقف البث' كما لو كان امتناعاً عن البث أصلاً، في حين أنه تعليق لإعادة البث.
هذه الواقعة توضح أيضاً تأثير الإعلام. فمقولات هولاند وردت بحذافيرها قبل اكثر من ثلاثين عاماً في كتاب بعنوان 'الهاجرية' للمستشرقة الدنماركية باتريشيا كرون بالاشتراك مع مايكل كوك. ومقتضى هذه الرواية الخيالية هي أن الإسلام كان في بداية أمره حركة 'صهيونية' قامت بها طائفة من اليهود المتطلعين لظهور المسيح من أجل استعادة فلسطين، ولكنها تطورت في القرنين اللاحقين لتتحول إلى صيغتها الحالية. وقد حوى الكتاب إساءات لا حصر لها في حق العرب والمسلمين. ولكن مثل هذا الهراء لم يلق أذناً صاغية عند أهل العلم، حتى من المستشرقين، فكان مصيره ما يستحق من الإهمال والاحتقار. فهل سمع أحدكم بكرون (التي استعان بها هولاند في برنامجه في محاولة يائسة لتسويق بضاعتها الكاسدة) من قبل أو بصاحبها كوك؟
ولكن لننتظر ما سيحدث الآن عندما يسمع بعض المسلمين بهذه القصة، فيخرج بعضهم للتظاهر، ويهدد بعضهم مقدم البرنامج، فينال هو وكرون الشهرة التي سعوا لها بلهفة، وينبري المدافعون للدفاع عن 'حقهم' في التعبير عن الرأي، وتكال التهم للمسلمين بأنهم برابرة متخلفون. وفي حقيقة الأمر إنه لولا ردود الفعل هذه لما سمع أحد بمثل هذا الهراء. فقد ورد أكثر من ألف شكوى (كلها من مسلمين تقريباً) ضد برنامج القناة الرابعة في الأيام القليلة التي تلت بث البرنامج.
وكما لا يخفى فإن رواية هولاند رواية ساقطة لا تجوز حتى على مبتدئ، فهي تنطلق من رفض غير منطقي لكل وثائق التاريخ الإسلامي (مع اعتراف بتاريخية القرآن، وهو تناقض آخر)، وادعاء بعدم وجود وثائق معاصرة تتحدث عن نبي الإسلام. ويزعم الرجل أن مكة لم تذكر أصلاً في القرآن، وأن المكان الجغرافي الوحيد المشار إليه في القرآن هو قرية قوم لوط. وخلال ساعات من بث البرنامج نشر خبراء على الانترنت المراجع لعدة وثائق مسيحية معاصرة تتحدث عن الإسلام ونبيه، مع مقتطفات منها، كما أوردوا الإشارات القرآنية إلى مكة التي زعم المؤرخ عدم وجودها. ولا شك أن أيا من حجج مقدم البرامج لا تستقيم لاقل الناس علماً، ناهيك عن ناقد بصير.
وبحسب رأيي فإن هذه الرواية تقوم على اعتراف مبطن بأنه لو صحت الروايات التاريخية المعتمدة، فإنه من الصعب التشكيك في نبوة رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام. فان يخرج شخص من منطقة معزولة مثل مكة بقرآن مصدق لما بين يديه، وينجح وأتباعه في هزيمة أكبر امبراطوريتين في التاريخ خلال عقد من الزمان، وتتولد من دينه حضارة كاملة من لا شيء، كل هذه سلسلة معجزات يصعب تفسيرها بوصف من يقف وراءها بأنه، كما قال منتقدوه من قريش، ساحر أو مجنون. وعليه لا بد من إعادة كتابة التاريخ حتى يصبح ممكناً تجنب تكذيب النبي بالحل الأسهل: أن يقال انه لم يوجد أصلاً، وان سيرته لا قرآنه- هي من 'أساطير الأولين'. ولا شك أن هذه شهادة مبطنة بصدق النبي ورسالته.
ومن الواضح من كل هذا أن المسلمين في حاجة ماسة إلى مراجعة أولوياتهم على كل المستويات: الدينية والأخلاقية والسياسية. فمن النواحي الدينية والأخلاقية، لا بد أن توضع التراتبية القيمية بشكلها الصحيح. فالأولوية عند الله سبحانه وتعالي ورسوله هي لتحقيق الأهداف العليا للدين، متمثلة في صيانة كيان المجتمعات الإسلامية وحفظ كرامتها وحريتها ومكانتها بين الأمم. وفي إطار ذلك الحفاظ على حياة وكرامة ومكانة المؤمن في مجتمعه. وجماع كل هذا توجيه طاقات الأمة حسب هذه الأولويات، وعدم بعثرتها في معارك تمليها الجهات الخارجية، وبالانشغال في مطاردة السفهاء من كل ملة، وملاحقة كل لغو يتفوهون به، ومعاملة ترهاتهم كما لو كانت مساوية للوحي ومقابلة له، في حين أن الوحي يعلمنا أن نقول لمثل هؤلاء: سلام عليكم، لا نبتغي الجاهلين.
إن هذا أحد الأسباب في فشل أمة أكثر من مليار شخص في التصدي لقضاياها الكبرى، والتعامل مع قضية فلسطين وغيرها منذ البداية بطريقة انفعالية غير مدروسة وغير مخطط لها، بدءاً من الانتفاضات العفوية منذ عام 1919، والإضرابات منذ عام 1936، والتي لم تضر سوى الفلسطينيين بإغلاق محالهم وقطع أرزاقهم. ويندرج في هذا الحروب والأعمال العسكرية التي تشبه الانتفاضات في أنها لم يخطط لها كما يجب، ولم يكن هناك تحكم في توقيتها أو دراسة لأهدافها. وقد كان من الواجب ولا يزال أن تكون ردود الفعل مدروسة، بل ألا يتم التعامل بردود الفعل أصلاً.
وفي هذا المقام، لا بد من أن يوسد الأمر إلى أهله، وأن توكل المهام المتعلقة بمواجهة تحديات الأمة إلى أهل التخصص، فيأتي الرد على المواد الإعلامية من قبل إعلاميين متخصصين، وعلى الروايات وما هو من جنسها من قبل أهل الفن والأدب، وعلى الأعمال الأكاديمية من قبل أكاديميين متخصصين في المجال المعني. وبنفس القدر، ينبغي أن يترك الشأن العسكري للمتخصصين فيه، وهكذا. وما أهلك هذه الأمة إلا كون من يتولى الأمور فيها على كل الجبهات هم من غير المؤهلين. فالحكم يتولاه رجال الأمن أو الجيش، تاركين ومهملين واجباتهم الأساسية، والقتال يتولاه هواة، وأمور الفن والأدب يفتي فيها خطباء المساجد، والأمور العلمية يتصدى لحسمها فتية يقذفون بالحجارة، والسياسات الاستيطانية في فلسطين يتصدى لها أكاديميون متقاعدون. ولعمري إن هذا لهو الضلال المبين.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)