من التراث الجزائري: أسطورة عروس المطر
جمال الحدث من جمال المكان و الشخوص, هكذا قلت في نفسي و أنا أمعن التفكير في تلك العادة القديمة التي توارثها سكان الجزائر و المغرب العربي عموما في مناسبات الأفراح و الزفاف عندهم, هي العادة التي لا تزال منتشرة نسبيا في بعض المناطق القروية و الجبلية بحيث لم يفلح زمن التحضر و الرقمنة في القضاء عليها.
و قد لا يعلم أكثر الناس سر هذه العادة المطبقة في الأعراس عندنا و المتمثلة في رش الطريق الذي تسلكه العروس و موكبها بالماء, سواء كان ماءً عاديا أو ماء الورد المقطر, لكن الموروث الغنائي و الشفهي في منطقة الأوراس الجزائري مثلا, لا يزال يقص سر تلك العادة و يعطي فكرة واضحة عنها, و يا لها من قصة جميلة تفيض بالمعاني التي قد تشرح الكثير من الجوانب في ذهنية الرجل الجزائري و المرأة الجزائرية, بما أن الأسطورة هي صناعة إنسانية يجتمع فيها الجانب الأدبي أو الفني مع الجانب الخرافي و الهوامي مما يصوغ الخصوصية الثقافية التي تبني الجوانب الأساسية لطبيعة تفكير المجتمع و سلوكياته تجاه مواقف و مواضيع محددة, و ذلك من خلال ثلاثية المكان و الزمان و الحدث.
و الحقيقة هي أن عادة رش موكب العروس بالماء, عبارة عن طقس يهدف في مضامينه إلى محاكاة أسطورة خرافية قديمة في الميتولوجيا الأمازيغية, تقضي بأنه في زمن بعيد غابر, و في مكان ما من أرض ثامزغة(1), و على الأرجح في منطقة من جبال الأوراس التي يمتزج فيها الشموخ مع الغموض و الروحانية, و حسب اعتقاد السكان المحليين, عاشت فتاة شديدة الجمال سميت في بعض المصادر " تيسليت " التي تعني الخطيبة بشكل عام أو قد تعني الفاتنة أو شيء من هذا القبيل. و قد اشتهرت تيسليت بين قومها بصفتين هما الحياء و الحب الشديد لينابيع المياه و الأنهار, فكانت تهيم في الجبل الأوراسي الضخم, تتجول بين جداوله و ينابيعه, تعيش تلك اللحظات الجميلة من الحياة, تشبع حبها للماء, تداعبه بيديها الناعمتين, تحمله بين كفيها فترمي به نحو السماء ليتفرق إلى مئات القطرات المتلألئة التي تعود كزخة مطر لطيفة تبلل وجهها المشرق و هي تنشد الأغاني بصوتها العذب, الذي تقف عنده عصافير الأشجار صامتة حائرة.
و هكذا كانت الفتاة اليافعة تمضي يومها في زيارة جميع الوديان و العيون و الينابيع التي تعرفها بأسمائها, لتلقي عليها التحية و تغترف من كل واحد منها شربة ماء منعشة, و تستمر في الغناء و الرقص مداعبة المياه الرقراقة المنسابة بين الصخور بأناملها, تمسح على وجهها و شعرها, تنشد البركة و السلام لها و لقبيلتها و أرضها التي لا يمكنها أن تعيش و تحيا و تزدهر من دون هذا الكنز. و كانت عبر كل تلك الطقوس التي عودت نفسها عليها كأنما تعبر بطريقة ما عن تعففها و ترفعها عن كل الأهواء التي تراوض الشباب في مثل سنها, و كانت عبر تلك الساعات الطويلة التي تمضيها في الجبل بين أشجاره و وديانه و حيواناته كأنما تعبر عن رغبتها في الابتعاد عن أنظار فرسان القرية الذين يكتم كل واحد فيهم طموحاته و مطامعه و أحلامه اليائسة في الظفر بها و اتخاذها عروسا ذات يوم. و مع مرور السنين زادت الفتاة جمالا و نضارة في الوقت الذي وصلت فيه بتعففها و انطوائها حد الصوفية, و هو الارتقاء الروحاني الذي مهَّد لها الطريق لتربط صلة مع العالم الفوقي دون علمها, فهي فقط, ظلت تتهرب من المعجبين و العشاق من نفرها, تتبرك بالماء و الغيث و تخدم السواقي التي يقوم عليها عيش قومها, فترمم قديمها و توسع منابع و مجاري حديثها, دون أن تنسى أغانيها و قصائدها التي كانت تعبر من خلالها عن فضائل التعفف وعن فضائل الماء و ما يمثلانه من حياة و طهارة.
فذات يوم و بينما كانت تيسليت ترتوي من إحدى البرك التي تجتمع فيها مياه الينابيع المختلفة, صادف و كانت سحب راعدة تسبح في الأفق البعيد, كان " آنزار " اله المطر يقودها نحو إحدى الأمصار البعيدة ليسقي أرضها و يحي زرعها و يبشر أهلها بموسم مبارك, لكن شيئا ما شد انتباه الإله فوق الأرض, شيء ظنه للوهلة الأولى شعلة منيرة من تلك الشعل الكثيرة التي تنير عالم الآلهة الفوقي سقطت صدفة على بلاد الأوراس, لكنه عجب للحظة إذ أنها كانت تتحرك يمينا و شمالا. هذا ما خلص إليه معتمدا على بصره الثاقب, فقرر استطلاع الأمر و حرك برياحه التي كان يلجم بها الغمام الذي كان يركبُه نحو السلسلة الجبلية البعيدة, و ما هي إلا بضع ساعات حتى كان " أنزار " فوق المكان الذي كانت تتحرك فيه تلك الشعلة البيضاء الغريبة, و الأغرب من ذلك هو أن الإله و بسمعه الحاد التقط تلك الألحان الأنثوية العذبة التي كانت تتغنى بالمياه و السحاب و الأمطار بلسان شاوي(2) أصيل, فقرر الاقتراب أكثر حتى كان فوق تلك المنابع, أين وقع بصره على تلك الفتاة الفاتنة و هي تكشف عن ساقيها تهم بدخول البركة مستمرة في الغناء. حبس آنزار أنفاسه للحظات و هو يسترق النظر إليها من فوق السحاب لا يكاد يصدق ما يرى. تلك لم تكن نجمة سقطت من السماء, بل هي إنسية لم ير مثلها قط, فهو لم يكن ينظر إلى حسنها الظاهر فحسب, بل أذهله صفاء روحها البيضاء التي كانت تشع ناشرة أنوارها التي كانت تضيء الجبل بأسره, هي أنوار لم تكن تيسليت و لا غيرها من بني البشر ليروها, لكن آنزار كان يراها بعني الإله, كان ينظر إلى عمق روحها كما ينظر المبصر إلى الماء النقي عبر الزجاج الأملس الخالص, و قد تساءل في نفسه متعجبا: " كيف لمخلوق آدمي أن يصل إلى هذه الدرجة من النقاء و الصفاء الروحي ؟؟ ". لكنه اخترق ببصيرته ذاتها و فِكرها و أدرك حينها أن تعففها و حيائها هما من أوصلاها إلى هذه الحال.
منذ ذلك اليوم قرر آنزار الاستقرار فوق سماء الأوراس بعد أن شدته تيسليت بكل ذلك الخجل و الحياء و الأنوثة, فقد تعلق بها كثيرا حتى أضحى مغرما, بل و راح يغدق على بلاد البربر بكل أشكال الغيث, الغزير و الخفيف و الرعدي و الثلجي و الصيفي, و كل ذلك كان تعبيرا غير صريح عن حبه لتيسليت. فاخضرت الأرض كما لم تخضر من قبل, و فاضت منها ينابيع المياه لتفيض معها كل أنواع الخير و الرزق على قوم تيسليت, الذين كانوا يلاحظون أمورا غريبة تحدث مع تلك الفتاة, التي كلما صعدت إلى الجبل و اختلت بنفسها منشدة أغانيها و قصائدها عن الماء و الحياء إلا و امتلأت السماء ركاما و أمطرت خيرا, فقد تحولت الفتاة إلى قديسة في الوقت الذي ظل فيه آنزار يعاني, هل يصارحها بحبه لها و برغبته الزواج بها, أم يصون كبرياءه الإلهي فهو لا يستطيع الانحدار إلى مستوى أدنى, فإن كان سيتزوج سيختار إلهة من عالمه ؟.
لقد ظل الأمر على حاله إلى اليوم الذي وصل فيه صبر إله المطر إلى نهايته, بعد تفكير عميق و نفس طويل قرر أن يقدم على الفعل و يصارح تيسليت بكل شيء, و يطلب يدها للزواج خاصة بعد أن استوفى مهره لها عبر كل ذلك الغيث الذي حول أرض أهلها إلى جنة. ففي صبيحة أحد الأيام و بينما كانت الفتاة تجلس على ضفة إحدى تلك البحيرات الكثيرة التي أهداها لها عاشقها دون أن تدر, فإذا بوميض خاطف ينزل من السحاب على شكل صاعقة ضربت الأرض بقوة اهتز لها كل شيء, ظهر أنها قد تحولت بشكل عجيب إلى رجل في مقتبل العمر أثار فزع تيسليت التي تسمرت في مكانها خوفا و وجلا. تقدم إليها الشاب بخطى ثابتة و من ثم عرف عن نفسه بكل لباقة و احترام, و قد صدقته الفتاة و لم تكن لتفعل لو لم تر بعينيها ما حدث قبل لحظات, و قد شرح لها أنه في العادة لا يمكن للبشر العاديين أن يلتقوا بالآلهة إلا إذا بلغوا قدرا عظيما من حسن الأخلاق و النقاء الروحي كما هي حال تيسليت, التي ظلت ترمي إليه بنظرات خاطفة إذ أنها لم تستطع رفع بصرها عن الأرض بعد أن اقترب آنزار منها بشكل أربكها و أحرجها و أبرز الخجل و الحياء في حركاتها و كلامها. لقد عرض عليها في بادئ الأمر أن يلتقيا مرة أخرى للحديث و التعرف إلى بعضهما بشكل أفضل حتى تستوعب هذا التغير الغريب في حياتها و يومياتها, لكنها رفضت بشدة و أخبرته بشجاعة ممزوجة بلباقة نادرة بأن هذا السلوك ليس من شيمها و هو يعتبر عارا و خيانة لوالدها و إخوتها و قومها جميعا.. حتى لو تعلق الأمر بإله, فهي لا تواعد أحدا في السر. حين إذ صارحها آنزار بأنه لا ينوي سوى اتخاذها زوجة له و قد عرض عليها الأمر ليفاجأ بوجه الشابة و هو يحمر خجلا و هي تنطلق نحو قريتها بين الهرولة و الركض.
لم يستوعب سيد الفصول الأربعة ما حصل, بما أنه اله, فقد اعتاد أن تكون كل الأمور التي يريدها أو يطلبها سهلة المنال كشربة الماء تماما, لكنه أدرك أن عالم البشر معقد أكثر مما كان يظن, لذلك استمر في الإلحاح على تيسليت التي ظلت تصده عن نفسها و تختلق الأعذار, رغم أنها و في مكان ما من نفسها كانت قد أعجبت بشخصه, بلياقته و رصانته و قوته, فقد بادلته مشاعر الحب التي ظلت تخشاها و تخفيها عنه, رغم أنه شعر بها طويلا, فقد كان ينفذ إلى قلبها محاولا معرفة ما ينبض به, لكن الفتاة البكر كانت تعاني من فكرة تركها العيش في أرضها و بين قومها و عاداتها و تقاليدها لتنتقل إلى عيشة أخرى وسط مجتمع لا طالما تعاملت معه بأفكارها المثالية ؟, ثم إنها كانت تخشى أن يفسر قومها حبها لآنزار بأنه خيانة لأعراف القبيلة التي تقضي بمنع الزواج من الأغراب. و هكذا تحول تعفف تسيليت مع مرور الأسابيع و الأشهر من سبب لحب و سعادة آنزار, إلى سبب لشقائه و ألمه, إلى اليوم الذي شعر فيه بأن الكيل قد طفح بعد أن استشعر أن ذلك الحب قد انتزعه من عالم الآلهة المثالي ليغرقه في عالم البشر المليء بالتناقضات و المشاكل و الكفاح من أجل استمرار الذات, لذلك قرر القيام بمحاولة أخيرة, فقد صارح تيسليت بأنه لا ينوي الزواج بها من أجل تميزها عن قومها فحسب, بل لأنه واقع في حبها إلى حد الجنون, لكن من دون فائدة, فالفتاة تهربت كعادتها متعففة و مترفعة و هي ترفض و تتمنع.
حينها شعر أنزار بإهانة كبيرة لشخصه و استصغار لمكانته و تقليلا لكل ما بذله و أعطاه لمحبوبته, فانقلب الحزن إلى غضب تطايرت شراراته من عيني الشاب الوسيم الذي تحول إلى صاعقة مدوية ارتدت نحو السماء بلا رجعة, فتوقفت معها زخات المطر الخفيفة التي خلقت دوما جوا شاعريا احتضن أحاديثه مع تيسليت, و تفرق الغمام الذي لف طويلا ثامزغة مضفيا عليها جوا خريفيا منعشا دام أشهرا عديدة, فعادت شمس إفريقيا الحارقة لتبسط ضفائر شعرها الناري الغليظة الجافة على أرجاء البلد, و معها بدأت البرك و البحيرات تتقلص, و بدأت الوديان و الأنهار تضيق و تتراجع. لقد استمر الأمر على تلك الحال لأشهر عديدة, ضرب فيها جفاف كبير المنطقة فقضى على النبات و حول عيشة الناس إلى بؤس و شقاء, لتجد تيسليت نفسها ضائعة بعد أن فقدت الأوراس رونقها و اختفت رواسيها و أزهارها. لقد أدركت الشابة كم كان آنزار متعلقا بها و كم كان حبه لها خصبا و مثمرا و جالبا للسعادة و الاطمئنان, كان لا بد حينئذ أن تخلص إلى أنها لن تستطيع رفقة شعبها العيش في صحراء قاحلة خالية من الماء الذي يعد روحها و جوهر وجودها, لذلك قررت تيسليت أخيرا أن تقبل بطلب آنزار لتكون زوجة له, فراحت تناجيه في خلواتها و صلواتها متضرعة له راجية عودته. و هو ما حدث يوم لمح القوم ركاما أسود ثقيل في الأفق تنطلق من كبده ومضات البرق المتفرقة, فقد جاء الغيث الكثير و تهاطلت الأمطار بغزارة و رقص السكان تحتها مقيمين الولائم و الاحتفالات, في الوقت الذي سارعت فيه عروس المطر الخطى و هي تصعد الجبل لتلاقي عريسها الذي كان في قمة السعادة و البهجة, فقد حملها بين ذراعيه و طار بها نحو السماء في شكل وميض خاطف لم يترك خلفه سوى السعادة و الخير, و تحولت تيسليت إلى ما يُعرف اليوم بقوس قزح, التي تعتبر عروس المطر في الثقافة الشعبية الجزائرية.
و هكذا توارث سكان الجزائر لقرون طويلة عادة رش موكب العروس بالماء في تمثيل رمزي إلى الفتاة التي شكلت صورة الحياء و التعفف و الكبرياء و النقاء, و هي الخصال الكفيلة بجلب رجل من المعدن النفيس كآنزار فيأتي معه الخير و العطاء, سوى أنه لا يجب أن يكون مبالغا في تلك الخصال لأنها قد تحول حياة الفتاة إلى فراغ و جفاف لا معنى له تماما كما في القصة.
و تبقى الإشارة إلى أن الشيء الوحيد الذي يُعاب على بعض الطقوس التي تقام تخليدا لهذه الأسطورة, هي أنها لا تزال و إلى اليوم في بعض المناطق من الجزائر و المغرب أين تكثر الأمية و التمسك الأعمى بالعادات الموروثة, تقام رفقة طقوس تقترب من الوثنية, إذ لا يزال البعض يُصَلون لآنزار منادين باسمه ملتمسين منه موسما ماطرا و خصبا, رغم أن الإسلام كان قد وضع حدا فاصلا بين الخرافة و الواقع. و إن كنا اليوم نسلم بأن قصة عروس المطر مجرد خرافة ميتولوجية توارثها شعبنا لآلاف السنين, إلا أنه يتوجب أن نقوم بصيانتها و الحفاظ عليها بشكل لا يتناقض مع عقيدتنا و مع روح العصر كما يُصر البعض, فنأخذ منها ما ينفعنا ثقافيا و اجتماعيا, من خلال ما تدعو إليه من قيم و مفاهيم تربوية أساسية نصد بها هجمة العولمة الشرسة, التي تهدد قيمنا و هويتنا الوطنية الجزائرية و المغاربية ككل, و ندع الوجه الخرافي و الوثني جانبا لأننا ببساطة نعيش عصر العلم و المنطق.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/01/2018
مضاف من طرف : timoucha27
صاحب المقال : مجهول
المصدر : موقع الكتروني