تذكرني، أحيانا، متابعتي لآراء بعض خبراء الإعلام والاتصال التي يدلون بها لوسائل الإعلام المختلفة أو في المؤتمرات والندوات العلمية، ب''منطق'' ''داعم الحلق'' Soutien-gorge. وما الوجه من الكلام مثلما يقول لسان العرب؟ أي ما علاقة هؤلاء الخبراء بالمنطق المذكور؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب التوقف عند قصة ''داعم الحلق''.
رغم أن ''رافع الثديين'' كان مستخدما منذ الحضارة الرومانية، إلا أنه لم يدخل التداول في اللغة الفرنسية إلا في 1904 وفق ما جاء في قاموس ''لاروس'' الشهير. لكن الفرنسيين لم يطلقوا عليه هذه التسمية، واستبدلوها باسم آخر، وهو ''داعم الحلق''. إن المرء يميّز بين الثديين والحلق، ولا يمكن أن يخطئ موقعهما. والحلق منتصب، ولا يحتاج إلى دعم أو سند. إذا، لماذا سمى الفرنسيون ''رافع الثديين'' ''داعم الحلق''؟ أو بعبارة أخرى، لماذا لم يسموا الأشياء بأسمائها؟ إنهم فعلوا ذلك ليس لمكر لغتهم أو خصوبة استعاراتها، بل لأن اللغة الفرنسية حاولت أن تعكس ''حشمة'' الفرنسيين في ذلك العصر، أو عفتهم. نعم، نقول ''الحشمة''، ونؤكد أنها كانت متجذرة في أوروبا في ذاك العصر. ففي العهد الفيكتروي، نسبة إلى ملكة العرش البريطاني فيكتوريا الأولى (1837 1901)، على سبيل المثال، كانت المرأة تشير للطبيب الذي يعالجها إلى موضع ألمها في جسد الدمية التي تحملها معها. فالحشمة والتقاليد، في ذلك الوقت، كانت تمنع المرأة من عرض جسمها على الطبيب لفحصها. وإطلاق تسمية ''داعم الحلق'' بدل ''رافع الثديين''، حدث في وقت كانت فيه المرأة تشّد صدرها بقطعة من القماش حتى تطمس ثدييها، ولا تظهر مفاتنها. لذا، من المنطقي ألا تظهر تسمية حامل الثديين لأنهما كانتا مطموستين، وبالتالي غير موجودتين في التبادل اللساني بين المتكلمين. ففي ذاك الزمان، كانت المرأة تلبس لباسا فضفاضا يخفي تقاطيع جسدها، أي قبل أن تظهر ''الموضة'' التي دفعتها النزعة التجارية إلى إبراز مفاتن المرأة في اللباس، واقتضت التجارة تنظيم استعراضات للباس وفن الخياطة. إذا، منطق ''داعم الحلق'' هو فن الحديث عن أشياء وظواهر، دون أن نذكرها بالاسم. ومخطئ من يعتقد أن الساسة هم وحدهم الذين يحتكرون استخدامه وفق مقولة ''المستساغ سياسيا'' التي تملى عليهم مثلا، كقول الباحثين عن عمل بدل العاطلين عن الشغل، واستخدام ''الأشخاص الذين ليس لهم سكن قار بدل المشردين. فلبعض خبراء الإعلام والاتصال نصيبهم الوافر من المنطق المذكور. فها هم يرون أن العنف، على سبيل المثال، الذي يسود في هذا المجتمع هو وليد نقص الاتصال والإعلام، بمعنى آخر: إن توفر الاتصال بالقدر الوافي ينفي وجود العنف! لكنهم يؤكدون، في موقع آخر، أن العنف نتج عن فيض الإعلام والاتصال الذي أدى لسوء التفاهم. والتسليم بهذين الرأيين يقتضى الاقتناع أن هؤلاء الخبراء يملكون مقاسا ما لتحديد مقدار الاتصال والإعلام المطلوبين لتفادي العنف! وما يسكت عنه الرأيان المذكوران هو أن وسائل الإعلام ستظل متهمة في الحالتين: إذا صمتت عن العنف أو تحدثت عنه! لكن، أين منطق ''داعم الحلق'' في كل ذلك؟ إن هؤلاء الخبراء لا يسمون الأشياء بأسمائها، أي أنهم لا يشخصون العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية في خطابهم، والتي تنتج العنف، بل يغيّبونها تماما، ولا يرون سوى وسائل الإعلام لتفسير استشراء العنف في المجتمع! ولا يمكن أن يُفهم مما سبق قوله إننا نسدّ التفكير في العلاقة المحتملة بين وسائل الإعلام والعنف، لأننا ندعو إلى التحرّر من سطوة المنطق المذكور فقط. لقد تحدّث هؤلاء الخبراء عن الأنترنت، فوصفوها بالفردوس الذي نستعيد فيه ما فقدناه من اتصال، وبالمصحة التي تشفينا من أدرانه، بل بعضهم رأى فيها ساحة يلتقي فيها البشر للتعارف والتفاهم، وبالتالي للقضاء على أضغانهم ونزاعاتهم. في حين أن بعضهم الآخر رآها كارثة تهدّد البشرية وتعيث في اتصالها فسادا: تروّج الإشاعات وتشرّع النميمة، وتعمّق الخلاف بين البشر وتزيد في توتر علاقاتهم، بل تدق طبول الحرب. فمنطق ''داعم الحلق'' منع هؤلاء الخبراء من رؤية العوامل الموضوعية التي تؤدي إلى النزاع، وتلك التي تعزز الاتفاق والوئام. لقد نظروا إلى الأداة التقنية وكأنها وفدت من خارج المجتمع، وتصوّروا أنها تفعل به ما أرادوا أن تفعله، وسلخوا البشر من ذاتهم ومن إرثهم الثقافي والاجتماعي، ومن المسافات التي يعيشونها بمجرد شروعهم في استخدام هذه العُدّة التقنية أو تلك.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 06/05/2013
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : نصر الدين العياضي
المصدر : www.elkhabar.com