الجزائر - A la une


ملعون أنت أيها الكرسي!!
على امتداد التاريخ فإن الوصول إلى الحكم ملكيا كان أو جمهوريا، أو مستنبطا من أي صنف من أنواع الحكم المتوارث أو الانتخابي، أو المفروض بالقوة عن طريق انقلاب عسكري، فقد كان للكرسي بريق كبير ولمعان سحري يجعل كثيرا من الذين يطمحون في الوصول إليه، أو من يمكّنهم القدر من اعتلائه بشرا غير البشر الذين كانوا قبل ذلك عندما كانوا أناسا عاديين.
عندما نتصفح التاريخ قديمه ومعاصره نجد عينات كبيرة لبشر كانوا أشبه بالملائكة قبل اعتلاء الكرسي، فحولهم الكرسي بمجرد اعتلائه له إلى شياطين تُسبِح بحمد هذا الأنا وتنسى حمد الخالق حتى ولو كان هؤلاء من أصحاب اللحى والعمائم ومن تراهم يُسبِحون في كل حين، ولكنك لا تستطيع أن تعرف لمن هم يُسبِحون، ألخالقهم، أم للكرسي الزائل الزائف الملعون؟.
سكن حبُ الكرسي منذ بدء الخليقة البشر في مختلف بقاع العالم أبيضهم وأسودهم وأصفرهم أو الذي هو بيْن بيْن، سكن الشيوخ والشباب، وسكن من كان يرتكز على عكاز، سكن الرجال والنساء بدرجات متفاوتة وشغف متفاوت أيضا.
من أجل الكرسي قَتل البعض وقُتل البعض الآخر، وفوق الكرسي مات البعض بسكتة قلبية مفاجئة وهو يفكر في البقاء على الكرسي ليعمر سنوات أخرى أو ليحكم مدى الحياة، واغتيل آخرون وجها لوجه برصاصات غادرة أو رصاصات صديقة أو مأمورة، وسالت دماء رؤساء وملوك وأمراء وسلاطين، وهم يخطبون فوق منابرهم، أو على كراسيهم من رصاصات قاتلة جاءتهم من الخلف ممن كانوا يقومون بحراستهم وحماية أمنهم، أو من سيوف لمَاعة وخناجر مسمومة أو آلات حادة تم التحضير لها بليل.
من أجل الكرسي وقعت عداوات عائلية وقبلية بين جهة وجهة، ومن أجل الكرسي الملعون شُنتْ حروب تحت تسميات مختلفة باسم الدفاع عن الشرف وباسم حماية الحدود وباسم حماية الثروات وباسم الدين وباسم العرق، وبمسميات لا حصر ولا عد لها.
باسم الكرسي انقلب الابن على الأب، والشقيق على الشقيق، والقريب على القريب، والصديق على الصديق، والجار على الجار..
كم طيَر الكرسي رؤوسا متطاولة تحمل التيجان المرصعة بالذهب والفضة والزمرد والياقوت ومتوجة بالنصر ومملوءة بالغرور والكِبر، كان مجرد انحنائها يبدو من المستحيلات في أعين الناس.
كم أحنى هذا الكرسي اللعين رؤوسا لملوك وسلاطين ورؤساء وزعماء كانت رؤوسهم لا تعرف الركوع إلا لخالقها وقد لا تعرفه أصلا.
وكم رفع رؤوسا لم يكن بشر يشك لحظة واحدة أن تعتلي الكرسي لأنها لم تكن أهلا لسلطة أو لتبوء كرسي الحكم.
كم دوَخ الكرسي ولعنتُه الدائمة كثيرا من البشر في هذه الدنيا على مر العصور، فظنوا أنفسهم خالدين في الحكم مدى الحياة، ماسكين زمام الأمور، متوهمين أن الكرسي لن يزل بهم.
ومازالتْ لعنة الكرسي تطارد البشر إلى أنْ يقضي الله أمرا كان مكتوبا.
الكرسي يظل هو الكرسي ببريق لمعانه وبلعنته كذلك التي قد تصاحب البعض، يبحث عنه البعض طمعا في سلطة وجاه ومال ونفوذ، وطمعا في مجد وعز وجاه، وطمعا في ثروات متعددة، وطمعا ما يُكتب ها هنا وفي ما لا يكتب في السطور، طمعا في خلق لوبيات ومحيط وأنصار وخَدم وحشم وجوار ولوبيات، وطمعا في توريث ملكي أو جملكي كما عرفناه في التاريخ العربي المعاصر بعد أن ابتدعه بعض الحكام العرب، حيث ذهب ببعضهم إلى غير رجعة.
حملت فلسفة اعتلاء الكرسي أسرارا وتحالفات، وتوجته علاقات ومؤامرات، وعززته أموال ومؤسسات، ودخلت في نسج خيوطه نساء ورجالات.
كانت للمرأة والمال والسياسة ولعبة التحالفات واللوبيات على الدوام أدوار بارزة في صناعة الكرسي وفي لعنته أيضا، مثلما كانت لها كذلك أدوار خفية تارة وعلنية تارة أخرى في إسقاط صاحب الكرسي.
يُعْلي الكرسي أحيانا شأن من لا شأن له في المجتمع، فيصبح الكثيرُ من الناس مختصين في التقرب منه والتودد إليه والتسليم على مَن اعتلاه ربما بطرق مهينة للكائن البشري كالركوع الذي يكاد يلامس صاحبُه الأرض ويقترب من قدمي من ركع له، وقد يُذِل الكرسي البعض ويدجنهم فيصبحون خائفين مذعورين من الإقدام على أي قرار يتخذون أو أي مسؤول يتطلب الأمر عزله، فلا يقدمون على ذلك خوفا من ردة فعله ومن اللوبيات الدائرة في فلكه حتى لو كان الشخص المقصود ضعيف الشخصية، عديم الكفاءة، عاجزا عن التسيير والأخلاق، مثلما نشاهد ذلك في الواقع المعاش في أكثر من بلد عبر العالم.
ولو أننا عدنا للتاريخ نستقرئ بعض أحداثه ومضامينها لوجدنا أن لعنة الكرسي قد طالت الكثير من الحكام، وأدت إلى اغتيال العشرات منهم عادلين وطغاة في نفس الوقت.
منذ أن أقدم هابيل على قتل أخيه قابيل ومسألة الاستئثار بالسلطة كيفما كان شكلها والسطوة وحتى التحكم في قلب المرأة وعملياتُ الاغتيال على الحكم والكرسي تتزايد في كل عصر في شتى بقاع المعمورة.
في روما القديمة اشتهرت لعنة الكرسي بحادثة اغتيال يوليوس قيصر امبراطور روما على يد مجموعة من المقربين إليه من بينهم بروتس، الذي كان آخر المتآمرين الذين غرسوا خناجرهم في جسم الامبراطور المغتال، وعندما التفت الامبراطور المغدور به إلى بروتس وهو يحتضر قال له تلك العبارة التي أصبحت متداولة على ألسنة كثير من الساسة: “حتى أنت يا بروتس"..
كانت تلك الزفرة الأخيرة لإمبراطور روما تعني التحسر على ما يقع للإنسان من غدر وخيانة وخاصة عندما تأتيه من أقرب الناس إليه، من الذين لا يصل الشك إليهم مطلقا ويحسبهم من أخلص رجالاته ومساعديه.
في مصر يتداول المتعاملون مع الفايسبوك عبارات بشأن لعنة الكرسي التي طالت بعض الزعماء الذين حكموا مصر منذ فرعون إلى مبارك فيدونون هكذا في أحد المواقع:
فرعون أغرقوه..
فاروق طردوه..
نجيب خلعوه..
عبد الناصر سمَمُوه..
السادات قتلوه..
مبارك سَجنوه..
فماذا يقول الآخرون ولعنة الكرسي والصراع عليه لم تستثن بلدا بعينه، في الهند اغتال العنف والتطرف والتسلط واللاتسامح فيلسوف التسامح واللاعنف نفسه، فقد قُتل زعيم الأمة الهندية ورائد استقلالها و صاحب فلسفة “الساتيا غراها" المهاتما غاندي، لا لشيء إلا لأن أحد المتطرفين الهندوس رفض أن يشارك المسلمون الهنود في حكم الهند أو يقتسمون الكرسي مع الهندوس.
لعنة الكرسي أشعلت حربا أهلية مدمرة في رواندا، فأدت إلى مصرع مليون مواطن رواندي من قبيلتي التوتسي والهوتو اللتين تصارعتا على زعامة الكرسي.
لعنة الكرسي لم تترك العقيد الليبي السابق معمر القذافي يصل إلى مطار طرابلس وكان قد حزم أمتعته ليحل ضيفا على شافيز في فنزويلا ويترك الكرسي لمناوئيه الذين كانوا يهددون نظامه بالسقوط، لكن الغرور وحب الكرسي ترك العقيد يواصل مسلسل القتل ضد مناوئيه، فيَقتل منهم العديد ثم ينتهي به الأمر أن يُقتل هو شر قتلة من طرف من وصفهم على المباشر بالجرذان.
كثيرون في هذا العالم طالتهم لعنة الكرسي بالاغتيال تارة وبالانقلاب تارة وبالإعدام تارة وبتنكر الأصدقاء وحتى الأوفياء لهم تارة أخرى.
من بين آخر لعنات الكرسي محاولة الاغتيال التي نجا منها الرئيس الموريتاني الجنرال محمد بعد العزيز، الذي قيل إن رصاصات صديقة حاولت وضع حد لحياته وإبعاده عن الكرسي الرئاسي بعد أن كان هو الآخر قد قام بتدبير انقلاب عسكري ضد الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد الشيخ عبد الله، في السادس أوت 2008، إثر قيام هذا الأخير بتنحيته من على رأس الحرس الرئاسي الذي كان يقوم بحماية الرئيس.
الولع بالكرسي جاء بالزين على رئاسة تونس في السابع نوفمبر 1987، لينهي حكم المجاهد الأكبر الذي وضع قبل ذلك دستورا على المقاس ليحكم به مدى الحياة، لكن لعنة هذا الكرسي انتهت بالزين هو الآخر بعد عز ومجد كبيرين إلى أن يهرب من بلده ويفر بجلده فوق طائرة حمل فيها كل ما استطاع تهريبه، ولولا السعودية التي استقبلت طائرته تلك ما كان لطائرة الزين أن تهبط في أي مطار من مطارات العالم بعد أن رفض حتى من كان يتوهم الزين أنهم أصدقاؤه أن تحط طائرته فوق أرضية مطارات عواصمهم، وهم الذين كانوا يجدون في الزين نعم الأنيس إذ عنده كل وسائل الراحة و«التفرهيد" على الطريقة التونسية!!.
لعنة الكرسي جعلت الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، يُقْدم على غزو العراق لمجرد أن سفيرة واشنطن بالعراق آنذاك لم تعترض على غزو للكويت كما توهم الراحل صدام، وكان ذلك كما بينته الأيام فخا لرجل انتهى به ولعه بالكرسي أن يُقْبضَ عليه في حفرة بعد أن اضطر للفرار من كل القصور الفاخرة التي كان يرتع فيها حيث يعدم كل من يشك فيه يحوم حول الكرسي، فإذا به هو يُعْدمُ على المباشر في يوم عيد.
في الجزائر، شاهدت خلال شهر رمضان الماضي عرضا مسرحيا من نوع المونولوج كتبه وأداه الصديق حميدة العياشي، مدير جريدة “الجزائر نيوز" تحت عنوان “1962".
وهذا المونولوج يحكي عن لعنة الكرسي التي جاءت ببن بلة إلى الكرسي من قبل رفاق بومدين ليكون أول رئيس للجزائر المستقلة، ثم تنحيته في 1962 ليخلفه من فوق نفس الكرسي من جاء به إلى الحكم قبل ذلك، ثم يدخل السجن كأول رئيس جزائري يسجنه الصراع على الكرسي اللعين لمدة 13 سنة، ثم أتى الكرسي بالشاذلي الذي اضطر إلى التخلي عنه بعد 13عاما من الحكم، ليتركه هو الآخر للرئيس الراحل محمد بوضياف الذي اغتيل فوق الكرسي الملعون وهو يخطب في قاعة دار الثقافة في عنابة على المباشر عام 1992.
وربما تكون لعنة الكرسي هي التي جعلت الرئيس زروال يترك الكرسي مثلما تركت قبل ذلك بن يوسف بن خدة ثاني رئيس حكومة جزائرية مؤقتة يتخلى عن الكرسي مُكْرها دون أن يشعر بطعم الكرسي بعد استعادة الاستقلال في 1962.
ما أعتقده أن لعنة الكرسي لن تزول من المعمورة كلها إلا بتطبيق الحكم الراشد وتجسيد ديمقراطية فعلية تمكن الرجال والنساء الأكفاء من الوصول لهذا الكرسي عن طريق الكفاءة وحسن التسيير وسواد الأخلاق في السياسة وعبر انتخابات وصناديق شفافة غير وهمية، لا يفسدها المال ولا الرداءة ولا التدخلات ولا اللوبيات الفاسدة المختصة في حبك المؤامرات والدسائس ولا التموقع المغشوش لصالح الفئات التي لا تبحث سوى عن مصالحها وحماية ثرواتها ونفوذها والبحث عن رجالات ونساء يؤدون الخدمة على المقاس.
محمد بوعزارة
الأراء الواردة في هذه الصفحة لا تعبر بالضرورة عن رأي الجريدة
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 8
إقرأ أيضا:
* ماذا يريد “العم جورج" من الجزائر..؟.. تجريم الاستعمار بين الوهم والحقيقة
* يا دعاة الردة الثقافية: توقفوا..
* هشاشة العصر
* كيف يستقبل الجزائريون نهاية العالم - 21 / 12 / 2012 -
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)