الجزائر

مشكلة الهوية وصراع الثقافات.. قراءة في رواية "الاستسلام"



مشكلة الهوية وصراع الثقافات.. قراءة في رواية
الأهرام اليوميالأدب هو مرآة الشعوب، بل هو التعبير الصادق للبسطاء الذين لا يستطيعون نقل صراحتهم للعالم، بل إننا نستطيع أن نصف الأديب بالبوصلة التي قد تغير دفة السفينة إلى الاتجاه الأمثل حتى ترسو سفينة الوطن على بر الأمان.إن الأديب يستطيع أن يتنبأ بأحداث مستقبلية نتيجة لتحليله الدقيق المستند على ثقافة مليئة بالخبرات الناتجة عن مختلف القراءات، والتي تصنع داخله بانوراما اجتماعية – سياسية – تاريخية يستقيها من تاريخ الشعوب، ونجد مثل هذه التنبؤات في العديد من الأعمال الأدبية مثل رواية "انتفاضة" للكاتبة الفلسطينية "سحر خليفة"، التي ظهرت قبل الانتفاضة الفلسطينية عام 1987، ورواية "الميراث" لنفس الكاتبة، التي تنبأت بأن يحكم أمريكا رجل أسود، إلى جانب رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، التي تنبأت بثورة 1952م، و"أجنحة الفراشة" لمحمد سلماوي"، التي أيضاً تنبأت بثورة 25 يناير 2011م.إلا أننى أسلط الضوء هنا على إحدى الروايات الفرنسية التي ظهرت منذ عام تقريبًا، قبيل أحداث شارلي إبدو في باريس، إنها رواية "الاستسلام" للكاتب الفرنسي ذائع الصيت ميشيل ويلباك.تتنبأ هذه الرواية بالأحداث السياسية في المجتمع الفرنسي بعد انتهاء الولاية الثانية للرئيس الفرنسي الحالي فرنسوا هولاند في عام 2022م، حيث تبدو فرنسا، من وجهة نظر الكاتب، تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وتراجع للحقوق المدنية.كما أن الحزبين السياسيين الأكثر شيوعًا يفقدان مصداقيتهما عند الشعب، ليتصدر بالتالي الحزب اليميني المتطرف في موقفه السياسي، مستندًا على الحفاظ على الهوية الفرنسية، كما يظهر حزب ديني إسلامي له برنامج سياسي مقنع، يبدأ في التنافس على المقعد الرئاسي. على امتداد 300 صفحة تتسارع دقات قلب القارئ باحثًا عن النتيجة، ومتتبعًا تلك الأحداث الخيالية، ليتساءل مرارًا وتكرارًا: هل يمكن لمسلم أن يصبح يومًا رئيسًا لدولة علمانية مثل فرنسا؟يرى الكثيرون أن طرح مثل هذا الموضوع يطرق أبواب الفزاعة الأوروبية المسماة الإسلاموفوبيا، والتي ترى الإسلام خطرًا حقيقيًا يهدد الهوية الفرنسية. جاءت الأحداث على لسان البطل فرانسوا، أستاذ جامعي في السوربون، وهو تجسيد للمواطن الفرنسي العادي الذي يعيش حياة رتيبة بين عمله بالجامعة وعلاقاته العابرة بالطالبات، وفكرة الانتحار التي كانت تراوده من حين لآخر بسبب الهلع من فكرة المرض، ويوميات غير مستقرة مع زملاء العمل، إلى جانب علاقات أسرية مهلهلة تنم عن تفكك أثر التراحم بين أفراد الأسرة الواحدة.أما المرشح الإسلامي الذي سيفوز بالرئاسة هو محمد بن عباس، أحد المهاجرين التونسيين الذي كان يعمل في محل للبقالة في باريس، والذي يبدأ في تطبيق فعلي لبرنامجه الانتخابي فور فوزه بالمقعد الرئاسي، فيقوم بمضاعفة الأجور لرجال التعليم، مما يحفز الكثيرين على اعتناق الإسلام؛ طمعًا في الراتب المرتفع، إلى جانب إجازة الزواج المتعدد الذي يطفئ شهوة رجل مثل فرانسوا، وليس اقتناعًا منه بمبادئ هذا الدين.إلا أن الكاتب، الذي عرف بعدو النساء، استثار غضب الكثيرين عندما تحدث عن ترك النساء للعمل، كان هو الحل الجذري الذي قضى على البطالة في هذه التركيبة المجتمعية الجديدة؛ ليؤكد هذا على لسان أحد أبطاله في الرواية قائلًا: لم أقتنع أبدًا بأن إعطاء المرأة حقوق التصويت فكرة جيدة، ولا السماح لها بتلقي نفس التعليم الموجه للرجل، ولا شغل نفس المناصب!إن هذا العمل يطرح أزمة الإنسان المعاصر الذي يبحث عن معنى حقيقي لحياته وسط ضياع الهوية التي تتأثر بكل ما يحيط بها من تصريحات إعلامية أو سياسية، وهو ما دفع رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس للتصريح بأن فرنسا ليست ويلبيك، فرنسا ليست الكراهية والخوف. ويتوالى سرد الأحداث حتى لحظة الاقتراع؛ حيث يصور لنا الكاتب مظاهرات حاشدة في أهم ميادين باريس، التي تشهد بحرائق عظيمة ومواجهات مسلحة دون أدنى تغطية للإعلام الفرنسي، وهذا بالطبع يجعلنا نعتقد بأن ويلبيك تأثر كثيرًا بأحداث ثورة 25 يناير، واستقى أحداثها مستندًا على تفاصيل ثورتنا المصرية تحت تعتيم إعلامي شديد.إلا أن الصفحات الأخيرة للرواية جاءت في شكل جدلية فكرة الإسلام والحضارة الغربية على لسان رئيس جامعة السوربون، التي تحولت لجامعة إسلامية، مؤججًا فكرة الهلع من استسلام مجتمع يعاني من أزمة هوية حقيقية أمام التيار الجارف للإسلام.فنستنتج في الخاتمة سبب اختيار المؤلف لعنوان الرواية ا"لاستسلام" أو الخضوع، الذي يتلخص في عبارة رئيس الجماعة: إن فكرة الخضوع لم يتم التعبير عنها بهذه القوة الرائعة من قبل، بل وببساطة شديدة تتجلى الفكرة في أن قمة السعادة تتمثل في الخضوع المطلق. وأخيرًا، فإننا نؤكد أن كل تلك الأحداث تتكرر في أنماط اجتماعية مختلفة مما يثير هاجس التحدي الثقافي، بصفته أحد التحديات المعاصرة التي يجب أن نهتم بها في ضوء المتغيرات العالمية؛ نظرًا لما تشكله الثقافة من مرجع معرفي يزود الفرد والمجتمع بالأفكار والرؤى التي تنير له الطريق، علاوة على أن الأمة التي لا تتبلور شخصيتها الثقافية تخسر مستقبلها، فلن يكون هناك تحقيق للتطور دون شخصية ثقافية واضحة، وهذا ما نستخلصه أخيرًا، بل وندعو إلى إعادة هيكلة الثقافة العربية وملامح الهوية الشرقية حتى لا تتوه وسط هذا الصخب العالمي بل لتؤثر من جهة أخرى في الآخر، ولن يتأتى هذا إلا ببناء جسور التواصل مع الغرب لإيصال صورة حقيقية واضحة تليق بالمواطن العربي المعتدل.فنحن فقط من يستطيع تغيير النظرة الخاطئة للغرب عن العرب والمسلمين، بل إنه يتوجب علينا أن نزيل عن أعينهم الغشاوة حتى ينقشع الضباب الذي قطع الطريق معهم، ملوحين لهم بنماذجنا المشرفة المعتدلة والمثقفة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)