الجزائر

مسلسل تحطيم المؤسسات يتواصل



عابد شارف
كيف يمكن تنظيم انتخابات أسوأ من التشريعيات التي جرت في مايو الماضي؟ احتار الخبراء في الإجابة عن هذا السؤال أسابيع طويلة، وأجمعوا أنه لا يمكن تجاوز ما أنجزته البلاد في هذا الميدان، لأنه من المستحيل أن تكون القوائم ضعيفة إلى هذه الدرجة، وأن تذهب نسبة المشاركة إلى أقل من 35 بالمائة.
وقال البعض منهم أن السلطة تكسب من العلم والتجربة ما يسمح لها بتحسين الوضع، وأنها ستعمل لتجنيد أجهزتها وهياكلها لرفع مستوى المشاركة، وأن الإدارة ستضغط على الممتنعين، وأن تحقيق وزارة الداخلية تجاه المنتخبين ستضمن مشاركة أوسع، وأن الأحزاب ستتسلم توجيهات لتغيير مستواها نحو الأحسن. وقالوا كذلك أن الجزائر وصلت إلى أعماق البئر في ميدان الانتخابات، وأنها ستقوم بقفزة نوعية ستعطي ثمارها ولو بنسبة ضئيلة. وقالوا أخيرا أنه من المستحيل أن تواصل البلاد مسلسل تراجع المؤسسات ، وانهيار القيم التي تبنى بها المشاريع، وتحطيم مكونات الدولة. لكن كل هؤلاء لم يفكروا أن الجزائر التي وصلت إلى أعماق البئر ستختار أن "تحفر"، لتصل إلى حدود غير معهودة، وتبرهن للعالم أن عبقريتها لا تعرف حدودا.
وفعلا، برهنت البلاد على عبقريتها، ووجدت الحول الضرورية لتذهب إلى ابعد مما كنا ننتظر في ميدان الانهيار، ووصلت إلى حل لتنظيم انتخابات أسوء من تشريعيات مايو. ولم تكتف الجزائر بحل واحد بل اخترعت سلسلة من الإبداعات التي أبهرت العالم. وأول حل لجأت إليه البلاد يتعلق بدور أجهزة الأمن، التي تدخلت بقوة في تصفية القوائم من الأسماء غير اللائقة.
وأكد وزير الداخلية نفسه هذا الدور، لما حاول أن يبرر رفض بعض القوائم. غير أن دراسة البعض منها يثير حيرة كبرى، لما نرى مثلا أن رئيس بلدية حالي أصبح يشكل تهديدا على أمن المجتمع لما ترشح لعهدة ثانية، وهو الذي قضى عهدة أولى هادئة. وتؤكد ظاهرة تحقيق أجهزة الأمن حول المرشحين ونشر محتواها أن أجهزة الأمن استعملت لتصفية حسابات لا تبررها لا محاربة الإرهاب التي عاش بها النظام منذ عشرية ونصف، ولا التحقيقات التقليدية التي تعطي لأجهزة الأمن سلطة فوق سلطة الإدارة والناخب.
وأكثر من ذلك، أصبحت أجهزة الأمن طرفا رسميا معلنا عنه يطالب رسميا بدوره، ويعلن عن ذلك في الجرائد. وكان تدخل أجهزة الأمن في الماضي معمولا به، لكن بطريقة تتميز بمرونة أكبر. وقد أكد لنا محافظ سابق في جبهة التحرير الوطني أن إعداد قوائم الانتخابات كان يتم بالتوافق بين أجهزة الحزب وأجهزة الأمن، وأنه كان هناك مجال للنقاش والحوار. لكن أجهزة الأمن اختارت هذه المرة أن تفرض مرشحيها، وإن لم تتمكن من ذلك، فإنها لا تتردد في اللجوء للإعلان عنه بواسطة الجرائد لتتبرأ من القوائم المقترحة.
ويقول أحد المتتبعين للعملية الانتخابية أن عددا من القوائم شكلت موضوع نزاع في أجهزة الأمن، حيث أن بعض المترشحين تمكنوا من الحصول على مساندة جهاز ما، بينما تحصل آخرون على مساندة جهاز ثاني أو مساندة الإدارة، مما أدى إلى ظهور خلاف بين مختلف الأطراف. وفي بعض الأحيان، أدى الوضع إلى خلاف داخل نفس الجهاز بسبب عدم التوافق على قائمة المترشحين.
وإذا أضفنا دور الولاة، فإن الانتخابات تحولت إلى عملية بيروقراطية بوليسية محضة، لا علاقة لها باختيار الشعب ولا بالقانون. وأصبحت هياكل الدولة نفسها لا تحترم حدا أدنى من القضايا الشكلية التي من الممكن أن تستر المحال، وأصبح كل شيء مطروح في الشارع. ويكفي زيارة أية مدينة من المدن الجزائرية لنعرف من هو مرشح الوالي ومن هو مرشح الأمن ومن تحصل على تأشيرة "الدياراس".
أما الأحزاب المسكينة، فلم يبق لها ذكر. وأول ضحية هو بطبيعة الحال حزب جبهة التحرير الوطني الذي لم تبق له صفة من صفات الحزب. وأصبح هو الآخر لا يحترم حدا من الشكليات، حيث سلم أمره لأطراف أخرى، خاصة أجهزة الأمن والإدارة. وقال مسئول سامي في جبهة التحرير أن عددا من القوائم تم الاتفاق عليها بعد تزكيتها من مصالح الأمن، وقامت أجهزة الحزب بإرسالها إلى الهيئات المحلية، لكن أطراف أخرى اختارت مرشحين آخرين وفرضتها، وما كان على قيادة الحزب إلا الخضوع لهذا القرار.
بعد كل هذا، لم يبق إلا انتظار نسبة المشاركة التي سيعلن يزيد زرهوني بعد الانتخابات. لكن هذه النسبة أصبحت بدورها لا تشكل شيء يذكر، في بلد يعمل وكأنه يريد دفع الأزمة إلى حدود جديدة. وما هذا إلا تطبيق لمبدأ معروف: بناء الديمقراطية دون الشعب.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)