الجزائر

مستقبل الجزائر.. الحل الدستوري أم الشرعية الشعبية؟



اقترب حراك الشارع الجزائري كثيرا من مرحلة الحسم، فالمسيرات السلمية التي تواصلت للجمعة السابعة، رغم استقالة الرئيس بوتفليقة واعتذاره للجزائريين، يؤكد بأن الملايين التي اكتسحت مختلف جهات الوطن، لم تكن تريد فقط إسقاط حكم بوتفليقة، وإنما أيضا تغيير النظام والذهاب نحو "جمهورية ثانية" والتأسيس لنظام جديد ديمقراطي يكون في مستوى طموحات الجزائريين.
تسارعت الأحداث خلال الأسبوع الأخير واقتربت البلاد أكثر من المخرج المأمول من مسلسل الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 22 فيفري الماضي، فالمواجهة الخفية أو المعلنة بين الرئاسة وقيادة أركان الجيش، خاصة بعد إعلان رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح دعم المؤسسة العسكرية للحراك الشعبي، عجلت بتلبية جزء من مطالب الحراك الشعبي، وفق الكثير من النشطاء السياسيين والحقوقيين والأحزاب المعارضة، فلم تمضِ ساعة على أخر بيان لوزارة الدفاع حتى خرجت الرئاسة ببيان استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رسمياً. وجاءت رسالة الاستقالة حبلى بالمشاعر وحاملة لعبارات توحي كلها بأن المواجهة في دواليب السلطة كانت قاسية بين المتصارعين، واعتبر بوتفليقة في رسالة استقالته أنها جاءت "لتهدئة نفوس الجزائريين ودرءاً للمهاترات اللفظية" وعاد بوتفليقة برسالة "اعتذار من الجزائريين" صدرت الأربعاء من الأسبوع المنصرم، بعد تثبيت المجلس الدستوري حالة شغور منصب رئيس البلاد، بحيث طلب بوتفليقة من الجزائريين "العفو والمسامحة والصفح"، وقال: "أطلب منكم الصفح وأنا بشر غير منزه عن الخطأ"، مضيفا: "أطلب المسامحة عن كل تقصير ارتكبته في حقكم بكلمة أو فعل"، وتابع بوتفليقة قائلا: "يعلم الله أنني كنت صادقا ومخلصا خلال عشرين سنة". والواضح أن هذه الرسالة التي لم يتوقعها أكثر المعارضين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة لها دلالاتها وهي تخفي من دون أدنى شك أسرار كثيرة حول ما حصل حقيقة في أعلى هرم السلطة.
السؤال المطروح حاليا هو حول المستقبل، وعن الطريق الذي ستسلكه الجزائر للوصول إلى الجمهورية الثانية، هل سيتم الانتقال الديمقراطي ضمن أطر الدستور، أم سيخضع الجميع لإرادة الشارع ويرسم معالم الانتقال الديمقراطي خارج أطر الدستور وضوابطه المعروفة، وترد الباحثة ايزابيل فيرينفيلس في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن عن سؤال: هل ستلتزم الجزائر بالعملية الدستورية مع انتخابات في خلال 90 يوما، أو سيكون هناك جهد للتفاوض للوصول إلى نتيجة خارج إطار الدستور؟، حيث تقول: إنه في الوقت الراهن أطلقت الآليات المؤسساتية وبدأت الحكومة تعطي إشارات ولو رمزية إلى انفتاح ديمقراطي على الإعلام والمعارضة والمجتمع المدني. ويجري، قبل اجتماع البرلمان، الحديث عن استقالة عبد القادر بن صالح بهدف تعيين مكانه شخصية مقبولة أكثر، ومن الوارد أيضا استقالة المجلس الدستوري، وهي الوسيلة الوحيدة لتغيير أعضائه، لكن تعيينهم من سلطة رئيسي الدولة والحكومة ومؤسسات النظام في المقابل، فان رئيس الدولة بالوكالة لا يملك السلطة الدستورية لتعديل الحكومة. وفي حال لم تهدأ حركة الاحتجاج، فسيكون من الصعب مواصلة العملية إلى نهايتها. وتضيف ايزابيل فيرينفيلس: "أحد الخيارات يمكن أن يكون تعيين شخصية مستقلة توافقية لإدارة مؤسسة انتقالية"، فيما يرى حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات العربية والمتوسطية في جنيف، أن "المخاوف كبرى من حصول مواجهة بين الشارع والمؤسسة العسكرية"، وأن "الجيش اليوم ليس له سلطة مضادة" في الجزائر، ويواصل عبيدي قائلا: "الجيش ليس مخولا أو مدربا على إدارة عملية انتقالية حساسة تقررت على عجل مع رحيل غير متفاوض عليه لرئيس الجمهورية"، معتبرا أنه من الضروري الدخول مباشرة في دورة مفاوضات لتأمين انتقال هادئ للسلطة.
والواقع أن قراءة الواقع الجزائري على ضوء الحراك الشعبي وسيل القرارات الواردة من أعلى هرم السلطة، يجب أن يتم بعيدا عن التسرع وإصدار أحكام قد تكون غير منطقية ولا تتوافق مع معطيات كثيرة ربما تناقض تلك التحاليل المبنية على العاطفة أو التي تنجذب بحكم ولاءات معينة لجهة من الجهات هي طرف في الصراع الدائر، فاستمرار الحراك الشعبي لم يعد مرهونا بمدى تقبل الملايين التي خرجت إلى الشارع في مختلف جهات الوطن، ولا حتى لقناعة الشخصيات أو الأطراف التي تقدم نفسها على أنها ممثلة للحراك الشعبي وتتحدث باسمه، بل مرتبط بشكل خاص بمدى انسجام القرارات التي اتخذت أو ستتخذ مستقبلا حول رأس السلطة وما يحيط به من فاعلين قدموا جميعا على أنهم كتلة واحدة تطالب الاحتجاجات الشعبية بضرورة رحيلها "فورا"، إلا أن ما يلفت الانتباه هو أن الحسم بهذه الطريقة والذي تتكفل به كما هو واضح قيادة الجيش، أصبح يطرح هو الأخر إشكالية احتمال الالتفاف على الحراك الشعبي وما تضمنه من أمال عريضة للانتقال نحو جمهورية ثانية، فالشعارات التي رفعت لإسقاط النظام قد تبدو مبالغ فيها لمن يدرك معناها جديا، لكن هذا قد لا يمنع من تحقيق إصلاح حقيقي وجذري يكنس بعض وجوه الفساد في أعلى هرم السلطة، ويؤسس لممارسات سياسية جدية، تسمح بتوسيع مساحة الحريات وتكريس الممارسة الديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون التي ينادي بها الجميع، وهنا يطرح الإشكال التالي: هل تدخل العسكر لوضع حد للأزمة الحالية ولو جاء متناغما مع إرادة الشعب الجزائري ومنسجما مع تطلعات الحراك، هو أني وظرفي، أم سيمهد الطريق أمام سرقة ما يسميه البعض ب "ثورة الشارع الجزائري" ويعيد البلاد إلى مربع البداية، بمعنى العودة إلى سطوة الجيش وإلى حكم "الكسكيطة" كما يقال في لغة الشارع؟
ويبدو استحضار البعض تجربة المصريين مع السيسي في الحالة الجزائرية مبني على معطى مهم وهو تشابه طبيعة النظام في الجزائر مع نظيره المصري في الكثير من الجوانب، وجود دولة مؤسسات قوية عمادها وضامن لها هي المؤسسة العسكرية التي تعتبر في الحالتين أكثر تنظيما وهيكلة، فالبعض ركز على تشابه الأحداث في انتفاضة المصريين وما يحصل في الجزائر، فخروج الآلاف إلى ميدان التحرير في القاهرة عجل بسقوط الرئيس حسني مبارك وأبناءه وحاشيته، فسارع دبابات الجيش للحسم في الصراع بين الشارع والحكم في مصر وانتصرت، وفق ما روج له حينها، للشارع وأزيح مبارك ليخلفه العسكر بزعامة قائد الجيش عبد الفتاح السيسي، ومنذ ذاك والمعارضة تتحدث عن "الثورة المضادة" في مصر وعما تسميه التفاف عسكر مصر على "ربيعها" الذي جاء في سياق ما سميت ب "ثورات الربيع العربي"، وعبر عن هذه الحالة الاستثنائية كاتب صحفي فلسطيني حاول المقارنة بين التجربتين، حينما قال: " واحتاج أبناء الثورة أنفسهم شهوراً، وسنوات، ليستيقظوا بعد فوات الأوان، على وقوعهم ضحايا لعبةٍ جهنمية، بدأت بمنحهم انتصاراً وهمياً كاذباً، ثم تواصلت بسلبهم كل قدرةٍ على التأثير في مسار الأحداث، منذ إسناد مهمة التغيير إلى حكومةٍ تشكّلت من رجال النظام القديم، وحتى ما بعد وقوع الانقلاب العسكري الذي قاده وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي، وأطاح التجربة كلها، مُدخلاً البلاد في حقبة قمعٍ دمويةٍ، تزيد قسوتها، بما لا يقاس، عن قسوة سابقتها، ويُراد لها، ومعها نماذج أخرى في العالم العربي، أن تدفع الناس إلى التوبة عن فعل التمرّد على حُكَّامهم..."، وإن اعترى هذا الوصف بعض المبالغات التي ربما هي نابعة من موقف سياسي يميل أكثر إلى صف التيار الاخواني في مصر الذي عجز هو الأخر عن ترجمة "ثورة المصريين" على مبارك وفتح الأبواب أمام تدخل الجيش المصري.
في الجزائر بدأ الخوف من تكرار "نموذج السيسي" يلوح في الأفق بعد خطاب رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أحمد قايد صالح والذي دعا من خلاله إلى ضرورة تفعيل نص المادة 102 من الدستور المتضمنة المانع بسبب العجز أو المرض، مما أتاح تنحية الرئيس "الاستقالة" والدخول في مسار دستوري يسمح بالانتقال بشكل سلس، مع المحافظة على مؤسسات الدولة، لكن ما حصل فيما بعد من ردود الفعل المتباينة بخصوص اللجوء إلى المادة 102 من الدستور، أعطى الانطباع بأن الصراع في أعلى هرم السلطة هو المسيطر على الأحداث وأن زخم المسيرات الشعبية بدأ يلتطم بسيل القرارات المتتالية الواردة من الجيش أو من رئاسة الجمهورية، فالزعيم السابق لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية قال صراحة بأن تدخل قيادة الأركان يمهد لانقلاب عسكري، وهو الموقف الذي عبرت عنه بعض الوجوه المعارضة، لكن لم تتقاسمه أطراف أخرى في المعارضة التي اعتبرت بأن دعوة رئيس الأركان إلى تفعيل المادة 102 ينسجم تماما مع إرادة الجزائريين ويلبي مطالب الحراك الشعبي. وربما الذي يريح الداعمين لتصريحات الفريق أحمد قايد صالح هو تأكيده أيضا بأن الجيش هو مؤسسة دستورية وسيظل كذلك ولن ينحرف عن هذا المبدأ، ففي كلمة له غداة اجتماع ضم قادة الجيش في مقر أركان الجيش الوطني، قال قايد صالح إن اقتراحه "يندرج ضمن المهام الدستورية للجيش الشعبي بصفته الضامن للحفاظ على الاستقلال الوطني والسهر على الدفاع على السيادة الوطنية والوحدة الترابية وحماية الشعب من كل مكروه". لكن ما مدى قدرة العسكر على الثبات على نفس الموقف في ظل الصراع الذي بدو أنه أصبح مفضوحا في أعلى هرم السلطة، وهل بمقدوره تقديم بدائل عملية لمرحلة انتقالية تسمح بانتقال ديمقراطي سلسل وحقيقي، وقبله المحافظة على الدولة وصون استقرار البلد، وإفشال كل السيناريوهات الهادفة إلى الزج بالبلاد في متاهات الفوضى؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)