صدر مؤخرا عن منشورات "الشهاب"؛ كتاب بعنوان "رابح بيطاط.. رجل، تاريخ" يتناول مسار هذا المناضل الذي ترك أثره في مسيرة الثورة والاستقلال، لذلك اعتبر سجلا للذاكرة الوطنية ورمزا للوفاء بخصاله التي لم تتبدّل ولم تحد عن الطريق الذي رسمه رفقاء السلاح، كما ساهم الرجل بكلّ ما أوتي من عزم في إرساء مبادئ الوفاق والمصالحة الوطنية. يعتبر الكتاب وقفة عرفان للراحل بيطاط باعتباره من رجال الثورة التحريرية الكبار، ومن خلال ذلك، سيكتشف القارئ أيضا حقائق كثيرة وتفاصيل عن مجريات حرب التحرير وعن مفجريها الأوائل، وكذا عن التضحيات والآلام التي تكبّدها الشعب الجزائري طيلة هذه الحرب ومواجهته لقوة استعمارية بربرية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإنساني الطويل.كتب مقدمة الكتاب رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، حيث شهد لرفيق دربه بيطاط بالوطنية العالية والحب والتفاني من أجل الوطن، واصفا رحيله بالخسارة للجزائر، مؤكّدا على قامته النضالية وعلى الاحترام والتقدير الذي ناله وسيناله من أجيال الغد، بفضل خصاله وشجاعته التي ظهرت في فترة حالكة من تاريخنا الوطني تحداها هو وبعض الرجال الذين سخروا أنفسهم لخدمة الوطن ونالوا شرف الشهادة والانتصار، وأشاد السيد الرئيس بحرص الراحل على ترسيخ الوفاق الوطني والجمع بين أبناء الوطن الواحد.مؤلّف الكتاب هو ابن أخ الراحل فريد بيطاط (أستاذ جامعي وباحث)، اجتهد في تقديم تفاصيل خاصة بالمسار النضالي والثوري لرابح بيطاط الرئيس الثالث منذ الاستقلال، لفترة انتقالية دامت خمسة وأربعين يوما، عقب رحيل الرئيس هواري بومدين، واعتمد المؤلّف على شهادات عدد من الرفقاء والشخصيات الوطنية والتاريخية ممن عرفوا الرجل، كما تناول ظروف الإعداد للثورة، وتكوين الخلايا السرية التي ساهمت في تفجير الثورة، منها اللجنة الثورية للوحدة والعمل، ومجموعة الاثنين والعشرين، وغيرها، واستعان المؤلف أيضا بمقاطع من خطابات الرجل بأشهر العبارات التي أطلقها، وتعكس مدى حنكته السياسية وحكمته وهدوئه الذي عرف به.من جهة أخرى، يفتح الكتاب شهادات مباشرة للذين شاركوا في صناعة هذا التاريخ ومن شرائح مختلفة خاصة إبان الثورة التحريرية، قصد إعطاء صورة كاملة عما حدث وتبليغ ذلك للأجيال لدحض كذبة أن الاستقلال كان هبة من فرنسا. يشير المؤلف في كلمة كتبها عن عمه رابح بيطاط، إلى أنّه عرفه ومنذ الطفولة الأولى كزعيم وطني تماما كما يعرفه أبناء جيله الذين اكتشفوا اسمه في الكتب التاريخية المدرسية، ثم سمحت له هذه القرابة بأن يعرفه أكثر ويحتك به، وحيا بالمناسبة أيضا أخ الراحل معمر بيطاط الذي سقط شهيدا في ساحة الشرف وكذا والده (أي والد فريد) محمد الذي هو شاهد حي عن وقائع الثورة بقسنطينة، ليترحّم على كلّ الشهداء ويحيي كلّ أبناء الوطن، بما فيهم الأجيال الصاعدة.يعتبر رابح بيطاط شاهدا حيا عايش فترة الاستعمار والاستقلال معا، وكان دوره فاعلا في كلتيهما، بالتالي فإنّ مساره جزء من التاريخ الوطني، هو ابن قسنطينة الذي تحدى المستعمر بشجاعة وقرّر مع رفقائه تفجير الثورة وإقحام كلّ الشعب فيها باعتباره المكتوي الأوّل بظلم فرنسا، ومن هنا سيكتشف القارئ من خلال الشهادات الحياة القاسية والعبودية والبؤس الذي تحمّله الجزائريون دون استثناء، لذلك خصّص فصلا كاملا عن حالة الشعب الجزائري خلال هذه الفترة، مركّزا على مدينة قسنطينة مسقط رأس الراحل بيطاط، ومعرّفا بنضال أبنائها الذين كانوا دوما في الصفوف الأمامية.كما خصّص فصلا آخر للوعي الوطني والتحضير للثورة وظهور جيل جديد قاد الشعب نحو ثورته، بعد أن تبدّدت أية استجابة من فرنسا قد تسمح بعودة الحقوق، خاصة بعد أحداث ماي 45، ويفصّل المؤلّف في الحديث عن مجموعة الستة وهذا بعد استعراض الظروف التي عجّلت بلقائهم وتقريرهم، تحمّل لحظة اشتعال الحرب، ثم تنظيم هذه الثورة ونشرها عبر الوطن من خلال مخطّط تنظيمي شامل، في حين تركّز الفصل الثالث على دور الدين في وحدة الشعب وخدمة الثورة أمام المخطّطات الجهنمية للمستعمر وأعوانه من الداخل والخارج، فوظّفت قيم الإسلام أحسن توظيف من خلال الصبر والجهاد والأمل في الله والوطن وانتصار الحق ومجابهة الظلم وكلها قيم مشتركة وواحدة عند الشعب الجزائري، علما أنّ الجبهة حملت السلاح باسم الله لتحرير البلاد والعباد، وهو الأمر الذي فهمه ديغول وأعوانه.في الفصل الرابع، يبدأ "مسار البطل" منذ ولادته وسط عائلة كبيرة امتدت إقامتها في قسنطينة وتخومها، وصولا إلى ميلة، ليسرد الكاتب مسار هذه العائلة الكبيرة منذ العهد التركي في الجزائر، وصولا إلى ميلاد بيطاط سنة 1925 بعين الكرمة، حيث الأرض والفلاحة التي يعمل فيها الرجال، منهم أب بيطاط مصطفى، وبعد مصادرة الأراضي، دخلت العائلة قسنطينة واستقرت برحبة الصوف وبسيدي جليس التي لا تزال تحتفظ بطفولة رابح بيطاط البالغ السنتين فقط من العمر، ليشهد من حينها تعب الوالد وهو يبحث عن لقمة العيش، فلم يترك حرفة إلاّ وزاولها، ورغم ذلك حرصت العائلة على تعليمه (مدرسة ولد علي حاليا) وهنا يسهب الكاتب في سرد المكان والزمان والذكريات، ثم يتفرّع عن هذا الفصل عناوين تؤرّخ لشخصية الراحل ونضاله وسجنه وغيرها.في فصول أخرى، تناول الباحث نماذج من الموالين للاستعمار، منهم الحركى وتناول أيضا مسألة التعذيب، حيث لاقى الراحل أشدّ أنواع التعذيب في دهاليز السجون حتى كاد يموت (وقد بقيت آثار ذلك حتى بعد الاستقلال) وبعدها أصبح بمثابة سجين سياسي بعد تحرّك الجبهة، كذلك مسألة الإضراب عن الطعام والسجون وغيرها من مظاهر المقاومة، وتفاصيل عن مسار النضال السياسي والتغيّرات داخل الجبهة، إثر سجن الزعماء أو استشهادهم. يصل المؤلف عند مرحلة الاستقلال وما تولّد عنها من صراعات بين القادة، وهنا يفصّل الكاتب في مواقف الزعماء منهم بوضياف، آيت أحمد وكريم بلقاسم وابن بلة وغيرهم، وهكذا حول هذا الصراع فرحة الاستقلال إلى إحباط، خاصة بعد سقوط ضحايا نتيجة هفوات، الأمر الذي أثار غضب الشعب خاصة في العاصمة، مما عجّل بتنصيب قيادة أركان بومدين في عاصمة البلاد، ثم تنصيب بن بلة الذي أمسك بزمام كلّ الأمور، وتمّ نفي رفقاء الأمس.لكن الأمور تبدّلت بعد 65، حين تسلّم بومدين الحكم فارضا نظامه السياسي ومنهجه في الحكم، وبعد التفصيل في هذه المراحل الهامة، يأتي الحديث عن بيطاط الذي كان نائبا لرئيس أوّل حكومة بعد الاستقلال منذ 27 سبتمبر 62، وقرّر الاستقالة في ماي 63 بعدما شعر بتهديد مباشر، لكن الأمور جرت وحدها، حيث أنّ ابن بلة لم يكن يرغب في الأسماء الثورية البارزة معه، كي يضمن تفرّده بالزعامة والبريق السياسي، وانتهى الأمر باستقالة بيطاط من المكتب السياسي، ليلتحق بخيثر في باريس، وظلّ يدعم بومدين، وبعد توليه الحكم عاد كوزير دولة، ثم تولى مسؤوليات أخرى منها النقل، وتحمّل مع بومدين بعض الصعاب في فترة حاسمة أعطيت فيها الأولوية للبناء الوطني بعد الدمار الذي سبّبه الاستعمار، وهو الأمر الذي فرض نظام بومدين وأعطاه الشرعية، وهكذا أصبح بومدين رجل الدولة والشعب لا صوت يعلو فوق صوته، وبدأت تتلاشى صور البؤس والبطالة وآثار الحرب.رابح بيطاط آمن بهذه السياسة الاجتماعية التي انطلقت من أجلها الثورة لرفع الغبن عن شعبنا، كما آمن بالشباب وضرورة تكوينه سياسيا، وهو الأمر الذي تبنّاه حزب جبهة التحرير، ثم ساهم في انتخابات التأسيس للمجلس الوطني الشعبي وترأس لجنة تيزي وزو، وهكذا أصبح أوّل رئيس للمجلس سنة 77 وتوالت مسؤولياته السياسية حتى سنة 90، وأصبح بحكم الدستور الرجل الثاني بعد رئيس الجمهورية، لكنه استقال بعد أن لمس الانحراف في 3 أكتوبر 90، وكان ذلك حتى لا يتحمّل تبعات تاريخية تكتب ضده إلى الأبد، تفاصيل أخرى تضمنها الكتاب تعكس حضورها في مسار الجزائر ومسار هذا المناضل المخضرم، كما احتوى الكتاب على مجموعة من الصور وبعض الوثائق.
تاريخ الإضافة : 07/02/2016
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : مريم ن
المصدر : www.el-massa.com