الجزائر

مرايا الكتب في موضع غير طبيعي



كلما سألت مثقفا من المثقفين عن كتاب على سبيل الإعارة، إلا وكان رده كالتالي: ''الكتاب بحوزتي لكنه للأسف موجود في ''الكاراطين''(عُلب السلع)، وليس باستطاعتي البحث عنه''. ومع تكرار الإجابات المتشابهة، يفهم أن في المسألة أمرين اثنين. إما أن المثقف تخلى عن الكتاب، واهتم بأمور الحياة المعقدة، وأصبح يستقي أفكاره من قنوات مغايرة غير الكتاب. وإما أن وضعه الاجتماعي أضحى وضعا عاديا جدا، ولم يعرف الارتقاء الاجتماعي التي عرفته فئات اجتماعية أخرى، وانتقلت من السكن في الشقق إلى الفيلات. ومعنى هذا أن المثقف بقي يراوح مكانه الاجتماعي، غير قادر على تحقيق الرقي الذي حققه آخرون.
وأغلب الظن أن الاحتمال الثاني هو الأمر الصائب، الذي جعل المثقفين يقدمون على وضع كتبهم في ''الكاراطين''.
الكثير منهم يبررون وضع كتبهم في ''الكاراطين''، بضيق شققهم. وآخرون يرجعون المسألة إلى انتقالهم للسكن من شقة إلى أخرى، كل ثلاثة أو أربع سنوات، فهم لم يتمكنوا إلى حد الآن من امتلاك شققهم، وظلوا في وضعية تنتظر الحل.
دخلت طيلة العشرين سنة الماضية بيوت عدد كبير من المثقفين، فوجدت أن غالبيتهم العظمى يسكنون شققا عادية، لا يتجاوز عدد غرفها الثلاثة. كثير منهم لا يملكون غرفة المكتب. علمت من بعضهم أنهم خصصوا لأنفسهم فيما مضى غرفا للقراءة والكتابة، لكن مع مضي الوقت وتزايد عدد أفراد العائلة أجبروا على تحويلها إلى غرف لنوم الأبناء. فضاقت الشقة، ولم يعد لهم مكانا للانطواء والعزلة والتفكير في أمور الثقافة والفكر والأدب. ونلحظ في كتابات كثير من مثقفينا في السنوات الأخيرة، طغيان التسرع، وغياب تلك اللمسة الفلسفية العميقة التي تعطي كتاباتهم لمسة خاصة.
عالم المثقف وفضاءه له ميزته الخاصة. هو عالم العزلة والتأمل، وبدونها لن يكون بإمكانه تقديم شهادة لها القدرة على الظفر بسمة الإبداع. العزلة وحدها تدفع على الكتابة. أذكر أنه من بين النصائح التي أسداها الروائي الأرجنتيني ارنستو ساباتو لكاتب شاب كان يريد أن يصبح مبدعا وكاتبا، أنه سأله إن كان يملك القدرة على تحمل العزلة. فالذي لا يستطيع البقاء لساعات طويلة بعيدا عن صخب الحياة اليومية بعد أن عايشها، ليس بإمكانه الظفر بلقب المبدع. والمكان الطبيعي للمبدع هو تلك الغرفة المليئة بالكتب.  ولأن المثقفين الذين سألتهم عن عناوين الكتب على سبيل الإعارة، وعددهم في تزايد مستمر، لا يملكون هذا الفضاء، أصبح يتضح وبشكل متزايد، أن المثقف أصبح مجرد إنسان مغلوب على أمره، يعيش مثل كل الناس، في شقة صغيرة، عادية مكتظة، تعبق برائحة الانغلاق، ولا تدفع المرة على التأليف والكتابة.
وقد يقـول قائل أن مؤلفات كثيرة خرجت من قبـو. كما أن المبدع قد يبدأ الكتابة حتى في مقهى، أو في أي مكان عادي، لكنه لا يستطيع الاستمرار على هذا المنوال طيلة حياته، فالرقي الاجتماعي من ضرورات الحياة.
الكاتب في نهاية الأمر كائن له طباع الفنان. وهذا لا يمنعه من أن يعيش على وقع هموم الناس وأوجاعهم. لكنه بحاجة لفضاء خاص به ليفكر ويبدع ويرى العالم من زاوية مغايرة.
إنه في حاجة لغرفة على شكل مكتب، فيها كتب كثيرة، موضوعة على الرفوف وليس في ''الكاراطين'' وسط الحشرات التي تنهشها مع مرور الزمن. هذا هو الوضع الطبيعي للكتب، وما غيره ليس سوى وضعية مؤسفة ومأساوية، أتمنى أن تتغير يوما حتى تخرج الكتب من سجنها وتصبح متداولة بين المثقفين.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)