مدين شعيب... والأخضر بن خلوف
تشريح العلاقة من خلال قصيدة الأمانة
إذا كانت علاقة الشيخ أبي مدين شعيب بمن بعده وبمن قبله من الشيوخ والأولياء قد فككت ونوقشت وطرحت على مشرحة التحليل والبحث[1]، فإن علاقة أبي مدين شعيب بالصوفي والشاعر الجزائري الشعبي الكبير الأخضر بن خلوف لم تطرح ولم تشرح ولم يسلط عليها الضوء بما فيه الكفاية، لكونها، ربما، علاقة روحية صرفة تتجاوز أحداث التاريخ المادية. وثقافة التأريخ التاريخي لدي مؤرخينا تشكو من الاختزالية والانتقائية وافتقاد النسقية والرؤية الكلية، فهي تتركز وتتمركز في أكثرها حول التاريخ السياسي والعسكري والأدبي للذوات وللشخصيات الكبيرة، متجاهلة تاريخهم الروحي، لا سيما إذا كانت هذه الشخصيات تنتمي إلى طائفة الأولياء والمتصوفة.
وعالم الأولياء، كما يصفه الدكتور عبد الرحمن بدوي، هو عالم خاص قائم برأسه، إما أن يؤخذ كله أو يطرح كله؛ هو عالم رمزي خالص، ابتدعته هذه الأرواح النبيلة العالية لتخلق للإنسان معان جديدة على الأرض[2]. كما أن زمان هؤلاء هو غير الزمن الطبيعي العادي الخطي الذي يعيشه عوام الناس، بل إن الزمن عند أكابر محققي الصوفية "هو أمر متوهم لا حقيقة له" وفق تنظير شيخ الصوفية الأكبر محي الدين ابن عربي[3].
استثمار الذاكرة الشفوية الشعبية... رهان استراتيجي
سجلات الذاكرة الشعبية الشفوية دائمًا متخمة بالرمزيات والسرديات وبالحقائق التاريخية أيضًا بحسب تأكيدات الأبحاث السوسيو-أنتروبولوجية المعاصرة[4]، فهي منجم ضخم يمكن توظيفه معرفيًا واستراتجيًا. فليست الماديات وحدها هي التي تحرك التاريخ وتصنع الحضارات، فللتراث الثقافي الشفوي اللامادي وللمخيال الديني، وللميثولوجيات والماورائيات كلمتها ومفعولها في صنع الأمن وخلق التعايش السلمي بين بني الإنسان إذا أُحسن توظيفها وتوجيهها واستثمارها.
ولا شك أن الأخضر بن خلوف وأبي مدين شعيب يشكلان شخصيتين رمزيتين ملحميتين بطوليتين، تلامسان تخوم الأساطير في القصص الشعبية المغاربية وفي المخيال الديني والذاكرة الجماعية الجزائرية. ولذلك كان من الضروري أن يتوقف عندها الباحثون في التراث لرصد واستنطاق العلاقة بين هاتين الشخصيتين الكبيرتين، ولتشريح الروابط واستكشاف العلاقات المتوراية بينهما.
وبالرغم من وجود عوائق ابستمولوجية معتبرة أثناء الحفر في تراث الرجلين، إلا أنه يمكن – في تصوري – تجاوزها. فمثلاً قد يتشكك بعضهم في صحة نسبة قصائد الأخضر بن خلوف إليه، وكذا قد يستشكل أحدهم غياب المصادر التاريخية المكتوبة الموثقة عن الرجل وأعماله. لكن يكفي في التخفيف من حمل هذه الدعوى، الذهاب في التحليل والاستدلال على طريقة علماء الحديث في إقرارهم لقاعدتهم الذهبية "إن التواتر يفيد القطع"، فتواتر وانتشار قصائد الأخضر بن خلوف عند سكان شمال إفريقيا وفي مناطق مختلفة من الجزائر، وتغني الأطفال والعجائز والمنشدين والمطربين بقصائده، يؤشر على قطعية وصحة نسبة هذه القصائد إليه وتواترها عنه. والتواتر اصطلاحًا هو نقل الجماعة عن الجماعة الذين يستحيل تواطئهم على الكذب. فشكلت هذه القصائد الشفوية المنقولة إلينا جيلاً بعد جيل، وبأمانة فائقة، إجماعًا اجتماعيًا حقيقيًا، والإجماع حجة عند علماء الأصول والشريعة.
أبو مدين شعيب والأخضر بن خلوف في الزمن التاريخي وفي الزمن الصوفي
الزمن التاريخي يفصل بين الشخصيتين بحوالي أربعة قرون، لأن الشيخ أبا مدين شعيب مات في أواخر القرن الخامس الهجري في عام 589هـ. فهو "درج سنة تسع وثمانين وخمسمائة" حسب توثيق الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية[5]، أمَّا الأخضر بن خلوف فقد ولد في أواخر القرن الثامن الهجري وتوفي في أوائل القرن العاشر للهجرة.
أمَّا الزمن الصوفي فهو غير الزمن التاريخي الخطي. الزمن الصوفي هو زمن برزخي، روحي، متعال، دائري، متموج، ومتحرر من قيود حركة الأفلاك، يقع خارج حدود المكان والزمان، وفيه يجوز الالتقاء والتلاقي بين أشخاص عاشوا في أزمنة وأمكنة مختلفة.
داخل الزمن الصوفي ليس مستحيلاً أن يلتقي رجلان عاشا في فترتين زمنيتين تاريخيين متباعدتين للاستفادة والإفادة من بعضهما في علاقة برزخية حقيقة شبيهة بلقاء النبي محمد عليه السلام بمن قلبه من الأنبياء خلال ظاهرة الإسراء والمعراج التي يجعلها الصوفية نموذجًا تربويًا سلوكيًا لا بد أن يسير فيه ويتحقق منه كل صوفي في معراجه نحو الله، كما لا بد له من استصحاب شيخ عارف محقق في هذه الرحلة الروحية كجبريل بالنسبة للنبي محمد عليه السلام. إن الزمان عند الصوفية هو كالمكان، يمكن أن يسافر فيه الولي الصوفي في أي اتجاه شاء؛ إلى الإمام أو إلى الوراء، ويمكن أن يحضر فيه ويغيب، وفي استطاعة الصوفي المحقق – وبتأييد الله له – اختراق حجب الغيب الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، والسفر فيها بلا تعب أو نصب. وتمثِّل العلاقة بين هذين الوليين الصالحين: خضر بن خلوف وأبو مدن شعيب مصداقًا لهذا الطرح ونموذجًا نوعيًا للدراسة والتأمل.
أبومدين شعيب والأخضر بن خلوف: بطاقة تعريف مختصرة
أولاً: الخلوفي: هو لكحل بن عبد الله بن خلوف، وأمه كلة بنت سيدي يعقوب الشريف. وفي تسميته لكحل روايات من بينها تبركًا باسم الولي الصالح سيدي محمد لكحل ورؤيته الحزام الأخضر المرصع بقطع ذهبية، والرواية الأخرى تقول إنه كان وحيد أمه التي سمته لخضر، وخشية العين الحاسدة سمته لكحل، وكان سيدي لخضر في قصائده يذكر تارة اسم لخضر وتارة أخرى اسم لكحل وتارة أخرى باسم الخلوفي نسبة إلى قبيلته أولاد خلوف وإلى جده الخلوف. يقول في إحدى قصائده:
الأخضر ولد الخلوف المكنى لكحل والكنية ما هي حرام سماني جدي
ليست لدينا معلومات دقيقة عن تاريخ ميلاده، لكن ما جاء في قصيدة الوصية، المعروفة عند رواة قصائده بالوفاة، ما يقربنا من تاريخ مولده حيث يقول رحمه الله فيها:
من القرن الثامن عديت سنين أوزايع والأيام هاملة والجالب مجلوب
بفضل النبي تميت القرن التــاسع والفلك ينثنى والحاسب محسوب
والتي نستخلص منها أن سيدي لخضر بن خلوف ولد في أواخر القرن الثامن هجري، في حدود سنة 899 هـ الموافق لـ 1479 م، وتوفي في سنة 1024هـ الموافق لسنة 1585 م، ويكون قد استوفى القرن التاسع كله ليتوفاه الله في أوائل القرن العاشر هجري بعد أن عمر طويلاً (حوالي 125 سنة ونصف السنة)، ويحدد لنا بالضبط أيضًا في قصيدته تلك عمره فيقول:
جوزت مائة وخمسة وعشرين سنة حساب وزدت من ورا سني ست شهور
تزوج لخضر بن خلوف امرأة تدعى "غنو"، وهي ابنة الولي الصالح سيدي عفيف شقيق سيدي يعقوب الشريف المدفون بغرب مدينة سيدي علي ولاية مستغانم في الجزائر. وقد رزق منها ببنت اسمها حفصة، وأربعة ذكور هم: أحمد، محمد، أبا القاسم، الحبيب. وهي كلها أسماء النبي عليه الصلاة والسلام. وتسمية أبناء سيدي لخضر كلهم بأسماء النبي عليه السلام فيه إشارة رمزية كبرى إلى أن النبي محمد عليه السلام كان موضوع حبه كله، وهو الأمر الذي تترجمه قصائده كلها أيضًا[6].
فالأخضر بن خلوف صوفي وشاعر شعبي كبير، موضوع شعره كله تمحور حول حبِّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لقب الخلوفي بـ"مداح النبي". وكتب الخلوفي قصائدًا لا تحصى عددًا يقول في إحداها التي مطلعها "يا رسول الله الأمجد غيث شاعرك الخلوفي لكحل يطالب السماح"[7]:
شحال عندي من كنوز من قصائدك ألف حجرة مغبورة يا ضيا للماح
فـي كـل خزنة تعظيم اسـمـك بالصلاة والسلام عليك ولـفتاح
وكان الأخضر بن خلوف أيضًا مجاهدًا كبيرًا شارك في كثير من المعارك ضد احتلال الأسبان للقطر الجزائري، ومعركة مزغران أكبر شاهد له على ذلك، فقد شارك فيها بقوة وبسالة ضد هجوم "الكونت دالكوت" le comte d’Alcaudete حاكم مدينة وهران على مدينة مستغانم عام 1548 م وسنة 1557 م، حيث انهزم الجيش الإسباني وقتل الكونت برفقة ابنه، وأرَّخ الخلوفي بنفسه لهذه المعركة في قصيدة مفصلة خصصها لهذا الغرض مطلعها:
يا فارس من ثم جيت اليوم عيد أخبار الصح معلومة
يا عجلان ريـض الملجوم رأيت جنود الشوم ملمومة
يا سايلني عن طراد الروم قصة مزغران معـلومـة
وهذه المعركة كتب عنها المؤرخ بول روف Paul Ruff كتابه الاحتلال الاسباني لوهران في عهد الكونت دالكوت[8].
ثانيًا: أبو مدين شعيب: ممن ترجم حياة أبي مدين وسيرته المؤرخ أبي العباس السبتي التادلي المشهور بأبي الزيات المتوفى سنة617هـ/1220م في كتابه التشوف إلى رجال التصوف، والمؤرخ أبي العباس أحمد الغبريني الجزائري المتوفى سنة 714هـ/1314م في كتابه عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية، والمؤرخ ابن قنفذ القسنطيني الشهير بابن الخطيب المتوفى سنة 810هـ/1407م في كتابه أنس الفقير وعز الحقير، وكذا المؤرخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الملقب بابن مريم الشريف الميلتى المديونى التلمساني في كتابه البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان. واجمعوا كلهم على جلالة قدر أبي مدين، وأنه يعتبر من
محيِّ الطريق في النصف الثاني من القرن السادس، ولد في أوائل ذلك القرن بنواحي اشبيلية، وطلب العلم بفاس، فقرأ سنن الترمذي على أبي الحسن علي بن غالب (ت 568هـ)، وصحب الصوفي أبا عبد الله الدقاق والفقيه الصوفي ابن حرزهم (ت 559هـ)، الذي عرفه بكتب الغزالي خصوصًا إحياء علوم الدين، ثم أخذ الطريق عن الولي الشهير الشيخ أبي يعزى (ت 572هـ) وسافر للحج حيث التقى بالشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 561هـ)، فألبسه الخرقة ولقنه الاسم الأعظم وأكمل سلوكه، ولما رجع من المشرق استقر ببجاية فأقبل عليه المريدون من كل فج، ثم استدعاه السلطان الموحدي أبو يوسف يعقوب المنصور إلى مراكش، فمات وهو متوجه إليها بضاحية تلمسان بالعباد وقبره بها مشهور، وربى عددًا كبيرًا من الرجال، وخلف عشرات من الشيوخ الذين واصلوا مسيرته في الطريق شرقًا وغربًا[9].
ويؤكد ابن قنفد بأنه "يقال إنه خرج على يديه ألف تلميذ وظهرت لكل واحد منهم الكرامة والبركة، لذلك يقال شيخ مشايخ الإسلام وإمام العباد والزهاد"[10].
وشارك أبو مدين شعيب في الجهاد ضد الصليبيين في معركة حطين في يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 هـ، الموافق 4 جويليه 1187 م،
وقطعت ذراع الولي الصوفي أثناء خوضه معركة حطين المشهورة سنة 1187، أين دفنت كشهادة على سقاية الأراضي المقدسة بدماء جزائرية، مكافأة له على تضحيته. وعرفانًا منه ببسالته، أوقف السلطان الأيوبي حارة للمغاربة بالقدس الشريف، تولت إدارتها عائلات من أصل جزائري إلى أن اختفت معالمها حين قام اليهود الصهاينة بتوسيع ما يعرف بحائط المبكى إثر سقوط القدس الشرقية، إذ قامت آلة التدمير الإسرائيلية صبيحة 11 يونيو1967 م بمحو تسعة قرون من الحضور التاريخي الجزائري بهدمها - كما يقول الباحث د. زعيم خنشلاوي[11].
أبومدين شعيب والأخضر بن خلوف داخل مدرسة التصوف
الشائع في المخيال الدعوي الحركي الإسلامي أن التصوف والصوفية خارجون عن السنة ومتلبسون بالبدعة. لكن مراجعة أراء المختصين وأكابر المحققين من علماء الشرع والتاريخ يثبت عكس هذه الدعوى، فهذا ابن تيمية الحراني – الذي يقدمه أتباعه ومريديه إلى الناس على أنه عدو الصوفية الأكبر – يقول في مجموع فتاويه:
وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والإثارة من العلم وهم المتبعون للرسالة إتباعًا محضًا لم يشوبوه بما يخالفه[12].
بل يشهد ابن تيمية شهادة واضحة على أن شيوخ الصوفية الكبار أمثال سيدي أبي مدين شعيب وغيره:
أنهمْ مشائخ الإسلام وأئمة الهدى الَّذيْن جعلَ الله تعالَى لهم لسْان صدق في الأمةِ، مثْلَ سعْيد بنُ المسيبِ، والحسْن البصريِّ، وعمرْ بنُ عبد العزيز، ومالْك بنُ أنسْ، والأوزاعي، وإبراهيْم بنْ أدهم، وسفْيان الثوري، والفضيّل بنُ عياض، ومعروف الكرّخْي، والشافعي، وأبي سليْمان، وأحمد بنَ حنبل، وبشرُ الحافي، وعبد الله بنُ المبارك، وشقيّق البلّخِي، ومن لا يحصَّى كثرة. إلى مثْلَ المتأخرينَ: مثْلَ الجنيد بن محمد القواريري، وسهَلْ بنُ عبد الله التسْتري، وعمرُ بنُ عثمان المكي، ومن بعدهم – إلى أبي طالبَ المكي إلى مثْل الشيْخ عبد القادرِ الكيلاني، والشّيْخ عدّي، والشيْخ أبي البيْان، والشيخ أبي مدين[13].
فابن تيمية يجعل الشيخ أبا مدين شعيب في مصاف أئمة الإسلام الكبار أمثال سعيد ابن المسيب والحسن البصري والشافعي وغيرهم. وهذا هو العلامة ابن خلدون يقول عن المتصوفة وعن التصوف إنه:
من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقةَ الحق والهداية، وأصلُها العكوفُ على العبادة والانقطاع إِلى الله تعالى، والإِعراضُ عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهدُ فيما يُقبِل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفرادُ عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامًا في الصحابة والسلف، فلما فشا الإِقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إِلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية[14].
بل يجزم العلامة ابن خلدون بأنه لا شك ولا ريب عند أي مسلم يدين بالإسلام دينًا في أن الحق والحقيقة كلها في سلوك طريق التصوف، وأن الهدى والاهتداء كله في إتباع طريق الصوفية، يقول:
فلا يختلج في نفس مسلم عقل أبويه يدينان الدين (الإسلامي) إلى أن الحق في طريقهم والهدى في إتباعهم[15].
فالتصوف إذن يقع في عمق أعماق الإسلام، والمتصوفة أمثال أبي مدين شعيب وأمثال الأخضر بن خلوف هم من ورثة هذا العلم ومن شيوخه.
التصوف مدرسة تربوية إسلامية توجب اتخاذ شيخ مربي
ويستند الصوفية في استدلالهم على وجوب اتخاذ شيوخ للتربية وللتزكية وللترقية على قول الله تعالى في القرآن الكريم: "الرحمن فاسأل به خبيرا"[16]، فالدخول إلى حضرة الله الرحمن يجب أن يمر عبر رجل عالم خبير بمعرفة الله تعالى وتوحيده؛ وعلى قوله تعالى: "واصبر نفسكَ مع الذين يدْعُونَ ربَّهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطِعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتَّبع هواهُ وكان أمره فُرُطًا"[17]. والشاهد عندهم أن الله يأمر نبيه صلى الله عليه واله وسلم بصحبة الذين يقصدون وجه الله ويسعون إلى رضاه، وفي هذا إرشاد بوجوب صحبة من هذا وصفه. كما يقول ابن عاشر الأندلسي في متن نظمه مبينًا واجبات المريد الصوفي:
يصحبُ شيخًا عارفَ المسالكْ يَقيهِ في طريقه المهالكْ. يذكِّره الله إذا رآهُ ويوصلُ العبدَ إلى مولاهُ. يُحاسبُ النفسَ على الأنفاسِ ويَزِنُ الخاطرَ بالقِسْطَاسِ.
ويجعل الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي، في فتوحاته المكية، من صفات هذا الخبير الذي يجب أن يسأل عن الله الرحمان أنه ينبغي أن يكون قلبه عرشًا للقرآن الكريم من حيث استيعابه وفهمه، فيقول:
فاسأل به خبيرًا، أي فالمسئول الذي هو بهذه الصفة من الخبرة يعلم الاستواء كما يعلمه العرش الذي استوى عليه الرحمن لأن قلبه كان عرشًا لاستواء القرآن[18].
وعن ضرورة التمسك بالشيخ المربي العارف يقول ابن القيم الجوزية:
وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى، وإتباع السنة، وأمرُه غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره، فليستمسك بغَرْزه[19].
ويقول الإمام القشيري:
ويجب على المريد أن يتأدب بشيخٍ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدًا، وهكذا أبو يزيد يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان، وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الشجرة إذا نبتت بنفسها ومن غير غارس فإنها تورق لكن لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نَفَسًا فنَفَسًا فهو عابد هواه لا يجد نفاذًا[20].
ويقول الفقيه الحافظ بن حجر الهيتمي المكي:
والحاصل أن الأوْلى بالسالك قبل الوصول إلى هذه المعارف أن يكون مديمًا لما يأمره به أستاذه الجامع لطرفي الشريعة والحقيقة، فإنه هو الطبيب الأعظم، فبمقتضى معارفه الذوقية وحكمه الربانية، يُعطي كل بدن ونَفْسٍ ما يراه هو اللائق بشفائها والمصلح لغذائها[21].
لذلك جعل الصوفية وجود الشيخ واتخاذه هاد ودال على الله من أهم قواعدهم في الطريق إلى الله وفي التسليك والتربية. ولذلك انبرى كل صوفي في البحث عن شيخ كامل وارث محمدي لكي يدخله إلى حضرة ربه. وهذا ما حدث بالفعل مع سيدي لخضر بن خلوف الذي انتظر أكثر من خمسين عامًا وهو يبحث عن هذا القطب الشيخ المربي، والذي وجده أخيرًا في مدينة تلمسان وفي شخص أبي مدين شعيب.
دولة الباطن عند الصوفية ومفهوم القطب
على غرار هيكلية مؤسسات الدولة السياسية في الظاهر، يؤسس الصوفية لدولة لهم منظمة ومرتبة ترتيبًا دقيقًا في الباطن، يكون فيها القطب على رأس هذه الدولة الباطنية، في مقابل خليفة الظاهر، ويكون الإمامان بمثابة الوزيرين للخليفة القطب. ووظيفة هذا القطب شبيهة بالسلطة التنفيذية للعلم الإلهي الذي يمثل السلطة التشريعية على حد تمثيل الدكتورة سعاد الحكيم. ويعتقد الصوفية بوجود:
قطب جامع واحد في كل زمان هو خليفة لله ولرسوله في الباطن، والقطب لا يكون إلا واحدًا في كل زمان، وهو الذي جمع الأحوال والمقامات، إما قطبًا بالأصالة كإدريس فهو القطب الأصيل، وإما بالنيابة عنه كسائر الأقطاب إلى يوم القيامة.
كما يذهب إلى ذلك العارف الصوفي الأمير عبد القادر الجزائري في كتابه المواقف. كما كتب العلامة الحافظ جلال الدين السيوطي كتابًا اسماه الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال، كي يعطي للتصوف والصوفية شرعية دينية حديثية فقهية. وبتفصيل دقيق يشرح الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي مهام ووظائف هذا القطب حديث فيقول:
لا يكون في الزمان إلا واحد يسمى: الغوث والقطب. وهو الذي ينفرد به الحق ويخلو به دون خلقه. فإذا فارق هيكله المنور انفرد (الحق) بشخص آخر. لا ينفرد بشخصين في زمان واحد... وذلك العبد عين الله في كل زمان، لا ينظر الحق في زمانه إلا إليه، وهو الحجاب الأعلى[22].
ويقول:
القطب وهو عبد الله، وهو عبد الجامع، فهو المنعوت بجميع الأسماء تخلقًا وتحققًا. وهو مرآة الحق، ومجلى النعوت المقدسة، ومجلى المظاهر الإلهية، وصاحب الوقت[23].
ويقول:
القطب مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، عليه مدار العالم. له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق، بالخير والشر على حد واحد، لا يترجح واحد على صاحبه. وهو عنده لا خير ولا شر، ولكن وجود[24].
ويقول:
فمنزل القطب حضرة الإيجاد الصرف فهو الخليفة، ومقامه: تنفيذ الأمر وتصريف الحكم، وبيده خزائن الجود، والحق له متجل على الدوام... ولابد لكل قطب عندما يلي مرتبة القطبية من أن يبايعه كل سر وحيوان وجماد ما عدا الإنس والجان إلا القليل منهم... القطب الذي توقفت عليه حوائج العالم من أوله إلى آخره[25].
ويبدو أن إجماع الصوفية على وجود قطب حجة قائم لله ويكون شخصًا واحدًا فقط في الزمان الواحد ليس إجماعًا خاصًا بهم وحدهم فقط، فهاهو العلامة الحافظ ابن حجر العسقلاني أمير المؤمنين في الحديث ينقل أيضًا إجماع علماء أهل الظاهر من المحدثين والفقهاء على ذلك:
وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة والله أعلم[26].
أبو مدين شعيب قطب زمانه
يتربع الشيخ أبو مدين شعيب على مقام سام في عقائد الصوفية فهو شيخ الشيوخ حسب وصف شيخ الصوفية الأكبر محي الدين ابن عربي له. ويتحدث الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي عن مقام أبي مدين شعيب الروحي من أنه انتقل من مقام الإمامة إلى مقام القطب في كتابه مواقع النجوم وفي كتابه منزل القطب والإمامين حيث يقول:
وفي هذا المقام عاش الشيخ أبو مدين ببجاية إلى أن قرب موته بساعة أو ساعتين خلعت عليه خلعة القطبية ونزعت عليه خلعة الإمامة وصار اسمه عبد الله وانتقلت خلعته باسم عبد الرب إلى رجل ببغداد اسمه عبد الوهاب، وكان الشيخ أبو مدين قد تطاول له بها رجل من بلاد خراسان، مات الشيخ قطبًا كبيرًا وكان له من القرآن تبارك الذي بيده الملك[27].
وينقل ابن قنفد القسنطيني والعبريني في عنوان الدراية أن أبا مدين "لم يمت حتى تقطب قبل أن يغرغر بثلاث ساعات، والقطبية للعارف منتهى أماله وغاية مناله"[28].
الأخضر بن خلوف في رحلة البحث عن شيخ وقته وقطب زمانه
الوصول إلى الله والفناء فيه هو هدف الأهداف وغاية الغايات عند الصوفية، ولتحقيق هذه الغاية ولتنفيذ هذا الهدف أوجبوا على المريد الصوفي مصاحبة شيخ عارف وقطب محقق، فذاك من ضرورات الطريق إلى الله عندهم. يقول الأمير عبد القادر الجزائري:
وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قيادَهُ بيد جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود، فيكون ذلك عونًا على هلاكه[29].
بل إن الأمير عبد القادر الجزائري يحكم على المسلم الذي لا شيخ له من رجال التصوف بانتفاء الإخلاص مطلقًا من قلبه حتى يصحب شيخًا عارفًا يعرفه بنفسه وبربه، يقول:
إن كل من لم يسلك طريق القوم (الصوفية) ويتحقق بعلومهم حتى يعرف نفسه، لا يصح له إخلاص ولو كان أعبد الناس وأورعهم وأزهدهم وأشدهم هروبًا من الخلق واختفاء وأكثرهم تدقيقًا وبحثًا عن دسائس النفوس وخبايا العيوب، فإذا رحمه الله تعالى بمعرفة نفسه صح له الإخلاص[30].
وعلى غرار باقي الصوفية الباحثين عن الصفاء وعن التوحيد الخالص، أخذ الأخضر بن خلوف يبحث عن شيخ مربي وعن قطب محقق واصل، حتى هاداه الله وأنعم عليه بالالتقاء مع القطب سيدي أبي مدين شعيب في مدينة تلمسان.
وتفاصيل رحلة البحث عن هذا القطب، أفرد لها بن خلوف قصيدة كاملة يروي فيها حادثة لقائه مع أبي مدين.
رصد العلاقة بين أبي مدين والأخضر بن خلوف من خلال قصيدة الأمانة
قصيدة الأمانة من أشهر القصائد المنسوبة للولي والشاعر الشعبي الكبير سيدي لخضر بن خلوف، وهي مكتوبة باللغة الدراجة الجزائرية، وفيها يتحدث بن خلوف على قصته في البحث واللقاء أخيرًا مع شيخه أبي مدين. ويبدو أن هذه القصيدة هي من القصائد التي كتبها ابن خلوف في أواخر عمره، لأنه يصرح فيها أنه ارتقب خمسين عامًا كاملة وهو ينتظر هذا اللقاء العظيم، كما أن الأربعين سنة الأولى من حياته لم تكن في طريق التصوف كما يقر ويعترف هو في كثير من قصائده، فإذا حسبنا تقريبًا عمره حينما تم له الالتقاء يكون سنه ما يقارب المائة سنة، فتكون هذه القصيدة وهذا اللقاء بينه وبين أبي مدين في أواخر عمر الشيخ الأخضر بن خلوف.
في بداية القصيدة يظهر سيدي لخضر بن خلوف سعادته الكبرى وفرحته العارمة بلقاء سيدي بومدين قائلاً: "آه يا سعدي وفرحتي من بومدين المغيث جبت الأمانة بها وفّيت حاجتي"، أي أن سعادته الكبرى وفرحته العظمى كانت يوم اللقاء بأبي مدين المغيث، وكلمة المغيث المضافة إلى اسم سيدي بومدين يقصد الخلوفي بها الإشارة إلى مقام الغوثية الذي وصل إليه الولي الصالح أبو مدين شعيب. كما يقصد بالأمانة في القصيدة كلها الإقرار والاعتراف بالولاية، وأن الشيخ الأخضر بن خلوف قد ترقى في مقام الولاية وأصبح وليًا لله. هذا المقام الروحي الشامخ الذي يقول بن خلوف إنه انتظره خمسين عامًا ليصل إليه في الأخير وبمباركة سيدي بومدين: "من بعد خمسين عام وأنا نستنّ/سعيت بروح راحتي" – نستن: كلمة دراجة معناها انتظر، أي أن بن خلوف لم يبلغ هذا المقام السامي إلا بعد طول انتظار واستماتة بروحه وراحته لبلوغه. ويصف سيدي لخضر لقائه بسيدي بومدين بأنه "من نعايم الأسرار"، الأسرار التي اختصها الله وخصها بأوليائه المقربين، وأنه قبل هذا اللقاء الروحي كانت تنتابه نوبات من الضيق والحرج "حتّى جاد الإله من ليه البقا/انعم عليَّ بزيارة إمام الجدار"، أي أن الله الباقي الجواد المنعم قد جاد وأنعم أخيرًا على سيدي لخضر بزيارة أبي مدين شعيب الذي يصفه بأنه إمام الجدار – والجدار هنا، في تصوري، يمكن أن يكون له عند ابن خلوف إحدى المعنيين: إما أنه الجدار المشار إليه في سورة الكهف في قصة موسى والخضر كما هو الاعتقاد الشعبي عند بعض سكان تلمسان[31]، أو لعله يقصد بالجدار هنا حائط البراق في القدس الشريف، الذي أوقفه الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي (صلاح الدين يوسف أيوب شاد)، سنة 1193 م 583 هـ، لسيدي بومدين وورثته. هذا الوقف المعروف اليوم بوقف أوحي أو حارة المغاربة أو وقفية سيدي أبي مدين على الجانب الغربي من المسجد الشريف. ثم يصف سيدي لخضر بن خلوف تفاصيل بدايات زيارته وكيفية انطلاقه من مدينته مستغانم، مقر سكناه، إلى أحواز مدينة تلمسان، قاصدًا مكان تواجد سيدي بومدين شعيب، وأنه قطع عزلته وعقد نيته في قلبه وشدَّ رحله على رحاله ولفَّ عمامته على رأسه وتدجج بسيفه وامتطى صهوة مهاري سريع لبلوغ مبتغاه. يقول: "شدّيت على عمامتي وركبت مهري سريع ساري للفتنة/اطعنت جبال عزلتي. سيفي في يدي مشهّره عزّ وشطنة". وأنه بقي سائحًا سائرًا متجولاً يوم الأحد والاثنين والأربعاء بين تلال وجبال ووهاد مدينة تلمسان، بعيون دامعة وقلب متبتل خاشع لله تعالى، كما كشف الله تعالى له عن تعاقب الأجيال، يقول: "الحدّ والاثنين والثلاثة والأربعا/وأنا بين الجبال سايح طول اللّيل. عيني يا عاشقين سخفت بالدّمعة/ترعى الفصال من عواقب جيل بجيل". وأنه دخل مدينة تلمسان نهار يوم الجمعة بعدما قضي الليل كله في جبل أحنيف، بمعية سبحته فقط، وهو ساجد لله الجليل الجميل، حتى طلع عليه النهار فأدى فرائضه وسننه، في حالة روحية قل نظيرها. وتذكر الخلوفي يومها جماعته وأقرانه وأصحابه في مزغنة، الاسم القديم للجزائر العاصمة، يقول: "دخلت تلمسان في نهار الجمعة/في جبل احنيف بتّ ساجد للجليل. غير أناي وسبحتي. طلع عليَّ النّهار ودّيت السنّة/لا حالة كيف حالتي. تفكّرت أصحاب ڤانتي في مزغنّة". وفي ليلة الجمعة أسرى سيدي لخضر بنفسه ليلاً متجهًا إلى منطقة العباد محل إقامة الأولياء والزهاد، وهناك سمع نداء الولي الصالح بومكحلة ودخل على إثرها مغارة العباد واختلى فيها ساجدًا عابدًا، يقول: "يوم الجمعة مشيت ساري للعبّاد/ثمّة نادى وهبّ لي بومكّحلة. نصيب مغارة مجاورة سيدي عبّاد/وقفت على السّجود من نحو القبلة". وبينما هو في حالة الاستغراق والخشوع التام داخل المغارة، إذ به يرى خيالاً آتيًا نحوه في صورة جميلة كاملة الطول والحسن. ولما وصل عنده قدَّم سيدي لخضر لأبي مدين رسالة، ولما اطلع عليها وقراءها سلم عليه، وأعجب بجماعته وقضى منه جميع مسائله التي جاء من أجلها، وتعاهدا معًا، يقول: "ونظرت خيال جا يفدفد كالفدفاد/يا محّسنه بزين مكمول الطّولة ومكّنت له بريّتي. منين قراها أنا وايّاه تسالمنا/وعجبته جماعتي قضيت منّه مسايلي وتعاهدنا". ثم ينقل الأخضر بن خلوف بأنه بقي يتحادث مع سيدي بومدين طول تلك الليلة على دين الإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أبا مدين قدَّم نفسه على أنه أندلسي شريف من فضلاء وأشراف الأندلس، وقدَّم الخلوفي لخضر نفسه بأنه مداح الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "بتنا متحدثين الليل وما طال/على دين النبي أحمد طه المبرور. قال لي أنا بومدين أصلي من الأفضال/من الأندلس همّتي فيها مذكور. قلت له أنا الأكحل مدَّاح الرَّسول/هاويني بالحديث يا مصباح النور". ثم ينبري الأخضر بن خلوف في وصف حالته وصفته الناحلة التي استرعت انتباه سيدي أبي مدين من شدة المحن والفقر وعداوة بعض بني جلدته له: "بقى ينظر في صفتي وجدها ناحلة سقيمة بالمحنة/بالفقر وولدّ غربتي". وبعد الانتهاء من الحديث قدم سيدي بومدين يده اليمنى وبشره بقبول ترقيه في مدارج الولاية الإلهية، وأن 120 شيخًا من كُمَل الأولياء الصالحين قد طبعوا له ووافقوا على ولايته، وأن الذي ختم الطبع هو نفسه الرسول محمد عليه السلام الذي سقاه بسره الرمزي، يقول: "بعد حديثي هبَّ لي اليد اليمنى/آه يا سعدي وفرحتي. بعد كمال الحديث قال لي يا الأكحل/خود الأمانة وسير بها بإذن الله. ميا (مائة) وعشرين شيخ من والي كامل/طبعوك بالنّصاف هاك الكاغط. تقراه وكمل الخاتمة الشفيع المزمّل/اسقاك بالسرِّ الزمزمي رسول الله ادّيت منه أمانتي". ثم أخذ بن خلوف على أطراف ناقته عائدًا أدراجه عند أهله وزوجته وأولاده بعدما نال مطلوبه، وبكى بكاءً شديدًا كبكاء يعقوب على ابنه يوسف عليه السلام، يقول: "وثنيت على الرّحول بعد تعاهدنا/وشدّيت أطراف ناقتي. مع بومدين بكيت يوم تفارقنا/بكيت بكيًا شديد كيف بكا يعقوب/يوم فراقه على النبي يوسف النجيب. عظمي يا عاشقين بالزفرات يذوب/يوم الفرقة من منارة كل حبيب. الأكحل ولد الخلوف راه وفى المطلوب/بفضل مكَّة المشرفة و فضل يثرب". ثم يختم قصيدته بوصف أضرحة الأولياء والصالحين الذين زارهم أثناء عودته بعد لقاء سيدي بومدين وفرح زوجته به وبترقيه وفتح الله له فتحًا مبينًا.
خاتمة
بعد قراءة تفكيكية لنص قصيدة أمانة الأخضر بن خلوف، وبعد مقارنة وتتبع لآثار ولحياة أبي مدين والخلوفي، في سياقهما الدلالي الروحي والتاريخي، أمكن للباحث أن يخرج بالاستنتاجات المبدئية التالية:
· أنهما يشتركان في كونهما مجاهدين كبيرين جهاد سيف أصغر.
· أنهما يشتركان في كونهما مجاهدين جهاد نفس أكبر، وينتميان إلى أعلى طبقات الصوفية وأعلى درجات الأولياء.
· بين أبي مدين شعيب وبين الأخضر بن خلوف رابطة روحية قوية باتجاه التشريب العقائدي والترقية الروحانية الصوفية العالية.
· أبومدين شعيب هو شيخ الأخضر بن خلوف ومربيه ومرقيه في عالم الروح والتصوف.
· الأخضر بن خلوف وصل إلى مقام عرفاني كبير من مقامات الأولياء بإشراف القطب أبي مدين شعيب.
· حسب نص قصيدة الأمانة فإن 120 وليًا صالحًا شهد لبن خلوف بترقيه في مدارج الولاية والكمال.
· حسب شهادة ابن خلوف في قصيدته فإن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو من ختم ووافق على ولاية بن خلوف.
*** *** ***
horizontal rule
* باحث في الأنتروبولوجيا الدينية، جامعة تلمسان، الجزائر.
[1] ممن كتب قديمًا وبتفصيل عن علاقات أبي مدين بمريديه وشيوخه المؤرخ ابن قنفد القسنطيني في كتابه أنس الفقير وعز الحقير، كما كتب حديثًا الدكتور عبد الرحمن بدوي في علاقة سيدي بومدين بالشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي في كتاب التذكاري، وتكلم عنها الأستاذ عبد الباقي مفتاح في كتابه ابن عربي رجل القرآن، وكتب عنها شيخ الأزهر الإمام عبد الحليم محمود في كتابه شيخ الشيوخ أبومدين الغوث: حياته ومعراجه إلى الله.
[2] د عبد الرحمن بدوي، أبومدين وابن عربي، كتاب التذكاري، محي الدين ابن عربي، في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1969م-1389هـ، ص115.
[3] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، طبعة بولاق، القاهرة، سنة 1293 هـ، الباب التاسع والخمسون: في معرفة الزمان الموجود والمقدر، ج1، ص 438.
[4] Gilbert Durand , Les Structures anthropologiques de l'imaginaire, Paris, Dunod (1re édition Paris, P.U.F., 1960).
[5] ابن عربي، الفتوحات المكية، الباب السادس والخمسون وخمسمائة في معرفة حال قطب كان منزله تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ. أما التادلي أبي الزيات فيرى أن أبا مدين توفي في "أربعة وتسعين وخمسمائة وقيل عام ثمانية وثمانين" في كتابه التشوف إلى رجال التصوف، ص 319. وكذا أبن مريم المليتي في كتابه البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، ص 114، أما الغبريني في كاتبه عنوان الدراية فيجعل وفاته في "نحو التسعين وخمسائة"، ص 39.
[6] ديوان سيدي لخضر بن خلوف، جمع الأستاذ محمد بيخوشا حوالي 31 قصيدة منشورة للشيخ، وكان ذلك عام 1985 في الرباط. الوجيز المعروف في حياة سيدي لخضر بن خلوف، الأستاذ الحاج بوفرمة. سيدي لخضر بن خلوف حياته وقصائده الصادر حديثًا عن دار الغرب للنشر، عبد القادر بن دعماش.
[7] الرواية الشفاهية الشعبية تقول إن سبب قول هذه القصيدة يرجع إلى أن الخلوفي اختصم مع زوجته الشريفة "غنو" بنت الشريف سيدي عفيف. وبعدها انحجبت عنه رؤية النبي فاعتذر لها ولرسول الله بهذه القصيدة.
[8] Paul Ruff, La domination espagnole à Oran sous le gouvernement du comte d’Alcaudete (1534-1558) ,Bibliothèque histoire du Maghreb.
[9] عبد الباقي مفتاح ، ختم القرآن محي الدين ابن عربي، دار القبة الزرقاء، الطبعة الأولى، 2005 م، ص 161.
[10] ابن قنفذ (أبو العباس أحمد بن حسين بن علي بن الخطيب القسنطيني)، أنس الفقير وعز الحقير، نشره وصحَّحه محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1965 م، ص 16.
[11] في لقاء أجرته معه جريدة الشروق الجزائرية في يوم 04-04-2011 م.
[12] تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، مجموع الفتاوى، تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، الناشر دار الوفاء، الطبعة الثالثة، 1426هـ /2005 م، جزء 12، صفحة 36.
[13] المرجع السابق، ج 2، ص 452.
[14] عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، الطبعة الأولى، دار ابن الهيثم، 2009، ص 328.
[15] عبد الرحمن ابن خلدون، شفاء السائل في تهذيب المسائل، دراسة لأبي يعرب المرزوقي، تونس، الدار العربية للكتاب، 1991 م، ص 49.
[16] سورة الفرقان، آية 59.
[17] سورة الكهف، آية 28.
[18] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، تصوير دار صادر بيروت عن طبعة بولاق، القاهرة، سنة 1293 هـ. ج 3، ص 425، الباب الرابع والثلاثون وثلاثمائة: في معرفة منزل تجديد المعدوم وهو من الحضرة الموسوية.
[19] ابن قيم الجوزية، الوابل الصيب من الكلم الطيب، تحقيق عبد الرحمن عوض، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1985م، ص 53.
[20] أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، القاهرة، دار الشعب، 1409هـ/ 1989م، ص 181.
[21] أحمد شهاب الدين بن حجر الهيتمي المكي، الفتاوى الحديثية، طبعة دار المعرفة، مصورة عن طبعة مصطفى الحلبي الثانية، ص 55.
[22] ابن عربي، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، تصوير دار صادر بيروت عن طبعة بولاق، القاهرة، سنة 1293 هـ، ج 2، ص 555.
[23] المرجع السابق، ج 2، ص 573.
[24] محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد ابن العربي الحاتمي الطائي، رسائل ابن العربي كتاب القطب والإمامين، (منزل القطب ومقامه وحاله) وضع حواشيه محمد عبد الكريم النمري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1427 هـ.
[25] سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، الحكمة في حدود الكلم، دندرة للطباعة والنشر، 1981 م، ص 909 – 913.
[26] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، 1421 هـ، الجزء السادس، الحديث 3264 قوله نزول عيسى بن مريم.
[27] عبد الباقي مفتاح، ختم القرآن محي الدين ابن عربي، دار القبة الزرقاء، الطبعة الأولى، 2005 م، ص 161.
[28] أبو العباس أحمد الخطيب القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير، نشره وصححه محمد الفاسي وأدلوف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، ص 16. وذكر العبريني في كتابه عنوان الدراية هذا النص بحرفيته، ص 23.
[29] الأمير عبد القادر الجزائري، المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، تحقيق عاصم الكيلاني، دار الكتب العلمية، 2004 م، 1425 هـ، ج 1، ص 305.
[30] المرجع السابق، الموقف الرابع، ص 50، ج 1.
[31] يقول الباحث زعيم خنشلاوي في لقاء أجرته معه جريدة الشروق الجزائرية في يوم 04-04-2011 م: "تعرف تلمسان بمدينة الجدار في المصادر الإسلامية، لأنه يعتقد أنها القرية المشار إليها في سورة الكهف بخصوص مصاحبة موسى عليه السلام للخضر وأخذه عنه العلوم الباطنية، علمًا أن بقية القصة تكون حسب بعض المصادر وقعت بالكامل على التراب الجزائري. حتى أن قبر يوشع بن نون فتى موسى المذكور في القرآن الكريم ينسب إليه قبر على ساحل ولاية تلمسان، وعلى أبواب تلمسان يوجد حرم رجال عين الحوت، الذي لم يكن مسموحًا للفرنسيين الإقامة به حتى في عهد الاستعمار لقداسته وحرمته المضمونة بمواثيق وعهود تعود إلى العثمانيين".
تاريخ الإضافة : 25/08/2014
مضاف من طرف : yasmine27
المصدر : http://www.maaber.org/issue_september11/spiritual_traditions1.htm