لا شك أنّ العمل التضامني الإنساني يعتبر من أسمى الأعمال الخيرية التي توحّد المجتمع، وتمحو عنه الفوارق الاجتماعية، وتقرب الجميع لتشكل منهم لحمة مبنية على التآخي والتراحم والعدالة، وعلى هذا المنوال دأبت الدولة في السنوات الأخيرة من خلال جهاز إداري خاص، على مستوى البلديات والولايات، على سن هذه المبادرة الإنسانية، ومحاولة ترسيخها في عادات وتقاليد المجتمع الجزائري، والذي كان أصلا يتميز بها منذ القدم.فالفرد الجزائري مضياف ويحب مساعدة الآخرين، لكن كما يعرف الجميع بدأت هذه القيم السامية تتراجع بشكل لافت للنظر في سلوكيات الفرد والعائلة الجزائرية، لأسباب عديدة منها ما يتعلق بالوضع الاجتماعي الصعب من جهة، وكذا الغلاء الفاحش في الأسعار، وأيضا التغيرات العالمية ومنها الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت سلبا على اقتصاد البلدان من جهة أخرى، والجزائر جزء من هذا العالم، وكل العناصر متشابكة فيما بينها، وعلى أساس ذلك سارعت الدولة إلى تعزيز أوجه التضامن وتعزيز القيم والعادات الحسنة في المجتمع، وعليه ظهرت فكرتا مائدة رمضان وقفة رمضان، التي بدأت تعطي نتائج ملموسة، فولاية بجاية على غرار كثير من ولايات الوطن، شرعت في فتح مطاعم الرحمة مع حلول اليوم الأول من هذا الشهر الفضيل، فبلدية بجاية رصدت غلافا ماليا يقدر ب 3 ملايير و250 مليون سنتيم لفائدة مائدة الرحمة و250 مليون سنتيم لقفة رمضان.
وعلى هذا المنوال اختارت مدرسة "ابن رشد" لتكون إحدى مطاعم الرحمة، والتي يتوافد إليها يوميا ما يقارب 250 فردا من المعوزين والعائلات وعابري السبيل وغيرهم، وأثناء زيارتنا للموقع في وقت العصر، وجدنا عمال المؤسسة الذين ينتمون إلى البلدية وهم 10 أفراد، إضافة إلى متعاونين من الشباب وجلهم من الطلبة الجامعيين، وهم يحضرون الطعام الذي يقدم على مائدة الإفطار 10 دقائق قبل موعد الآذان، ومما لوحظ أنّ العملية في منتهى الدقة، والجميع مستعد للعمل بصورة متواصلة، وفيما يخص سؤالنا المتمحور حول أعمال هذه المهمة الإنسانية، أجابنا أحدهم بأنّ الوجبات التي تقدم وهي شربة تارة بلحم الدجاج، وأحيانا باللحم العادي، إضافة إلى طبق رئيسي قد يكون الأرز أو شيئا آخر، ويتبع بماء معدني وعلب ياغورت وأحيانا الفاكهة، وتقدر الوجبة الواحدة بحوالي 300 دينار، أي أنّ المتوافدين إلى هذا المطعم، سيجدون كل ما يطلبونه من أكل، ولهذا السبب بدأت الأعداد تتزايد يوما بعد يوم، حيث بدأنا في اليوم الأول ب 50 فردا من العائلات المعوزة و20 من عابري سبيل، وارتفع اليوم هذا العدد إلى 250 وجبة في اليوم الواحد، وإذا استمر الوضع بهذا الشكل فسوف نجد أنفسنا نعاني الاكتظاظ وعدم القدرة على تلبية حاجيات المعنيين، لذا أخبرنا المصالح المعنية بضرورة فتح مطعم آخر بغية استيعاب الكم الهائل من المتوافدين، إضافة إلى ذلك فإننا نأخذ بعض الوجبات إلى منازل بعض العائلات التي لا تستطيع المجيء إلى عين المكان لأسباب معينة، وأضاف المتحدث بأنه ينوه بالمجهودات التي يبذلها المتعاونون خاصة الطلبة الجامعيين، الذين برهنوا على قدرتهم في تنظيم مثل هذه الأمور، وقد ساعدونا في إدخال المعوزين من العائلات والشباب، وتوجيههم وفق نظام المطعم، حتى لا تكون هناك فوضى في التوزيع أو تجاوز البعض للآداب العامة، خاصة وأنا هناك نساءً يشاركن في هذه المائدة، وعليه تسهر السلطات المحلية للبلدية على ضرورة تطبيق العدالة في التوزيع، وكذا توفير كل مستلزمات هذه المائدة بشكل كبير، حتى تلبى حاجيات المستفيدين.
أما عن طبيعة المتوافدين فإنّ المنظم الرئيسي داخل المطعم، يؤكد أنه لا يمكن له أن يرفض أي شخص ولا يقدم له شربة الإفطار، على اعتبار أن حضور الشخص عند وقت الإفطار، بدل أن يكون مع عائلته مؤشر كبير على أنه من العائلات الفقيرة أو المعوزة أو ضمن الشباب الذي يعاني من البطالة أو من عابري السبيل، وأما عن الذين يقدمون يد المساعدة فيقول المتحدث بأنّ هناك ثلاث فرق من الشباب يعملون بالتناوب، والحق أنهم في غاية اللباقة وحسن الخلق، حيث إنهم يجتهدون وقت الإفطار للقيام بمهامهم وكل واحد له مهامه الخاصة، ونحن هنا نعمل كموجهين ومراقبين، وهذا يدل على أن الدنيا ما تزال بخير، ونتمنى أن تستثمر الدولة في مثل هذه المبادرات الطيبة التي في الأصل تخلق جسر التواصل بين مختلف فئات المجتمع، ونحن على يقين بأنّ الإنسان البجاوي أو الجزائري بصفة عامة، لا يحمل في قلبه الضغينة، بل يحمل الخير وكل الخير، ليبقى فقط توجيه هذه الطاقات لخدمة مصلحة المجتمع والوطن، وإبعاد كل ما قد يسبب التوتر، والخلاف بين أفراد الأمة الواحدة، حيث إنّ هذه التجربة التي عشناها على مدار ثلاث سنوات، كشفت لنا أن الجزائر ما تزال بخير، وأنّ الجميع مستعد لمساعدة المحتاجين، والتضحية بماله ووقته من أجل راحتهم، وأيضا لو فتحت الدولة أبواب العمل الخيري والتضامن الإنساني فسوف نجد أنّ أغلبية المجتمع يميل إليهما.
وهنا يضيف أن هناك العديد من الجمعيات المحلية التي تبحث عن تقديم هبات أو مساعدات لمائدة رمضان، لكن ولله الحمد تكفلت الدولة من خلال مصالح البلدية بهذا الموضوع، حيث يحضر يوميا نائب رئيس بلدية بجاية السيد "حميد مرواني"، ويطلع عن كثب على طريقة التسيير واحتياجات المركز، ويطلب منا أن نطلعه على كل كبيرة وصغيرة، كما أن ما تبقى من الطعام يتم نقله إلى دار العجزة، طيلة شهر الصيام، وهذا يدل على أن الجميع يحارب الإسراف، أما عن موضوع الذين يقومون بالطبخ والإعداد، فإنهم يستفيدون من هذه المائدة، حيث إنّ جلهم من العائلات المعوزة أي ينتمون إلى عمال البلدية ذات الدخل الضعيف، وهنا يتم التأكيد على أن كل الأعمال متكاملة فيما بينها، لكن أحيانا نجد أنفسنا في وضعية غير مرضية، أي أن البعض ممن يتوافدون في وقت الإفطار يتركون بقايا من الطعام، وفي هذه الحالة هناك البعض ممن يربون الكلاب يأتون ويأخذون هذه البقايا خاصة العظام، وهذا ما يجعل من العملية شبه ناجحة من حيث التنظيم، وهذا على مستوى مؤسسة "ابن رشد" الكائنة بمدينة بجاية.
أما عن قفة رمضان فقد أشرنا سابقا أنّ البلدية خصصت 250 مليون سنتيم، بعد أن أعدت وأحصت أسماء العائلات المعوزة على مستوى البلدية، والعدد يقارب 1500 قفة، وإعداد القوائم الاسمية تمت بمعية جمعيات الأحياء، والتي تشارك البلدية في عملية التوزيع وإيصال هذه القفة إلى أصحابها، هذا بعد أن حدث سوء تنظيم قبل سنتين، وكثرت الأخطاء وتحويل القفة إلى جهات أخرى، لكن الأمر هذه السنة تغير إذ تم التحكم في عمليات التوزيع وأيضا في محتوى القفة الواحدة المقدرة ب 2000دج، ويتعلق الأمر بزيت المائدة، السكر، القهوة، 10 كيلوغرامات من السميد، الملح، ومواد استهلاكية أخرى، في حين غاب اللحم بمختلف أنواعه وكذا الحليب، وإلى حد الساعة استلمت 150 عائلة قفة رمضان والبقية في الساعات والأيام القادمة، حيث يتم إعدادها بصورة متعاقبة ومستمرة، حتى وإن كان البعض يتمنى الحصول على صك بريدي بدل المواد الاستهلاكية، ولكل وجهة نظر في الموضوع، لكن وجد أن تسليم المساعدات الإنسانية بواسطة الصكوك، تحتاج إلى عملية إعداد، وتحضير وكذا ملفات بين البلدية وإدارة البريد، كما أنّ المشكل الذي قد يطرح أيضا هو الاكتظاظ على مستوى البريد، هذا الأخير الذي يعاني منذ زمن من هذه المعضلة، لكن وحسب المعلومات التي جاءتنا من الجهات المعنية فإنّها لا تستبعد إمكانية تقديم صكوك بدل القفة بحد ذاتها، حتى تعطي للعائلة أو المستفيد الحرية الكاملة في اختيار المواد الاستهلاكية التي يحتاج إليها، وكذا من أجل التسريع في العملية التي يجب أن تتم قبل أسبوع من حلول شهر رمضان الكريم، كلها أفكار قابلة للتطبيق، لكن تنقص الترتيبات التي تمكن من الوصول إلى هذا المستوى الإداري الرفيع، والهدف منها تسهيل الأمور للمستفيد وتفادي البيروقراطية، وأيضا تقريب الإدارة من المواطن بصيغة الإدارة الجوارية، وعلى ما يبدو فإن الأمور بدأت تتحسن من سنة إلى أخرى.
كما أن التحكم في عدد المستفيدين كان في المستوى المطلوب، كما أن التفكير في طرق أخرى تتعلق بالتضامن الاجتماعي والإنساني مفتوح للجميع من إدارة محلية وجمعيات محلية وخيرية، والقصد من ذلك هو ترسيخ هذه العمليات الإنسانية في تأسيس ثقافة المجتمع، ودعم أواصر الإخوة بين أفراد المجتمع، وخلق جسور المحبة والتآخي والتركيز على تطوير السلوك الاجتماعي الذي يخدم مصلحة الفرد والجماعة. إن تنمية الفرد والعمل على توجيهه وبناء سلوكه وفق ما تتطلبه المصلحة العامة يعتبر استثمارا مربحا من الجانب الاجتماعي والسيكولوجي، فالفرد هو العنصر الأساسي في بناء خلية المجتمع، وإن تدعيم المجتمع بالفضائل الحسنة والأعمال الخيرية يؤسس ثقافة واسعة مبنية على الحضارة والوعي الإنساني بالجانب المتعلق بالترابط والانسجام بين أفراد الأمة الواحدة، فالاستثمار في الفرد يعتبر بمثابة وضع الحجر الأساسي لبناء مستقبل الغد للأجيال الصاعدة، مع وضع الإطار المناسب لتهيئة الآفاق المستقبلية لاستكمال تأسيس الحضارة الإنسانية المبنية على أسس صحيحة وسليمة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/08/2011
مضاف من طرف : archives
صاحب المقال : كريم ت
المصدر : www.elayem.com