الجزائر

مخطوطات قنزات تبعث المقامة من جديد



نظّمت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف مؤخرا، الملتقى الوطني حول المخطوطات في منطقة القبائل، الذي احتضنته بلدية قنزات ببني ورثلان، حيث سلّطت الضوء على واقع هذه الكنوز والثروة الثقافية في هذه المنطقة من ربوع الجزائر. واختار في هذا الملتقى الدكتور صالح بلعيد أن تكون مداخلته من خلال جنس أدبي أصيل، وهو فن المقامة، فنسج موضوعه في مقامة رائعة تحت عنوان “مقامة في المخطوطات”، ارتأت جريدة “المساء” نشرها لما تحتويه من معلومات حول هذه الكنوز التي مازالت تبحث لها عمن ينفض عنها الغبار.بسم الله والحمد لله وبعد، فإن ما حملني على دبج هذه المقامة غيرة أصحاب الوزارة، الذين اختاروا موضوع هذه الندوة في هذه البلدة، وهو (المخطوطات في منطقة القبائل)، فقد أحسنوا الاختيار بما فكّروا في رد الاعتبار للمخطوطات في بلاد القبائل، وبذلك سيّروا لها القوافل، فبلاد الزوايا منتجة للعلم والعلماء، وراعية الإسلام والعظماء، وحامية العربية بالإباء، وناسخة المتون والإقراء، وزاخرة بمخطوطات الآباء، بلاد متخمة بالزوايا والمساجد، وأناسها محافظون على العوائد، وحيث المالكية مذهبهم، والاجتهاد شرعهم، والوسطية مسلكهم، والمخطوطات متونهم، وهذا ليس بالتميز، ولا يراد به التحيّز، فهو بعد من أبعاد الهوية التي تختص بها المنطقة.
وبعمل الوزارة في هذا اليوم بعقد ملتقى معلوم ونأمل أن يدوم، وبتبليغ أهمية الموضوع في تراث غير مسموع، وإنه لعمل يحتاج إلى التنويه وإلى الشكر بالتفويه، وما تقوم به وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، التي تسعى لوضع الأوصاف، لماضينا التليد، ولحاضرنا المجيد، لهو من الفعل النبيل، الذي لا يقوم به إلا الفضيل، فوزارتنا من شيم دولتنا الشريفة، ترفع الفخر بكل تليدة، وتجعل من تراثنا فعلا مرضيّا وتنزله مكانا عليّا، فأنعم بكم يا أهل الوزارة! والله نسأل أن يزيدكم الأمانة ونفخر بكم باستفاضة، فأنتم من المشتغلين في الشأن العام، فطاب خطاكم في هذا المقام بما تسعون في بعث تراثنا المكنون، ولما خطّطه القدامى من المضمون، ولذا أشكر أصحابي في هذه الوزارة، فلهم مني وسام وشهادة، فإن مدحتكم مقاما، فأنتم أهل حتما، وكان عليّ القول بأن مديرية النشاط الإسلامي أضحت مرجعية في الفعل الثقافي وفي خدمة الحراك العلمي، فطبتم بما تقومون، وبما تخطّطون، وأمثالكم قليلون، وإن الكرام قليلون.
وأما مدار القول في هذا الملتقى فنزاه يسعى دون الرجعي، ويباشر البذل القصوى، ويواصل العزم بالسداد، ويُعمل الحزم في إصدار وإيراد، ويكفل بحسن الاعتماد، لتحسيس باحثينا لبعث المستور والعمل على تقريب المكتوب، وتقييد ما هو موجود، وإحيائه إلى الوجود، إن لم تكن خطوة نحو التحسيس فهي نظرة نحو التأسيس لمشروع بعث تراثنا النفيس، الذي أضحى من الرميس، وهذا ما سوف يقدمه المختصون من بيان، مستخرجين فضائل المخطوطات بالبرهان، ومحققين أوراقا عفا عليها الزمان، ومحاضرين في التراث وفيما تركه الأجداد من ميراث، فأرى الملتقى يرقى أجلّ ما يرقى، ويستقبل هذا الحضور على التقى، وبدونهم لا ينال درجات الرقى، وهذا دليل النجاح، وظاهر في تباشير هذا الصباح.
وأما ما يمكن أن يقال في فضل المخطوطات، وما تحمله تلك الإضبارات، وما خطّته الأيادي من المعلومات، فهي من ذخائر الأجداد، والذين كان لهم فعل الأنداد. مخطوطاتنا ما سُُطّر من الكتابات وما دُوّن من السجلات والمكاتبات. مخطوطاتنا فيها دائما جديد، والناظر فيها مستفيد. مخطوطاتنا كتب نفيسة، ومتونها رياض عجيبة، فإذا فتحتها طال إمتاعك، وشحذت طباعك، وبسطت لسانك وفخّمت ألفاظك، وعمّرت صدرك. مخطوطاتنا لها من بحور الفرائد بما تخرجه من الفوائد. مخطوطاتنا جمعت السير العجيبة والعلوم الغريبة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الغابرة والبلاد الفانية. مخطوطاتنا قليل منها ما نُشر، وكثير منها ما سُتر، وعظيم منها ما أَبلى، وكثير منها ما عفا. مخطوطاتنا في كل مكان، في خزائن غمدان، وفي ساحات القيروان، وعلى أبواب سمرقند وفي مساجد طشقند، وفي مكتبة الأسكوريال، وفي محطات بلاد الروايال، وفي الخزائن المشهورة وفي الأماكن المجهولة.
مخطوطاتنا كتاتيبنا منها عامرة، ومعمّراتنا بها فاخرة، ولكن أقفالها مانعة، وبعضها مِلك للأفراد، لاتزال في طيّ الأحفاد، محفوظة في أبعد المواضع من الدثور، وهي ممنوعة عن الظهور. عجبا.. فتراثنا المكنوز في خبايا لا يصل إليها الباحث إلا عن طريق المرايا، ولذلك ضاع كثيرها في التكايا، فلم يأنِ لنا استخراج الخبي، ولا استطعنا حصنها عن الغبي، وبعضها تُركت في إهمال، وفي مقام إسفال، لتأكلها الأرضة مع سوء التهوية، فبادتها يد الإنسان بعدما مسّها النسيان. مخطوطاتنا كتب نفيسة، وجعلناها رخيصة، فلم نحفظها بالدراسة، ولا وضعناها في أيد أمينة، وما جسّدنا مقولة السلف، وما كنا خير خلف!
وهكذا نرى في الكتب الصفراء التطيّر، وما كُتب بالصمغ التنفر، وما عادت تُنشد في ذاتها، ولا أصبح لها روّادها، ونحن عن كل هذا من الغافلين، وعن الكتب المخطوطات لمن الخائفين، ولا ندري لطائف الإشارات في تلك المنسوخات، وما تحمله من كنوز، وما تتضمنه من علم يحوز، علوم دينية وعلوم دنيوية، وإنه لأمر جسيم، وقسيمة لأمر عظيم، أن نتسامح في تراثنا، ولا نحمي حصون أجدادنا، فهذا هو العقوق والنكران، ألسنا من جيل التكلان؟! أيخدم تراثنا غيرنا ونحن نقول هو عزنا؟ فكيف بنا لا نردّ الجميل أو نحفظ الود النبيل لمن أفنوا بياض نهارهم يكتبون، وفي هذه الصحائف ينظرون، والذين تركوا لنا الزاد الوفير، وحقا إنها من النعم الكثير.
وهل يدرك هذا الجيل قيمة المخطوط، ويقبل على تحقيقه بالمبسوط، طلابنا لا يقبلون التفتيش في المخطوطات، ولا يبادرون التقميش في المكاتبات، ويقولون إنها لا تؤكل الخبزة، ولا تعطي الوظيفة فدعوها لمن جال وشاب، أو خرج من مرحلة التطلاب، وإنها لحرفة طويل العمر، أو من كُتب له طول الصبر. ويضيفون: “إن التحقيق يتطلب الزاد الوفير، ونحن ما أردنا هذا المسير؛ لأن مبتغانا تجنيه بالقعود، وبالسهل نحصل على الصعود، وأن الكتب الصفراء فهي تضفي الصفيراء، فمن يتزوج هذه الصحائف لا تؤنسه في المصائف، ومن يشتغل بورق يصدر منه الباخور، فنهايته يعلّق في عينيه الناضور، فكفانا فك الألغاز، فماذا جنينا من الأرجاز؟
وبقينا ننكر تاريخنا ونتنكّر لأجدادنا إلى أن جاء الأوربيون ومعهم المستشرقون ومن يعرف قيمة المتون، أبانوا عن مخطوطاتنا بالتحقيق، والتثبت الدقيق، وتوصلوا إلى التشفير عن الحروف، وعن مكامن الصروف، ونبّهوا إلى ما كثر فيه التصحيف وما غلب عليه التحريف. لقد عمل المستشرقون على فك استعجام الفصول، وما علاها من المحمول، حتى وصلوا إلى غاية المحصول، فما أقعدتهم صعوبة رمز الحروف، ولا ما خُط من المعقوف، ولا ما استُغلق من المجروف، فلم تكن عندهم الخطوط مانعة، وما كان مكتوبها مشكلة، فحقّقوها بالإتمام، وبشكل الحروف على التمام، وأبانوا عما حصل من تسطيح وتقويس للحروف، وصرفوا عنايتهم لإدراك المحذوف، ونهجوا الطرائف العلمية في دراسة المخطوط، وأقاموا الدليل بالمضبوط. وما يؤسَف له وما يُتوهم منه أنهم ما رفعوا قولة أصحابنا، بل فعلوا فعلهم في تراثنا، فسبقونا في التفتيش، وحصّلوه بالتقميش، فلهم سبقُ التنبيه على فضائل الأولين، والذي كنا عنه جاهلين.
وأما ما له علاقة بالتحقيق فله قواعد التدقيق، فسلوني عن المعضلات، لأستوضح لكم المشكلات، وسأفيدكم بقواعد التحقيق، وهي سبعة تطيق، لمن يبغي التطبيق، فإليكموها يا أولي الأبصار، ويا أيها الحضور الكبار، أعرضها عليكم بالتراتب، عسى ألا تفوتكم المراتب:
1- فأوّلها: تنظيم مادة المخطوط: إن تنظيم مادة المخطوط ضرورة للوصول إلى تشفير الحروف بسهولة، وإدراك متضمنات الدلالة، وما قامت به الألفاظ بالعبارة، وما وقع فيه التصريف إلى جهة وما ارتضته قواعد اللغة، فالتنظيم رابطة عضوية بين المكتوب والنصوص المحققة وما كان بين السطور من تعويص القراءة، ومن جهد معرفة الحروف المعلّقة، وما يرد فيها من إبهام غامضه، فبالتنظيم يحصل الترتيب، وبه تتم عمليات التهذيب، وذلك ما يكون تسهيلا لكل تعقيب، ولما استُشكل ودون تبويب.
2- وثانيها: ضرورة التعليل عند الترجيح: وأعني بالتعليل فيما يراه المحقق من تحليل، ويبدي رأيه مميزا الترجيح، وإذا اختلفت الآراء في التوضيح فينشد البرهان في الحال من غير انتحال، ويسند الرأي بالارتفاق، ويعيده لصاحبه بلا إصفاق، ولا يحاول أن يشق عصا الشقاق، ولا يعصي أفاويق الوفاق. وبالترجيح تزول كثرة الكلام بعدما ترسّخه الأقلام، فما يردّ منها من اجتهاد وجواب وما يصبّ فيها من صواب، هو الترجيح والبرهان والمتفق عليه بلا بيان.
3- وثالثها: توحيد الانتساخ: فكما نهج الباحثون قواعد التحقيق قالوا لا بد من تنظيم قواعد التصديق، وتكون البداية لعدد مخطوطات الدراسة، لتسهيل مسلك البداية، فيأخذها الباحث للمماثلة واستخراج أوجه المخالفة، فينهج بذلك سننه، ويتبع منهج السالكين قبله، ليخرج عمله بأوفى الأقسام وعلى وجه الانتظام.
إن توحيد الانتساخ يعني المقابلة بين النُّسخ، وصولا إلى دحض المسخ ورفض المزيد عن الأصل، وترجيح النسخة الأصل، نسخة تقع عليها الدراسة، ومنها استكناه مقومات تحقيق الأصالة.
4- ورابعها: تقييد النص بالحركات: كان لا بد من ضبط النصوص، كما هو منصوص، بالعودة إلى المحتوى، وما يحمله من المعنى، ونعلم أن بعض مخطوطاتنا عارية من الضبط، وغيّبت الشكل والنقط، فهنا المشكلة الأوفى، بما هو مستوفى، من معرفة أنواع الخطوط، وإدراك ما هية المفروط مما يُستعمل من الخط الكوفي، الذي أخذت منه الخطوط على التوالي، ثم جاء الرقعي، وتلاه الفارسي. وليحصل تقييد النص بالحركات كان لا بد من إدراك نوع الخط، الذي به يظهر المطّ، فمنه المقوّر والمخطوف والملوّز المركب، ومنه المشكول والمفتوح والمطموس المنكّب، وبعضه من خطوط دواوين الإنشاء، كان في عهود الملوك والخلفاء، فيصعب إدراكه، كما تصعب قراءته، وفي الحالين سواء، وفي كل الأحوال أهواء، أَ بقي الحرف على حاله، أم انقلب النطق إلى ضده؟ فالإشكال لا يُحل إلا عن طريق المحل، فأين أنت يا ابن مقلة لتخلّصني من المشكل؟ وأين أنت يا ابن البواب لتشرح لي المقفل؟ أين أنتما لتكشفا الضر عن المكتوب، وتسهّلا نيل المرغوب، في خليط هذا الفسيفساء، وفي تقييد النصوص العصماء؟!
5- وخامسها: التعريف بالمبهم المغمور وترك المشهور: قال الراوي في هذا المجال: “عليك أن تصغى لي في الحال، فالتعريف بالمبهم المغمور قاعدة من قواعد المسطور، في تحقيق لتراثنا المنال بدل أن تعمل فيه المحال، وقد تلوي بعض الأعناق لتقرب إلى فهم الأشداق، وهذا ليس من القواعد بمكان، ولا تقبله الأذهان، وعلى المحقق أن يدرك قواعد التحقيق، وهي من متطلبات التوثيق، عليه أن يعرّف بالبلدان، ولا يطمس حق الوديان، ويعرّف بالأعلام، ويشكّل مواطن الإعجام، ويحقق أماكن اللبس، ويعمل على إزالة كل دسّ. وفي هذا المقام عليه أن يجعل خزانته إماما، و لتحقيقاته زماما، ويضع القلم على أذنه، وإذا أشكل الأمر يعضّه بفمه، ويخطّ على حاشية الورق، ويكتب كي لا يناله القلق. وأما ما هو مشهور فالأحق أنه منشور، وعند الخاصة من المكرور، وعند العامة أول المذكور، فيُعد من حشو المقال، وحقه الإهمال.
6- وسادسها: التخريج: وهنا يقدم المحقق على الإسناد في كل أمر يعاد، وفي كل كلمة تقال، وعليه أن يأتي بالمنال، وأن يدلي بشواهده على جوامعه، وأن يُخرّج المجهول على غوامضه، وهذا لتحقيق غاية التخريج، وفي بعدها الترويج. والتعريف بما هو مجهول يتطلب الكشف المطوّل، ولا بد من إدراك دلالات المصطلحات، وما يقتضيه علم التحقيقات من المعاني الخاصة بجانب المعاني العامة، فمن رغب في هذا الفن عليه أن يركب هذا المتن، ويعرف مصطلحات التقوير والبسط ومعاني الوقف والسمط، وما يلي هذا من معرفة الرموز وفك المهموز، وهي مجموعة مصطلحات موقوفة مبسوطة، تُعرف من خلال التخريجات المضبوطة، فإن شئت بدأت من قفاها بتشفيرة، متّبعا فيها رأي جماعة، ولكلٍّ طريقة في تفتيق فنون كل مجموعة. والتخريج هو الإسناد، والعودة إلى المضانّ بالاعتماد، وبضبط المطلوب على التهجّي، وتحليل ما هو مترجّي، وصولا إلى التخريج المراد، لمن أراد بناء العماد، على قواعد الاعتماد.
7- وسابعها: نقد النص: النقد في المخطوط لا يعني التجريح بما هو غير مريح، بل الإتيان بالتوضيح، وبكشف ما هو مستغلق، وفي كل أمر غير مخترق، واقتراح أفكار تصول، لمن أراد الوصول، أفكار لها موقع عند الأنام، وفي اجتهاد المستهام. النقد في المخطوط يعني إلامَ تنظرون؟ وحتّام تنظرون؟ فإذا طبّقنا هذا في النقد يحصل لنا فضل العقد، وليكن النقد لأمر النص ملاحظا، وعلى منع الخطأ محافظا، وعلى الغش مؤدبا، ولإجراء الموازين مرتّبا، وهذا من مقتضيات نقد النصوص، وليس من باب تحصيل الفصوص. نقد متن المخطوط شعار النفس ومنجي الأنس، ومسدّد الأحوال بدل مبادلة الأفضال.
هذه سبعة قواعد مضبوطة لمن يبتغي التحقيق دون زيادة، وقد أُقرت في ضبط النص والتعليق عليه، أثبتها المتخصصون في تدقيق النصوص وما إليه، وزكّاها الباحثون المتخصصون، ويعمل بها المحققون الجادّون، وأقرّتها المؤسسات المتخصصة، ونادت بها الجمعيات المهتمة، وحدّدتها في إطار تحقيق المخطوطات، وما كُتب بغير الآليات أو دُوّن في مطبعة الحجريات، وكل ما يصنَّف من التراث المادي وما هو من مكتوب الأجداد.
وفي خاتمة المقامة أرجو أنني حققت المنالة، بما رُمته من ذكر قواعد التحقيق في هذا الموضوع الدقيق، وأطلب من الحضور المعذرة إن اقتحمت ميدان العقبة، وربما لم أفلح في نسج المقامة والوصول إلى تحقيق الغاية، فمعذرة يا إخوان، والسلام عليكم بأمان.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)