كان محمد أركون قد أمضى حياته تقريبا في التحدث عن النزعة الإنسانية في الإسلام. كان ذلك شغله الشاغل منذ أن انهمك في تحضير ”دكتوراه الدولة” في السوربون عن هذا الموضوع في بداية الستينات وحتى نهاية السبعينات. ومعلوم أن عنوانها بالضبط كان: ”النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري.. مسكويه فيلسوفا ومؤرخا” (1970). ثم أصدر في أواخر حياته كتابا آخر عن الموضوع ذاته بعنوان: ”النزعة الإنسانية والإسلام.. معارك فكرية ومقترحات”، (منشورات مكتبة فران الفلسفية عام 2006). في الكتاب الأول أراد أركون أن يتحدى أقطاب الاستشراق عن طريق القول بأن الحضارة العربية الإسلامية عرفت النزعة الإنسانية قبل الغرب بزمن طويل. لقد عرفتها في القرنين الثالث والرابع للهجرة، أي التاسع والعاشر للميلاد. في تلك الفترة كانت أوروبا تغط في ظلام طائفي عميق، مثلنا نحن الآن. وكان من أقطابها الكبار الذين يفتخر بهم افتخارا شديدا والذين عاشر نصوصهم سنوات وسنوات: الجاحظ، والتوحيدي، ومسكويه ذاته، وأبو الحسن العامري، وبالطبع ابن سينا والفارابي وعشرات غيرهم. ويمكن أن نضيف المعري الذي كان يرأف حتى بالحيوان، فما بالك بالإنسان؟!ولكن إذا كان موقع أركون قويا نسبيا إبان الستينات والسبعينات، إذ كان هجوميا تجاه الغرب، فإنه أصبح دفاعيا بعد ”11 سبتمبر (أيلول)” وبقية التفجيرات الإجرامية الكبرى. عندئذ ألقى سلاحه وعرف أنه خسر المعركة ولن يسمع صوته أحد بعد اليوم. فكيف يمكن أن تقنع الناس بأن تراثك إنساني حضاري بعد كل ما حصل؟ كيف يمكن أن تدافع عنه في عصر الأصوليات المزمجرة الزاحفة من كل حدب وصوب؟ لم يعد أي مفكر عربي أو مسلم يتجرأ على أن يرفع صوته في الغرب ولا حتى في الشرق، وأصبحت كلمة ”إسلام”، شئنا أم أبينا، مرادفة لدى البعض للتهديد المبطن والعنف والإرهاب، وبمجرد أن تذكرها أمام الآخرين، يتوجسون خيفة منك أو يرتعدون فزعا، وربما تصوروا أنك وضعت قنبلة في أقرب سوبر ماركت! هذه هي الحقيقة الجارحة أيها السادة. لن تستطيع بعد اليوم أن تقنع أحدا بأن لتراثنا أية علاقة بالنزعة الإنسانية أو بالرحمة والشفقة على العباد.. بعد ”طالبان” وغير ”طالبان” قضي الأمر. انتهى الموضوع. كل ثقافتك أصبحت في قفص الاتهام. هذا هو الوضع الذي وصلنا إليه أيها السادة. وأتحداكم وأتحدى نفسي إذا كنا قادرين على أن ندافع عن هذا التراث في أي محفل عالمي شرقي أو غربي كما كان يفعل أركون بكل جرأة في الستينات والسبعينات، بل وحتى الثمانينات. ومع ذلك، فإنه لم يتراجع عن أطروحته الأساسية القائلة بأن الحضارة الإسلامية كانت ذات نزعة إنسانية في العصر الذهبي المجيد؛ ذلك أن الفلسفة استمرت قرنا آخر في الأندلس بعد انطفائها في المشرق. لكي يستعيد عالم الإسلام صورته المشرقة، لكي يسترد عافيته، ينبغي عليه أن يواجه هذه الأسئلة بكل صراحة ووضوح بدلا من تحاشيها أو القفز عليها. كلنا معنيون بالموضوع دون استثناء.. كلنا نسينا معنى النزعة الإنسانية، بل ومعنى العصر الذهبي، لأننا في تربيتنا ومدارسنا وبرامجنا نتاج مباشر لعصر الانحطاط. في إحدى المرات كنت جالسا معه في شقته الباريسية بشارع ”ماجنتا” القريب من ساحة الجمهورية في قلب العاصمة الفرنسية، ثم جر الحديث الحديث حتى وصلنا إلى بن لادن.. كان ذلك بعد ”11 سبتمبر” بقليل. قال لي بالحرف الواحد: ”بن لادن ليس شخصا واحدا، وإلا لهان الأمر. بن لادن نتاج عصر بأسره. إنه نتاج تأويل متزمت جدا وتربية خاطئة مضادة لكل نزعة إنسانية أو حضارية”. شعرت بشكل من الأشكال كأنه يوشك أن يشفق عليه! أنه يعتبره ضحية لكل عصور الانحطاط والانغلاق.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 02/05/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : هاشم صالح
المصدر : www.al-fadjr.com