الجزائر

ماذا بعد الحج



ماذا بعد الحج
شرع الله العبادات والطاعات لحكم عظيمة وغايات جليلة فهي تقُوِّي الإيمان، وتُزكِّي النفوس، وتقوم السلوك، وتهذب الأخلاق، وما لم تكن هذه العبادات طريقا لتحقيق هذه الغايات، فلن يفيد منها المسلم الإفادة المرجوة، بل ربما تحولت العبادة إلى رسوم ومظاهر يؤديها الإنسان، دون أن يكون لها أثر على واقعه وسلوكه. وعبادة الحج لا تخرج عن هذا الإطار، فإذا قام بها المؤمن خير قيام، وأدرك مقاصدها، واستشعر معانيها كان لها أعظم الأثر في حياته وبعد مماته. وإذا كان الأمر كذلك، فإن عليك - أخي الحاج - وقد أكرمك الله بزيارة بيته، ووفقك لأداء فريضته، أن تقف مع نفسك وقفات، تتأمل حالك، وتراجع قلبك، وتصحح سيرك. وأول شيء يجب أن تدركه عظم نعمة الله عليك، بأن وفقك لأداء هذه الفريضة العظيمة مما يستوجب شكر الله جل وعلا على هذه النعمة، كيف لا وقد حُرِمَها غيرُك وهو يهفو إليها. ومِنْ شُكْرها أن تحفظها من الضياع، وأن تلازم طاعة ربك وتستقيم على دينه وشرعه. ثم اعلم أن من أهم القضايا التي ينبغي أن تحرص عليها بعد حجك قضية الثبات، والمحافظة على هذا العمل من المحبطات والآفات، وأن تسأل الله في كل حال أن يحفظ عليك دينك، وأن يوفقك لطاعته، ويجنبك معصيته، لتكون مع “الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" (النساء: 69). وقد ضرب الله عز وجل الأمثال للناس على هذه القضية، محذراً عباده من أن يبطلوا أعمالهم، ويمحقوا طاعتهم، فلا يجدونها في وقت هم أشد ما يكونون حاجة إليها وذلك في قوله جل وعلا: “أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون" (البقرة: 266)، وهو مثل ضربه الله جل وعلا لمن حسن عملُه، ثم انقلب على عقبه بعد ذلك، وبدل الحسنات بالسيئات عياذا بالله من ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: “ضُربت لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" رواه البخاري. ثم تذكَّر - أخي الحاج - أن للحج المبرور علامات، ومن أظهر هذه العلامات دوام الاستقامة على طاعة الله بعد أداء النسك، وأن يكون حالك مع الله بعده أفضل مما كنت عليه قبلُ، وقد قيل للحسن البصري: الحج المبرور جزاءه الجنة، قال: “آية ذلك أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة. وظني بك - أخي الحاج- وقد أنهيت حجك أنك قد أدركت أن من أهم حِكَمِ الحج ومقاصده تربية المسلم على عبودية الله وحده، والتزام أوامره واجتناب نواهيه، واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم-، وهذه الأمور لا تتحدد بموسم أو شهر أو عام بل يستصحبها المسلم طيلة عمره ومدة حياته، ما دام فيه قلب ينبض ونفس يتردد “واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" (الحجر: 99). وليكن حالك بعد العمل كحال الذي وصفهم الله جل وعلا بقوله: “والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" (المؤمنون: 60)، فهم وإن كانوا يتقربون إلى الله بصنوف العبادات وألوان القربات، إلا أنهم مع ذلك خائفون وجِلُون أن تُرَدَّ عليهم أعمالهم، كان علي رضي الله عنه يقول: “كونوا لِقَبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: “إنما يتقبل الله من المتقين" (المائدة: 27). ومن أجل ذلك أَمَرَ الله حجَّاج بيته بأن يستغفروه عَقِبَ إفاضتهم من عرفة ومزدلفة، بعد أن وقفوا في أجلِّ المواقف وأعظمها فقال: “ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" (البقرة: 199).
وأخيراً - أخي الحاج-: يا من وقفت بِعرفات، وسكبت العبرات، وأظهرت الندم على ما فات، يا من أعتقه مولاه من النار، إياك أن تعود إلى ربقة الأوزار بعد أن تاب الله عليك منها، إياك أن تقترب من النار بعد أن أعتقك الله منها. اعقد النية وجدد العزم واحرص على أن يكون حجك نقطة تحول في حياتك، وحاسب نفسك، وانظر ما هي آثار الحج على قلبك وسلوكك وأقوالك وأفعالك، داوم على العمل الصالح ولو كان قليلا، فإن القليلَ الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع، واعلم أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، وافتح صفحة جديدة من حياتك مع مولاك. نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعل حجك مبروراً، وذنبك مغفوراً، وسعيك مشكوراً، وأن يتقبل منا ومنك صالح الأعمال، ويرزقنا الثبات والاستقامة حتى الممات.
جبل الرماة
جبل صغير يقع شمال المسجد النبوي على بعد نحو ثلاثة كيلو مترات منه. وهو الجبل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة أن يتمركزوا فيه في غزوة أحد، وكان عددهم خمسين رجلا، ليحموا ظهور المسلمين من تسلل المشركين. لكنهم خالفوا أمره ظنا منهم أن المعركة قد انتهت، فاستغل المشركون خلو الجبل من الرماة فحملوا على المسلمين فقتلوا منهم عددًا كبيرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واسم جبل الرماة جبل عينين، لكن بعد حصول تلك الوقعة سمي بجبل الرماة.
وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: “جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير، فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن، قد بدت خلاخلهن وأسوقهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منا سبعين" رواه البخاري.
آداب زيارة المسجد النبوي
زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستحبة في أي وقت من أوقات العام سواء أكان ذلك قبل الحج أم بعده، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) رواه مسلم، وذلك لما لمسجده صلى الله عليه وسلم من فضيلة عظيمة حيث تضاعف العبادة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، وليست زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم شرطا لصحة الحج كما قد يظنه البعض.
فإذا توجه المسافر قاصد زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم فليكثر من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم في طريقه، وليستحضر في قلبه شرف المدينة، وأنها أفضل الأرض بعد مكة عند بعض العلماء، وعند بعضهم أفضلها مطلقا، فإذا وصل باب مسجده صلى الله عليه وسلم، فليقدم رجله اليمنى وليقل: “بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك"، كما يقول ذلك عند دخول سائر المساجد.
ثم يصلي ركعتين تحية المسجد، والأفضل أن تكونا في الروضة الشريفة، دون إيذاء للآخرين، وموضع الروضة ما بين منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجرته، لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)، ويدعو فيهما بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وأما صلاة الفريضة فينبغي للزائر وغيره أن يحافظ عليها في الصفوف الأولى.
وبعد الصلاة يذهب لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه -أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما، فيقف مواجها القبر الشريف، مستحضرا في قلبه جلالة ومنزلة من هو بحضرته، ثم يسلم، قائلاً: “السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته"، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي صيغة من صيغ الصلاة عليه، كأن يقول: “اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وإن قال: “أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، فلا بأس بذلك، لأن ذلك كله من أوصافه عليه الصلاة والسلام.
ثم يتنحى إلى يمينه قليلا فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه قائلا: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار، جزاك الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ثم يتنحى إلى يمينه أيضاً فيسلم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلا: السلام عليك يا عمر الذي أعزّ الله به الإسلام، جزاك الله عن أمة نبيه صلى الله عليه وسلم خيرا، ويدعو لهما ويترضى عنهما، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لا يزيد على قوله: “السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. ثم ينصرف" رواه البيهقي. وليس ما ذكرناه من صيغ السلام نصاً لازما، فلو سلم بأي صيغة فيها صفته أجزأه.
ويكره للزائر أن يرفع صوته رفعا فاحشا عند القبر بالسلام، لأن ذلك ينافي الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال تعالى: “يا أيها الذي آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون" (الحجرات: 2)، ولا يشرع للزائر استقبال القبر عند الدعاء فإن ذلك خلاف ما كان عليه السلف رضي الله عنهم، وإنما يستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويمجده ويدعو لنفسه بما شاء ولوالديه، ومن شاء من أقاربه ومشايخه وإخوانه وسائر المسلمين.
ولا يجوز سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاء الحوائج أو تفريج الكروب، أو نحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله سبحانه.
وينبغي للزائر أن يحرص على أداء الصلوات الخمس في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، وأن يغتنم وقته بالإكثار من الذكر والدعاء وصلاة النافلة، لما في ذلك من الأجر الجزيل.
ويسن له زيارة مسجد قباء والصلاة فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له أجر عمرة)، ويسنّ له أيضاً زيارة البقيع، وقبور شهداء أحد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورهم ويدعو لهم، وليتذكر العبد الآخرة، ويدعو بالدعاء المأثور: “السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية".
![if gt IE 6]
![endif]
Tweet
المفضلة
إرسال إلى صديق
المشاهدات: 6
إقرأ أيضا:
* أخطاء في يوم عرفة
* حديث فضل يوم عرفة
* أحكام العيد وآدابه
* وفديناه بذبح عظيم
التعليقات (0)
إظهار/إخفاء التعليقات
إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات
أضف تعليق
الإسم
البريد الإلكتروني


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)