الجزائر

مئة وخمسون عاماً على تأسيس الجامعة الأميركيّة في بيروت



مئة وخمسون عاماً على تأسيس الجامعة الأميركيّة في بيروت
لمناسبة مرور قرن ونصف قرن على تأسيس الكلية السورية الإنجيلية، الجامعة الأميركية في بيروت، يجدر التوقف أمام القيم الأيديولوجية التي يمثّلها هذا الصرح العلمي والثقافي، والتي تشكّل في جانب منها استثناء في التاريخ العربي، بخاصة في هذا الزمن العربي البائس، زمن الانغلاق على اليقينيات الدوغمائية، الطائفية والمذهبية والأيديولوجية، والتوجّه المحموم الى رفض الآخر وتكفيره، وصولاً الى إلغائه واستئصاله في شتى الأشكال، حيث يحضر قول القس دانيال بلسّ في حفل تأسيس الكلية: ”إن هذه الكلية هي لكل الأحوال ولكل أنواع البشر من دون أي اعتبار للون أو القومية أو الجنس أو الدين. فيمكن أي رجل أبيض كان أو أسود أو أصفر، مسيحياً كان أو يهودياً أو مسلماً أو وثنياً أن يدخل الكلية ويتمتع بكل ما يمكن أن تسديه من نفع، ثم يخرج منها مؤمناً بإله واحد او بآلهة كثيرة أو غير مؤمن بأي إله. غير أنه يستحيل على أحد أن يبقى عندنا طويلاً من دون أن يعلم ما نؤمن بأنه حق والأسباب التي تدعونا الى ذلك الإيمان”.جاء هذا الرأي صادماً لعقل عربي وقف على الدوام موقف التشكيك أو الرفض والتكفير إزاء الرأي الآخر، باعتبار أن كل نقد إنما يندرج في إطار البدعة المهدّدة للأمة أو العقيدة أو الطائفة أو المذهب. فالعقل العربي لم يتقبل الآخر أو يعترف به كجانب أساسي من البنية الفكرية أو الثقافية العربية، ومحرك لديناميتها وإبداعها، وقد أدرج كل ”رأي آخر” في خانة الكفر أو المؤامرة على المجتمع والأمة.كانت هذه مسيرة التاريخ العربي منذ نكبة المعتزلة ومحنة ابن رشد الى اغتيال أسعد الشدياق وتشريد أخيه فارس، الى اغتيال جبرائيل دلال وعبدالرحمن الكواكبي وتكفير طه حسين، الى اغتيال فرج الله الحلو وكامل مروة وكمال الحاج ومهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة، الى تكفير نصر حامد أبو زيد ونفيه. لقد كانت هنالك دائماً مواجهة مأسوية محكوم أبطالها سلفاً، إما بالانتحار، وإما بالموت الروحي نفياً وعزلاً وتهميشاً، أو اعتذاراً وتراجعاً وانكفاء، فثمة مرجعية متسلّطة ضاغطة، تراثية أو مذهبية أو طائفية أو أيديولوجية تنتصر في النهاية وإن بدا أن في الإمكان زحزحتها أو اختراقها وتكييفها. هكذا لم يكن من السهل تاريخياً ولوج الفلسفة الى الفكر العربي لما طرحته من أفكار وآراء مختلفة، فاقتضى دخولها الى التراث العربي متلبّسة بالطب أو الرياضيات أو الهندسة كي يتم قبولها وإدماجها، لا كمختلف متعارض، بل كمؤتلف متسق مع العقل السائد. وعليه، بدأت الفلسفة العربية من خلال توفيق وتلفيق بين التراث والعقلانية اليونانية، بما يبدو في النهاية انتصاراً للمرجعية التراثية وتبريراً لها على رغم كل ما يتراءى عكس ذلك. وإذا تجاوز العقل ”حدوده”، كان ثمة ما يتربّص به من المحن والتنكيل، ما يكفل إعادته الى المرجعية السائدة والمهيمنة ويضيع تمرّده هباء، ولنا في محن الفلاسفة العرب ومآسيهم صورة قاتمة لمعاناة شاقة مع الاستبداد المرجعي ما فتئت أصداؤها تتردد جيلاً بعد جيل.في هذا السياق، حاول بعض المفكرين النهضويين والمعاصرين العرب الخروج على الأيديولوجيا السائدة، فبلغ طه حسين حداً كبيراً في تحدّي المرجعية التراثية، إذ دعا الى اقتباس الحضارة الأوروبية كاملة، لنشعر كما يشعر الأوروبي ونعمل كما يعمل ونعرف الحياة كما يعرفها، وذهب زكي نجيب محمود بعيداً في تبنّي الوضعية المنطقية التجريبية. إلا أن حسين ومحمود لم يلبثا أن انكفآ معتذرين الى كنف التراث ورحابه يلازمهما شعور بالذنب بعد خروجهما المرحلي والعابر على المرجعية التراثية التي شدّتهما في النهاية وبدّدت ثورتهما، شأن أكثر المفكرين العرب. لقد تعالت في العالم العربي منذ نهاية القرن الماضي والى الآن، على رغم التوجه العالمي نحو الخيار الديموقراطي، الأصوات الداعية الى الخطاب السياسي الواحد والأيديولوجيا الواحدة والتفسير الآحادي للمعتقد الديني، في محاولة لتكريس آحادية الرأي والتفكير وإسقاط مشروعية الرأي الآخر إسقاطاً كاملاً، ولم يكن هذا دأب الأصولية الدينية وحدها، بل ميزة عامة للحراك الأيديولوجي السياسي.هذه الحالة ما هي في الحقيقة وفي خلفياتها البعيدة إلا تعبير عن استبداد الروح السلطوية المتحكمة بالعقل العربي والإنسان العربي عبر وسائط متعددة، هي التراث أحياناً وهي الأيديولوجيا الطائفية أو القبلية أو الحزبية أو القومية أحياناً أخرى. فالمرجعية السلطوية هي هي سواء داخل القبيلة أو المذهب أو الحزب أو الجماعة، وهي هي أساس تقديس الذات ورفض الآخر وتكفيره. ومن هنا بالذات، يجب أن نقرأ أبعاد خطاب بلسّ ودلالاته باعتباره خروجاً على منطق التاريخ العربي وتأسيساً لفكر جديد وتوجّه جديد ورؤية جديدة لم يكتب لها الانتصار ولا تزال في إطار اللامفكر فيه في تاريخنا. صحيح أن الكلية السورية الإنجيلية لم تتجه دائماً في الاتجاه الذي تصوّره بلسّ، بل إنها في ثمانينات القرن التاسع عشر عملت على قمع الاتجاه الدارويني الذي تبناه بعض أساتذتها وطلابها، إلا أن الفكر الذي عُبر عنه في خطاب بلسّ، يبقى نقطة مضيئة في تاريخنا يجب أن تستحضر وتستلهم كلما أقفلت نوافذ الحرية وادلهمّ ظلام الأصولية والاستبداد.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)