الجزائر

مؤسسة الشيخ فضيل الورتلاني.. غابت أم غُيِّبت؟



تزخرُ الساحة الوطنية بالكثير من الهيئات والمؤسسات والمراكز والجمعيات، غير أن قلة منها فقط هي التي تعمل وتقدّم ما أمكن من المنجزات المفيدة والمهمة في الميدان، ومن بين تلك الهيئات ما سُميّ باسم "مؤسسة" كمؤسسة الأمير عبد القادر، ومؤسسة مفدي زكريا، ومؤسسة العلامة عبد الحميد ابن باديس، ومؤسسة الشيخ بوعمامة…والملاحظ في الميدان أن بعضا من تلك المؤسسات تشتغل بوتيرة جيدة، وتسهم في إحياء القيّم الدينية والثقافية والاجتماعية في الفضائين الثقافي والاجتماعي الوطني، وهذا أمرٌ طيب بلا ريب.
لكن الملاحظ أيضا غياب واختفاء بعض تلك المؤسسات، ويعنيني هنا الإشارة بالذات إلى مؤسسة الفضيل الورتلاني، والتي تمّ الإعلان عن تأسيسها قبل أكثر من سبعة عشر عاما (جوان 2003).. لماذا تخلّفت هذه المؤسسة عن شقيقاتها الحاضرات في الميدان؟
عندما تم الإعلان عن هذه المؤسسة سنة 2003 كما سبق الذكر، ورد في خطاب التأسيس:
"أن بعث مؤسسة الشيخ الفضيل الورتلاني يأتي في أوانه، ليجسِّد وفاء الشعب الجزائري لرموز نهضته العلمية الحديثة ".. وأيضا قيل: إن هذا التأسيس "يندرج في إطار تثمين الفعل الحضاري الذي أدته جمعية العلماء" التي عنيت واهتمت دائما ب"تعميق خط الترشيد للعقول، والتزكية للنفوس، وتنقية القلوب، وتوحيد الصفوف".
وهذا كلامٌ صحيح وقويّ حقيقة.. يتفق تماما مع ما وُلدت المؤسسة لتحقيقه من أهداف، ومنها:
1- التعريف بشخصية الشيخ الفضيل الورتلاني وأعماله ومآثره
2- التعريف بالشخصيات الفكرية والعلمية الوطنية
3- العمل على تهيئة فضاء للتواصل الجاد والمثمر
4- المساهمة في الدعم الثقافي والعلمي للمؤسسات والهياكل ذات الطابع لثقافي والعلمي
5- تعمل المؤسسة على تشجيع البحث العلمي والتأليف والترجمة والنشر في الميادين الفكرية والعلمية
6- تعمل المؤسسة على تنظيم ملتقيات فكرية وعلمية وتاريخية على المستويين الوطني والدولي
7- تنشئ المؤسسة جائزة باسم الشيخ الفضيل الورتلاني تُمنح لكل عمل فكري أو علمي أو تاريخي أو أدبي للباحثين الجزائريين
8- تعمل المؤسسة على فتح فروع لها على المستوى الوطني، حسب الإمكانات المتوفرة.
وغير هذا من الأهداف المسطرة التي وردت في القانون الأساسي للمؤسسة والمنشور في كتاب (العالم المجاهد الجزائري والداعية الإسلامي الكبير الفضيل الورتلاني. ص 400 وما بعدها).
وقد غطى القانون الأساسي كل الأمور ذات الصلة بسير المؤسسة والتي أُنشئت كمؤسسة ثقافية وطنية تخضع لأحكام القانون 31/90 المؤرخ في 17 جمادى الأولى 1411 ه الموافق ل4ديسمبر1990.
الأسئلة هنا كثيرة ومتعددة ومزعجة أحيانا..
هل يليق بنا السكوت؟ ألا ينبغي أن نتساءل عن سبب غياب أو تغييب هذه المؤسسة؟ ومن يتحمّل المسؤولية؟ هل هم المؤسسون الأوائل لها؟ أم أن ثمة أسبابا في تعطّل المؤسسة عن أداء دورها؟ وما هي بالضبط؟ وهل لها علاقة بالسياسة، أو بكون الرجل ذا منهج ثوري، وهذا أمر ربّما لا يعجب البعض؟!
ثم ما هي مسؤوليتنا كمجتمع وكنخب، خاصة أعضاء جمعية العلماء المسلمين وقيادتها ومنتسبيها ودعاتها وأساتذتها؟.
إن الفضيل رحمة الله عليه رمز من رموز الجزائر البارزين الأكفاء الذين أدّوا ما عليهم، قبل أن يكون رمزا من رموز الجمعية، فهل أدينا ما علينا إزاءه؟ وما هو المطلوب بالضبط؟
إن فضيلة الوفاء تقتضي وجوبا العمل على إحياء هذه المؤسسة إكراما لصاحبها المجاهد الفذّ، والداعية المقتدر، والشخصية الإسلامية المتميزة التي تركت بصماتها واضحة في مسار دعوي وإصلاحي غاية في القوة والاقتدار، امتدّ على مدار أكثر من أربعين عاما في الجهاد الدعوي الثقافي الديني، منذ أن كان رفيقا للشيخ الإمام ابن باديس يسافر معه ويغطّي ككاتب وصحفي تنقّلاته ويرسم أفق الجهاد الفكري والديني العميق الذي عمل ابن باديس على إعطائه قوة وتأثيرا وزكاء ووفرة من روحه الزكية الطاهرة، ونفسَه الإيماني الجليل.. إلى أن انتقل الفضيل إلى فرنسا فأحيا بها مع إخوانه الحركة الإيمانية والإصلاحية هناك، ثم انتقاله مرة إلى مصر؛ وبعدها إلى اليمن.
هذه الشخصية المتميزة الاستثنائية الفضيل الوتلاني دعنا نتعرّف على غير ما هو معروف عنه ولنستكشف ذلك من العلامة الإبراهيمي.
وصف الشيخ الإبراهيمي الفضيل رحمة الله عليهم جميعا في رسالة كتبها لابنه مسعود نيابة عن أبيه (والرسالة بالمناسبة وثيقة ثمينة أحسبُ أن على الأجيال قراءتها والاستفادة منها، وسننشرها لاحقا بحول الله)..
كتب الإمام الإبراهيمي معرّفا بالفضيل ، داعيا ابنه إلى الاقتداء به إذا أراد أن يكون رجلا حقا:
"… إنه (أي الفضيل) ما وصل إلى هذه الدرجة إلا بجهد صيّره يقطع مراحل التعليم في سنة ما يقطعه نظراؤه في سنوات، وإنه لم يضيّع الدقائق، فضلا عن الساعات، فضلا عن الأيام والشهور، في اللعب
واللهو، وإنما كان يتعب حيث يستريح الناس، ويسهر حيث ينامون، وكان يتعهد القرآن تلاوة وتفهّما حتى حفظه وحافظ عليه إلى الآن، وتلك إحدى مناقبه التي يعجب بها الشرقيون منه ويُكبِرونه لأجلها، وكان في كل راحة من راحات الصيف التي يقضيها غيرُه في الاستجمام المفضي إلى النسيان، يقضي هو تلك العطلة في ختم كتاب من كتب العلم كالرسالة، والألفية، مطالعة واستذكارا وتفهّما، وكان يجمع الشوارد من الآيات والأحاديث والحكَم والشعر، ويصنف أنواعها لتكون مادته في الخطابة والاستشهاد، كل شاردة في محلها وموضوعها، وبذلك أصبح خطيبا مفوَّها في الدين والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وكانت حالته المادية تسوّغ له أن يعيش مدلّلا؛ لأن نصيبه من إرث أبيه يعدّ ثروة، ولكنه آثر عيشة الخشونة ليتفرَّغ إلى تكميل نفسه بالعلم، ولينقطع إلى قطع مراحل الكمال الروحي في أقل زمن، ولا تزال آثار تلك التربية الخشنة التي أخذ بها نفسه ظاهرة عليه إلى الآن" (المجاهد الورتلاني ص 392).
هذا هو الفضيل القارئ الحافظ لكتاب الله، العصامي الذي كوّن نفسه، وقادها إلى المعالي بإرادته وقوة عزيمته، الذي مال إلى الآخرة وترك الدنيا، وقدم ما قدم لدينه ووطنه وأمته..
فحرام علينا أن نضيّع رجلا كهذا وميراثا كهذا.. وقدوة كهذا.. والمسؤولية تقع علينا جميعا، وأقل ما يمكن هو متابعة شأن هذه المؤسسة والعمل على بعثها من جديد لتكون رافدا من روافد الإصلاح والدّعوة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)