التجسس على جيش التحرير الوطني استراتيجية ثابتة لدى القوات الفرنسية، فقد تمكنت من نسج شبكات في مختلف مفاصل الثورة بدرجات متفاوتة، وقد تختلف الوسائل عند هاته الشبكات لكن يبقى الهدف واحدا وهو إجهاض الثورة التحريرية.
والولاية الرابعة كانت من أكبر المستهدفين في هاته العمليات، لأن إفشال الثورة بهاته المنطقة يعني بكل بساطة شل الثورة التحريرية بشكل كامل بشهادة القادة الفرنسيين ذاتهم، نظرا لشساعة مناطق نفوذها وشراسة المعارك بها، فضلا عن موقعها الاستراتيجي .
وفيما يتعلق بتاريخ نشأة هاته الخلايا التجسسية المندسة بهاته الولاية، يكشف أحد قادتها النقيب صايكي بأن تاريخ تأسيسها يعود إلى ما بين 1956 و1957 وتهدف آنذاك إلى تدمير خلايا الجيش والجبهة، ويضيف أن الولاية الرابعة تلقت سنة 1957 مراسلة من قيادة العلميات الحربية COM تخبرها بوجود شبكة تجسس تسمى حامية تعمل لصالح العدو.
أما مصطفى بن عمر، وهو الآخر من إطارات الرابعة، فيذكر في مذكراته أن بن الشريف وخلال اجتماع ترأسه سي محمد بوڤرة كشف عن وجود اتصالات بين مسؤولين محليين لجبهة التحريري الوطني والجيش الفرنسي في منطقة العمارية سنة 1956 بالولاية الرابعة.
عميروش يحذر وديغول يناور
في 23 أكتوبر 1958 عقد الجنرال ديغول ندوة صحفية تلفظ خلالها لأول مرة بسلم الشجعان، حيث توجه إلى المجاهدين قائلا (على الذين بدؤوا القتال أن يوقفوه... وعليهم أن يعودوا إلى عائلاتهم وعلى قادتهم أن يتصلوا بقادتنا العسكريين برفع الراية البيضاء.. أما أعضاء المنظمة الخارجية للثورة فما عليهم إلا أن يتوجهوا إلى سفارة فرنسا في تونس أو الرباط كي نضمن نقلهم إلى فرنسا ليبحثوا شروط الاستسلام في النطاق الفرنسي).(1)
قبل هذا الإعلان، كان العقيد عميروش على علم بمؤامرات ديغول التي يقودها ليجي وڤودار، فقام بإرسال برقية إلى الولاية الثانية بتاريخ 03 أوت 1958(2)، يحذر من خلالها من وجود مؤامرة لها امتداداتها بتونس والمغرب، ويذكر أن الولاية الرابعة قد تم إغراقها بالمندسين، كما قام بمراسلة الولايات الأخرى حول نفس الموضوع، وكشف أن أهداف هؤلاء المندسين العمل على فصل الداخل عن الخارج.
وحين اجتمع عقداء الداخل في مؤتمر ديسمبر 1958، بالطاهير، كانت مؤامرة المندسين أو ما يسمى "بلويت" من صميم انشغالات عميروش، حيث قام بعرض نتيجة التحقيقات التي قام بها وأهداف المندسين وتشكيلاتهم ووسائلهم، لكن رغم ذلك لم يقتنع بعض القادة الحاضرين بما جاء به ومن بينهم امحمد بوڤرة قائد الولاية الرابعة.
من الذين اعتنقوا عقيدة سلم الشجعان حسب البشاغا بوعلام، هناك مسؤول سياسي بمنطقة الشلف يسمى حربيا بخالد، وهو أحد الطلبة الذين التحقوا بالثورة عقب اضراب 19 مارس 1956، وإذ كان طالبا بالسنة الثانية علوم سياسية، تمكن من التدرج في المسؤوليات إلى أن أصبح مسؤولا سياسيا في منطقة الونشريس، وفي أواخر 1958 اتصل بالباشاغا بوعلام وأبدى استعداده للقبول بسلم الشجعان، وأعلن عن ثقته في دوغول.
أول لقاء جمعه بالباشاغا كان في مكان يسمى ذراع سعود، إذ طلب من هذا الأخير ترتيب لقاء له مع القادة العسكريين الفرنسيين، وسعى بوعلام الباشاغا إلى ربط اتصال له مع الجنرال غراسيو GRACIEU القائد العسكري لمنطقة الونشريس، فلم يتمكن من هذا الأخير، وبالتالي رتب له لقاء مع أحد النقباء الفرنسيين الذي التقى بخالد، ومما صرح به خالد خلال اللقاء عدم جدوى الكفاح المسلح أمام دعوة ديغول سلم الشجعان، وأضاف زاعما أنه يضمن لهم الانضمام الكلي لجنود الرابعة، وقد جاء ليدرس مصير المجاهدين بعد الاستسلام، ويطلع على الضمانات التي يقدمونها كي لا يعاملوا معاملة سيئة أو يسجنوا، وألا يتابعوا في المستقبل بتهمة الانضمام إلى المجاهدين.
كما طلب خالد تمكينهم من العودة إلى مواطنهم إن أرادوا الحياة المدنية، وإن أرادوا الحياة العسكرية يتم إدماجهم في الجيش الفرنسي، وأضاف البشاغا بأن خالد ادعى بأنه سيضمن استسلام 5000 مقاتل، ولديه أتباع في الولاية الثالثة. صرح النقيب الفرنسي عقب هذا اللقاء بأن القرار يتجاوز صلاحياته، وأرجا الموضوع إلى لقاء لاحق.
التحقيقات التي كان يقوم بها عميروش وأتباعه حول شبكات الجوسسة مكنت من الوصول إلى خالد الذي اعترف حين استنطاقه بوجود 50 شخصا معه تم توقيفهم.
سي امحمد بوڤرة ينجو من الاغتيال
واعترف خالد من خلال محضر التحقيق معه المؤرخ بتاريخ 20 مارس 1959 بوجود مخطط لاغتيال سي محمد بوڤرة ليتم بعدها التمكين للمثقفين من الترقية وإجراء مفاوضات مع فرنسا، كما أضاف أن هؤلاء سيقومون بنضال سياسي على شاكلة بورقيبة للوصول إلى الحل السياسي، مدعيا أن أوصديق معهم في الطرح إذ ما فتئ يردد-حسب قوله-: "لقد خسرنا الكثير ويجب أن يكون هناك حل بين الاستقلال والوضع الراهن".
و تطابقت اعترافات خالد مع اعترافات أحد الموقوفين يدعى كهفار، وهو مندوب الرابعة بالجزائر العاصمة، الذي كشف هو الآخر عن وجود مخطط لتغيير قيادة الرابعة بدعوى تمكين المثقفين من الوصول إلى السلطة.
بمطلع سنة 1959 تعرض العقيد سي امحمد إلى محاولة اغتيال حين كان متواجدا بالمنطقة الثانية (المدية) فخلال استعراض لأحد الفيالق، قام أحد الجنود بتصويب رشاش نحو العقيد بوڤرة لتصفيته، فانقض عليه زملاؤه وحالوا دون تنفيذه للعملية، وحين استنطاقه اعترف بنيته قتل العقيد تنفيذا لأوامر المسؤولين الذي يعمل معهم، وبدأ في سرد الأسماء.
كانت هاته الأمور من العوامل التي جعلت سي امحمد يقتنع بوجود المؤامرة التي حذر منها عميروش، إذ أرسل رسالة بتاريخ 18 مارس إلى الحكومة المؤقتة، جاء فيها "لقد اكتشفنا مؤامرة ممتدة إلى الولايات الأخرى، وقد فككنا هاته المؤامرة قطعة قطعة، وهي المؤامرة التي نسجها المستعمر في الظلام، وبعد ستة أشهر من التحريات ها قد جاءت ساعة المرور إلى العمل لتحطيم حفنة العملاء الذين يخدمون فرنسا" كما قام بإرسال رسالة بتاريخ: 19 / 03 / 59 اتهم من خلالها أوصديق المدعو الطيب بضلوعه في المؤامرة.
لكن أو صديق الذي كان ضد التصفيات التي يقوم بها عميروش، وحين وصل إلى تونس ولم تقتنع الحكومة بالاتهامات الموجهة إليه، وبرأت ساحته وبما أنه يحضى بدعم كريم فقد أصبح كاتب دولة في الحكومة المؤقتة.
ومن جهة عميروش، كان قد أرسل برقية إلى وزارة القوات المسلحة بتاريخ: 19 جانفي 1959 حول الولاية الرابعة جاء فيها "إن الوضعية خطيرة، وإن عز الدين سجن من طرف العدو خلال عملية تمشيط، وبعد أيام أطلق سراحه بدعوى أنه فر... إن الحكومة الفرنسية تبحث عن اتصالات مع مسؤولين بالداخل للتفاوض وتهميش مسؤولي الخارج".
مساعي السلطة الفرنسية لفصل الداخل عن الخارج
البحث عن محاورين من الداخل يؤكده المقربون من ديغول، ومنهم الجنرال ELY الذي يؤكد أن ديغول قال "يجب التفاوض مع الولايات، وبالتالي إقصاء الحكومة المؤقتة" وفي تصريح آخر ذكر نفس الجنرال بأن شال كان يتوقع بأن المفاوضات ستكون مع الولايات بالداخل مع إقصاء الحكومة.
ميشال دويري رئيس الوزراء هو الآخر صرح أمام الجمعية الوطنية بأن "هناك طريقان لإيقاف القتال، طريق مع المقاتلين في الداخل أو توقيف القتال العام في حالة ما اتفق على ذلك مع الهيئة الخارجية".
العقيد جاكين من جهته قال إن ديغول صرح "إذا تمكنا من الوصول الى انضمام احد القادة بالداخل، قائد ولاية مثلا، سنفشل فرحات عباس ومجموعته".
بين التخطيطات الفرنسية وتحذيرات عميروش
تمكن سي امحمد من الوصول إلى رؤوس المؤامرة، فعاشت الرابعة جحيما وأصبح الشك والتصفيات هاجسا دائما، ومما ضاعف الهموم استشهاد سي امحمد بوڤرة يوم 5 ماي 1959 بأولاد بوعشرة في ظروف غامضة، واستغل العدو غياب جثته ليزيد من ثورة الشك في صفوف المجاهدين، مروجا بأن موت سى امحمد جاءت في إطار تصفيات داخل الجيش ولم يبق من إطار الولاية الرابعة إلا سي امحمد بونعامة وصالح العائد من تونس في سنة 1958 وهو محبط من الأوضاع التي عايشها بتونس حيث كان جد متأثر باغتيال رمضان، إذ كان أول من حمل نبأ هذا الاغتيال إلى قادة الداخل، وظل يروج ذلك بكثرة الى درجة أن تم تدوين تصرحاته في محضر بتاريخ: 27 / 11 / 1958 ممضي من طرف العقيدين كافي وعميروش جاء فيه: تستغرب هيئة الأخ صالح والضجة التي أثارها حين عودته من تونس، ويؤكد نفس التقرير أن صالح تلقى رسالة من الصاغ الثاني أوعمران مؤكدا مقتل عبان رمضان وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية، وقد فات وقت عمل أي شيء لصالح عبان، ولعل ما عاشه صالح بتونس وما وجد عليه رفقاءه بالرابعة، فضلا عن العمليات العسكرية الفرنسية المتتالية، جعلت صالح يعيش أياما صعبة.
بين الرابعة والسادسة.. تصفيات واتهامات:
تداعيات ما يسمى بمؤامرة الزرق امتدت إلى المنطقة الممتدة من سور الغزلان الى سيدي عيسى فالبرواڤية، وهي المنطقة التي كانت تسمى بالأولى حين كانت تابعة للسادسة، ثم سميت بالمنطقة الخامسة لما تم ضمها للولاية الربعة فيما بعد.
هاته المنطقة شهدت أحداثا وتصفيات منذ اندلاع الثورة، حيث تم اغتيال علي ملاح المعين كقائد الولاية السادسة عقب مؤتمر الصومام، وبها انشق الشريف السعيدي ليشكل جيشا لصالح العدو بعد ان كان مجاهدا، وبعد ترسيم حدود الولاية السادسة وتعيين الحواس عقيدا سنة 1958، طلب هذا الأخير من سي امحمد ان يعين نقيبا يتولي قيادتها، وتم اقتراح أحد إطارات الرابعة يدعى عبد اللطيف، لكن سي امحمد قال إنه سيدرس المسألة فيما بعد، ولعل سي الحواس كان مدركا لطبيعة المجاهدين في المنطقة وخصوصياتهم الاجتماعية، فضلا عن طبيعة الكفاح في المنطقة مقارنة بطبيعة الكفاح في المنطقة الصحراوية العارية من الأشجار وذات الجبال المكشوفة، وبالتالي استحسن أن يكون على رأس هاته المنطقة قائد من صلبها، ولذا اقترح عبد اللطيف، ولكن عدم استجابة سي امحمد جعل العقيد الحواس يعين الضابط علي بن المسعود كقائد للمنطقة، هذا الأخير صادف تعيينه بداية اكتشاف قضية المندسين، حيث شهدت هاته المنطقة تصفيات كبيرة، فحسب اعترافات أحد الأسرى للعدو وهو كاتب منطقة، فإن التصفيات بلغت حدود 200 شخص، وبأن الشك أصبح يسود جميع مستويات الجيش، وفي غمرة ثورة الشك كان رأس صالح مطلوبا كخائن، وحتى علي بن المعسود ذاته سعى الى إبلاغ قيادة الرابعة بأن سي صالح خائن قبل أن يتولى هذا الأخير قيادة الولاية الرابعة، حسب تصريحات الأسير للجيش الفرنسي.
في هاته الأثناء كان سي الحواس قد استشهد وتولى قيادة الولاية السادسة الطيب الجغلالي -امحمد- وهو في الأصل من القادة الأوائل للولاية الرابعة، ونائب عن سي الحواس حيت تولى هذا الأخير قيادة الولاية السادسة.
وبعد مدة قليلة، تمت تصفية الجغلالي مع رفقائه من طرف مسؤولي مناطق الولاية السادسة، وعن أسباب هذا الاغتيال يذكر الرائد عمر صخري احد قادة السادسة أن الضابط علي بن مسعود عثر على رسالة موجهة من رئيس بلدية شامبلا (العمارية حاليا) إلى الطيب الجغلالي، وبناء على ذلك تم توقيف الطيب واستنطاقه فاعترف خلال الاستنطاق بأنه بصدد التفاوض مع الفرنسيين من أجل الحصول على الحكم الذاتي، كما أضاف عمر صخري أن مخططا كان يحضر من اجل تشتيت قادة السادسة بإرسال شعباني الى تونس وآخرين الى خارج الولاية، واستبدالهم بمسؤولي من الرابعة ممن كانوا ضمن كوموندو الرابعة الذي كان متواجدا بالسادسة، وبالتالي تتم السيطرة على الولاية، يضيف صخرى بأنه عقب محاكمة الطيب الجغلالي تم إعداد تقرير مفصل أرسل الى القيادة العامة للجيش بالمغرب، وأرسل لها بواسطة احد المجاهدين يدعى بوكروشة، فضلا عن تبليغهما بالفون. أما قادة الرابعة ومنهم لخضر بورڤعة، فقد صرح بأن الرسالة موجهة من الطيب الجغلالي الى قادة الرابعة يوصيهم خيرا برئيس بلدية العمارية بحكم صداقة سابقة بينهما، وفيما يتعلق بكوموندو الرابعة، يضيف بأن تواجده كان بناء على قرارات مؤتمر قادة الداخل المنعقد في ديسمبر 1958 والذي يقضي بإرسال أفواج لدعم السادسة في محاربة المصاليين، رد فعل الرابعة على هذا الاغتيال تم بإلقاء القبض على بلمسعود في منطقة ديره وإعدامه، وفيما بعدها حوكم رفيقه محمد بلقاضي وأعدم بأمر من صالح في ديسمبر 1959، وتم بعدها ضم المنطقة الأولى من الولاية السادسة الى تراب الولاية الرابعة وسميت بالمنطقة الخامسة، بناء على برقية الأركان المتواجدة بالمغرب، بعض المصادر تشك في هاته البرقية وتعتبرها من نسج المخابرات الفرنسية، وبالتالي فإن ضلال سلم الشجعان وتداعيات مؤامرة الزرق كانت عاملا أساسيا في هاته التصفيات الدموية بين الولايتين.
1 - حسبة حمامي.. المستوطنون الأوربيون والثورة، ص 170.
2 - مذكرات علي كافي، ص 395.
Share on emailShare on facebookShare on twitterMore Sharing Services12
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 03/07/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : لمجد ناصر
المصدر : الشروق 2012/07/02