الزمن في مدينة ''نالوت'' الليبية كان يتوقف بالنسبة لي كصحفي أجنبي، في مدينة يهددها العقيد معمر القذافي بالقصف في أي لحظة باستعمال سلاح الجو، كما حدث في مدن أخرى كبنغازي وبريقة. كنت من وقت لآخر، أحاول الاتصال ببعض المعارضين لحكم القذافي في المدن الأخرى، إلا أن الاتصال عن طريق الهاتف المحمول استحال. وهو ما زاد من حدة الضغط والتوتر بين الصحفيين الأجانب
الذين دخلوا ''نالوت''، الواقعة تحت قبضة ثوار ليبيا، دون ترخيص أو إذن
من السلطات الدبلوماسية الموالية لمعمر القذافي.
أثناء إقامتي المحدودة في الأراضي الليبية، وبعد الحديث الذي دار مع الحميدي سعيد، الناطق باسم الثوار والانتفاضة الشعبية في مدينة نالوت بالجهة الغربية الجنوبية لليبيا، تم تحويلي بأمر من سعيد، قبل أذان المغرب، إلى إحدى العائلات المقيمة في سكنات شعبية بالقرب من السوق الشعبي والمحاذية للملعب الرياضي الكبير من ناحية يمين الطريق الرئيسي الذي يقطع المدينة، للمبيت عندها والتكفل بي إلى غاية توفير وسيلة نقل آمنة، وللاقتراب أكثـر من العاصمة طرابلس التي ما زالت تبعد عنا أكثـر من 170 كلم.
كانت استضافتي عند إحدى العائلات الليبية المقيمة بـ نالوت ، يدعى صاحبها بوعبدلي يوسف شاكر، حيث رحب بي أصحاب المنزل كثيرا، خاصة بعد علمهم بأنني جزائري. قال لي العم شاكر: أنتم الجزائريون حفدة بوعمامة والأمير عبد القادر، أنتم من سلالة المجاهدين والرجال .
كان منزل العم شاكر، الكائن بالقرب من السوق الشعبي، متواضعا، وهي السمة التي غلبت على بيوت العديد من الثوار وأصحاب الانتفاضة الشعبية. وحاول العم شاكر وأفراد عائلته التخفيف من روعي، وأن شيئا لن يحدث من تهديد القذافي بقصف المدن المتمردة، حسب رأيه.
قمت باغتنام فرصة تواجدي عند العائلة الليبية، لأسأل العم شاكر عن سبب ثورتهم ضد القذافي، وهم الشعب الوحيد في العالم، حسب ما يقول القذافي، الذي يأخذ حقه من العائدات البترولية دون بذل أي جهد، يجيب العم شاكر: هذا الذي تتحدث عنه استعبدنا لأكثـر من 42 سنة، إن أموال الدنيا كلها لا تساوي حرية الإنسان، لقد ذبح أبناءنا في سجن بوسليم، وطاردهم في كل مكان، وذنبهم الوحيد، حسب القذافي، هو أنهم زنادقة تمردوا على الأمة . ويضيف: القذافي سينال جزاءه آجلا أم عاجلا، أنا فقدت 3 من أبنائي طيلة حكم مسيلمة هذا العصر، قتل لي ولدين في سجن بوسليم في العاصمة طرابلس ظلما وعدوانا، وضحيت بالثالث خلال الثورة والجهاد المبارك الحالي .
كان الرجل يتحدث وهو جد متأثر، إلى درجة إجهاشه بالبكاء. يقول العم شاكر: دماء ابني الشهيد الثالث أحمد لم تجف بعد، وأنا مستعد للتضحية بكل أفراد عائلتي، نموت نحن وتحيا ثورتنا . وأضاف: سيلعن التاريخ كل من تواطأ مع العقيد القذافي أو خذل ملايين المسلمين الأبرياء الليبيين الذين أذاقهم معمر سوء العذاب، استحيا نساءهم وقتل أبناءهم في سجون ودهليز كتائب الأمن السرية، ويهددهم الآن بالإبادة الجماعية .
وحول وصول المساعدات من الدول الشقيقة كتونس والجزائر ومصر، فقال محدثنا: كما تعلمون، نحن في الجهة الغربية لليبيا، وأقرب بلد إلينا هو تونس، والحمد لله، تصلنا معونات طبية وأدوية، بل الأكثـر من ذلك فإن الإخوة الذين قدموا من الدول الأوروبية عرضوا أنفسهم للقتال معنا في حال إصدار قرار من القذافي يقضي بالهجوم على المدينة .
ساعات مع الثوار في دورياتهم لمطاردة المرتزقة
بعد صلاة العشاء، اتصلت بالمكلف بالتنسيق بين الثوار عن طريق الهاتف الجوال، لأعلمه برغبتي في الخروج مع مجموعات الشباب الليبي ومرافقته خلال الدوريات الليلية، سواء الراجلة منها أو حتى تلك التي يقومون بها على أطراف المدينة بواسطة السيارات، خاصة على مستوى الطريق الرئيسي ومداخل المدينة المفتوحة على الصحراء.
انتظرت قرابة نصف ساعة ليحضر الرجل، ويرافقني معه في السيارة على الطريق الرئيسي المعبد باتجاه التجمع السكني الكائن بشرق المدينة، والذي يبعد عنا بأقل من عشرين كيلومترا، مرورا بـ جبل نفوسة في الطريق الصحراوي، الخالي من أي حركة للبشر، والوصول أخيرا إلى مدينة الحواميد .
مع ابتعادنا عن مدينة نالوت ببضعة كيلومترات، سمعنا إطلاقا قويا للنار وتبادلا لإطلاق الرصاص، وبعدها قرر سعيد العودة إلى المدينة وتقصي الأمر أكثـر. ويضيف يقول: أعتقد أن الأمر يخص محاولة هجوم على المدينة من طرف الموالين والمرتزقة الأفارقة .
عاد سائق السيارة بسرعة كبيرة إلى وسط المدينة، حيث يتواجد أحد المستودعات تم اتخاذه كمقر للتنسيق، وكان خارج المقر عدد من الثوار بعضهم يحمل أسلحة رشاشة وآخرون بنادق للصيد، أما البعض الآخر فيحمل أسلحة بيضاء، كما اختلفت ألبستهم بين الزي المدني العادي وألبسة عسكرية لونها أخضر داكن، غير أن صفة كانت تجمعهم وهي الشارات المعلقة على أكتافهم، وتحمل ألوان الراية الليبية القديمة التي رفعت مع بداية الأحداث الجارية.
تقدم أحد الأشخاص لينادي على سعيد، وأعلمهم أن صوت إطلاق النار حدث بالقرب من الهضبة. ركبت السيارة ستايشن رفقة سعيد والآخرين، وكانوا مسلحين بأسلحة رشاشة كلاشنيكوف . وكان الظلام يخيم على أغلب شوارع المدينة بعد الانقطاع المتكرر للكهرباء، وكذا التخريب الذي طال الأعمدة الكهربائية، خلال الأيام الأولى من الانتفاضة.
في هذه الأثناء، وصلنا إلى المكان المحدد، وكان هناك انتشار كثيف للثوار، وكانوا كلهم ينادون بضرورة تقديم أنفسنا، ليجيبهم: أنا سعيد وينطق بكلمة السر. وبمجرد أن نطق بها سعيد حتى اقترب منا الثوار، وبادلونا التحية، ليسألوه عني، فيجيبهم هو: من إخواننا الجزائريين وليس من المرتزقة. بعدها يسأل سعيد عن الوضع، ويتلقى الرد من المكلف بحراسة النقطة: نحن ننتظر أن يرجع زملاؤنا من أسفل الهضبة ، ليقرر حينها الثوار التقدم إلى مكان إطلاق النار تحديدا، وتشكيل 3 مجموعات صغيرة مكونة من 5 أشخاص، للنزول إلى أسفل الهضبة، مع مراعاة كل الاحتياط من أي مباغتة والدخول في اشتباك مسلح مع المرتزقة وأفراد الأمن الموالين للقذافي ونظامه.
تقدمنا قرابة الـ500 متر، ليأتي نداء بأعلى صوت من أحد أفراد مجموعة الثوار التي نزلت أسفل الهضبة قبل وصولنا إلى نقطة التفتيش الأولى، وبعدها واصلنا التقدم، وكانت كل مجموعة تستعمل كاشفا ضوئيا محمولا. وبعدها اتضحت صورة القادمين باتجاهنا، لكن كان معهم شخصان ذوا بشرة سوداء يرتديان ملابس عسكرية خضراء، قال رئيس المجموعة التي قبضت عليهم: هؤلاء من المرتزقة الأفارقة ، بعدها تدخل سعيد وأخضعهما للتفتيش الجسدي المباشر والدقيق، ليعثـر على جواز سفر تشادي وآخر نيجري. طلبت من سعيد الحديث معهم، إلا أن الرجلين المقبوض عليهما، من شدة الخوف والرعب، كانا يتكلمان كلاما غير مفهوم من اللهجات الإفريقية، حاولت بعضا من الوقت معرفة حقيقة تواجدهما في منطقة صحراوية خالية وحملهما أسلحة رشاشة، إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، بسبب الحالة التي كانا عليها، إضافة إلى إصرار سعيد على نقلها إلى مركز الأمن بالمدينة لإخضاعهما للتحقيق من طرف بعض رجال الأمن الذين انحازوا للثورة.
الصحفيون الأجانب تجارة مربحة لمرتزقة القذافي ويباعون بـ1000 دينار
بعد هذه السلسة من الأحداث، كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا من ليلة أول أمس، ورغم ذلك لم أشعر بالتعب والإعياء أو حتى ضرورة الخلود إلى النوم. رجعت مع الدورية التي خرجت معها في السيارة إلى مقر التنسيق بين الثوار في المدينة، ليقدمني مرافقي سعيد إلى أحد المحامين الذي يعمل في العاصمة طرابلس، اسمه سامي أحمد النصر، هذا الأخير فاجأني خلال الحديث معه بقوله: أتعلم أن الصحفيين الأجانب يساوون سعرا كبيرا ومغريا لأسأله بدوري عن مغزى هذا الحديث، ويجبني: لو ألقى المرتزقة أو الموالون لمعمر القذافي القبض على صحفي، سيحولونه إلى سلعة للمتاجرة بها، وسيبيعونه، خاصة إذا دخل ليبيا دون إذن رسمي، للكتائب الأمنية مقابل 1000 دينار ليبي لكل شخص من المجموعة التي توقفك، وبعدها يأخذون منه اعترافات مكذوبة تحت التهديد بالسلاح، وربما حتى يجبرونه على الظهور في التلفزيون على أساس أنه جاسوس ومخرب مع المتمردين .
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/03/2011
مضاف من طرف : sofiane
صاحب المقال : ليبيا: مبعوث ''الخبر'' ياسين. ب
المصدر : www.elkhabar.com