وعلى الرغم من محاولات ترميم جدارها المهشم في السنوات العشر الأخيرة، إلا أن هذه المحاولات لم تأت بجديد يمكن أن يعيد للدبلوماسية الجزائرية وجهها الناصع البياض. ويكون الرئيس بومدين قد استلهم وغرف من دبلوماسية الثورة الجزائرية التي صنعت الحدث العالمي في الخمسينيات وبداية الستينيات، واستطاع توظيفها بحكمة في إيجاد مكانة متميزة للجزائر، بين أنشط الدبلوماسيات في مشهد عالمي، طبعه صعود دول فتية بعثت مع بزوغ فجر حالم، انبلج من ظلام استعمار ظالم ومدمر. قوة الدبلوماسية يومها وسر نجاحها، يكمن في استنادها إلى مبدإ راسخ في القيم الإنسانية الخالدة، وهي نصرة المظلوم، من خلال تبنّي تطلعات شعوب الأمم المسلوبة الحرية، في الانعتاق من ظلام الظلم والاستبداد، الذي سلطته القوى الاستعمارية التقليدية، أو ما كان يفضل الرئيس الراحل تسميته بـ'الامبريالية العالمية'. لقد جعل بومدين من الجزائر القاعدة الخلفية لكل ثوار العالم، ومن ثم فلا غرابة عندما نسمع زعيما ثوريا يقول: 'إذا كانت مكة قبلة للمسلمين، والفاتيكان قبلة للمسيحيين، فالجزائر هي قبلة الثوار في العالم'، ولعل في شهادة الزعيم الجنوب إفريقي، نيلسون مونديلا، الذي كان أحد نزلاء معسكرات التدريب في الجزائر، من أجل الإطاحة بنظام الأبرتايد، لؤلؤة ترصع صدر الدبلوماسية الجزائرية الصاعدة. ويتفق المؤرخون على أن الجزائر وإن كان ميل الدبلوماسية واضحا للدول الاشتراكية، أو ما كان يعرف بـ'الكتلة الشرقية' قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، إلا أن علاقاتها كانت متشعبة وممتدة لكل دول العالم، باستثناء دول بعينها، في مقدمتها فرنسا بسبب ماضيها الاستعماري الملطخ بدماء الجزائريين، ويكفي أنه لم يزرها رغم زيارة الرئيس الفرنسي السبق، فاليري جيسكار ديستان، للجزائر، وكذا المغرب التي تورّطت في انتهاك سيادة الوحدة الترابية للجزائر، بداية من 1963، وبالطبع، دولة الكيان الصهيوني، باعتباره مغتصب الحق الفلسطيني، بل وعمل بصدق من أجل شعاره المعروف 'الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة'، وشحذه لهمم أعضاء الصمود والتصدي. ويمكن قياس ثقل الدبلوماسية في عهد بومدين بالنجاح الذي حققته القضية الصحراوية في المحافل الدولية من احترام وتقدير وتعاطف، بالرغم من حداثة عهدها، منطلقا من اعتمادها من قبل الأمم المتحدة كقضية تصفية استعمار منذ 1664، وتجلّى ذلك من خلال اعتراف 98 دولة بـ'الجمهورية العربية الصحراوية' التي أعلنتها جبهة البوليساريو منتصف السبعينيات، وهو ما كان سببا مباشرا في انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، ثم الاتحاد الإفريقي. كانت مواقف الجزائر الخارجية، تعبّر بصدق عن شهامة الرجل وبعده العربي والإنساني، وتجسّد خطاباته النارية والارتجالية التي كانت تستبد بأسماع الجزائريين، ولعل الجميع يتذكر كيف انتفض وهبّ لمساعدة الدول العربية في الحروب العربية الإسرائيلية في 1967، وفي 1973 بالرجال والمال والسلاح، وكيف رافع في قلب الأمم المتحدة باللغة العربية من أجل نظام دولي جديد، يرفض اختزال العالم في صراع الحرب الباردة بين قطبي العالم أنذاك، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، ويعترف بحق 'الصغار' في العيش في كنف الحرية والعدالة واحترام الآخر وهو ما ناضل من أجله من خلال كتلة عدم الانحياز.
مازال جامع الأمير عبد القادر في قسنطينة، الأكبر على الإطلاق، وسيبقى الأجمل بهندسته ومرافقه العديدة، إلى أن يُبصر جامع الجزائر النور، وأنجز جامع الأمير عبد القادر بعد قصة بدأت برؤيا رآها الشيخ أحمد بن عبد الرحمان، أحد مؤسسي الجامع في بداية حكم بومدين، فراسل هواري بومدين عبر رسالة عادية، ولم يكن يظن أن الرئيس سيرد عليه.
وقال الشيخ عبد الرحمان، الذي جاوز سنه التسعين لـ'الشروق اليومي'، أنه كتب للرئيس بلغة فرنسية كلاما جاء فيه 'هل ترضى سيدي الرئيس أن يصلي أبناء بن باديس في الأرصفة في غياب المساجد، وقد رأيت في المنام أننا نبني جامعا عملاقا'، ولم يكن يتصور أن الرسالة تتحول إلى حقيقة، ويباشر بومدين في تطبيقها بالرد بالقول 'بل إننا قررنا أن نبني أكبر مسجد في الجزائر والمغرب العربي في عاصمة بن باديس'، ووضع فعلا حجر أساس الجامع الذي تطوّر إلى جامعة، رغم أن التسليم الحقيقي له لم يحدث إلا في عهد الشاذلي بن جديد. وعندما قرر والد الراحل هواري بوميدن، وقد تمكن ابنه محمد بوخروبة من حفظ القرآن، أن يرسله للدراسة في مدرسة الكتانية في قسنطينة، كان عمر الصغير محمد، قد بلغ 15 سنة، فوصل بومدين إلى قسنطينة، في الموسم الدراسي 47 /1948، حيث كانت مدرسة الكتانية تعجّ بعدد من الأساتذة. وأمضى بومدين أيام بؤس وعلم أيضا في قسنطينة، إلى أن قرر السفر إلى مصر مشيا على الأقدام في الفاتح من نوفمبر1951 من دون علم عائلته.
ولأن الحفيد يميل إلى جده، فإن بومدين أعاد الكرّة ولكن إلى القاهرة، بعد أن نهل من مدرسة الكتانية معظم العلوم الدينية والدنيوية، وتعلّم الرياضيات والعلوم الطبيعية، وبقيت ذكرياته في هذا الجامع المدرسة في مخيلته إلى أن توفي، والدليل على ذلك أنه برغم جلوسه على كرسي الرئاسة في جوان 1965، إلا أنه ظل وفيا لمعلمه في هذا الجامع، إذ دعاه إلى قصره الرئاسي، وسافر الحاج الطيب إلى الرئيس، حيث تكفل الراحل محمد الشريف مساعدية رفقة بومدين باستقباله، قبل أن يعود مكرّما إلى قسنطينة، التي اشتغل بها مديرا لإكمالية الكتانية إلى غاية تقاعده
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 26/12/2012
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : مصطفى صالحي/ لخضر رزاوي/ /ناصر/ محمد مسلم
المصدر : echourouk 26/12/2012