الجزائر

لغة الشعارات.. بعيدا عن كل تسييس



«.لم نخرج عن الحاكم .. خرجنا للبحث عن الحاكم.» يكفي هذا الشعار، تكفي عبارته التي نسجت على هذا النحو، لتعطي حقيقة الحراك في الجزائر. فهي ليست شعارا سياسيا كما عهده الناس، ينقل من مدونات الأحزاب، ويرسم على اللافتات بألوان مختلفة، ولا يصدقه أحد من الناس.وإنما هو شعار كتبه شخص على قطعة كرتون، ليعبر عن واقع يمتعض منه الشارع ويؤرقه.. واقع يحاول البعض أن يجعله مشدودا إلى فتاوى من مشيخة تعيش خارج الزمان، في قصور السلطان، فلا تصل إليها نسمات الحراك الشعبي الذي تماوج رياحه في الخارج يمنة ويسرة. فيفتي الشيخ بالتحريم، وهو يعتقد أنه يجنب الأمة مزالق الانهيار، ويجنبها مخازي التفتت والتشرذم. ولكنه في المقابل يقنع بالقليل مما يتساقط من مائدة السلطان وهو يعلم يقينا فساده وجوره وظلمة. ثم يخرج بهذه الفتوى لفيف من الشباب يرددونها، يخوفون الناس به، يذكرونهم بما آلت إليه تلك الدولة وذلك الشعب. فيصحح الشعار الفهم ويبين النية «خرجنا للبحث عن الحاكم» وشتان بين الموقفين.
فإذا كان هذا الشعار يتسم بالجد فقد أفصح عن وعي بالحاضر وما يضطرب فيه من أفكار وما تختلف فيه من مواقف. كما أنه كشف عن وعي ثقافي يتجاوز كل انتظارات الذين راهنوا على سطحية هذا الجيل وانغماسه في سفساف الأمور. فهاو الجيل يكتب الآن بلغته شعارا آخر قد لا يتفطن إليه النظام الفاسد سريعا، ولكنه في لغة الشباب ووعيهم يمثل بلاغة جديدة، حادة التعبير، شديدة الرمزية، بالغة التأثير. إنه يقول: «الشعب يريد ctrl + alt + suppr». إنها ثلاث حركات للمحو السريع، تأتي على صفحات مما كتبه النظام الفاسد، وما حاول به تبرير إخفاقاته المتوالية.
إنها لغة الجيل الجديد التي يكشف من خلالها عن مصادر معرفته وطرق تواصله ونوعية القيم التي يحملها في قلبه وعقله. لم يعد في حاجة إلى خطب رنانة تملأ أصواتها مكبرات الصوت في جموع بالساحات، وإنما جملة تكفي للتعبير عما يجيش في الصدور من إرادة للمحو، وفتح صفحة جديدة.
كذلك كان الشأن مع هذا الشعار، في لغة أخرى يعرفها الجزائري المريض الذي يتعاطى الأدوية بشكل دوري لأنه مصاب بالسكري أو ضغط الدم، أو غيره من الأدواء الأخرى.. يعرف جيدا أن الدواء ينقلب مضرا مهلكا إذا تجاوز مدة صلاحيته، فيكون بين يديه سما زعافا.. فكتب:«date de fabrication 28/04/1999—date de d'expiration 28/04/2019» وكتب آخر في قطعة كرتون..واستعمال الكرتون له دلالته في الحراك.. ويعني ذلك أنه فهم شخصي لا تمليه جهة من الجهات ولا حزب من الأحزاب. فهو رد فعل لواقع سياسي يتحول من مسيرة إلى أخرى.. وكأن الحوار بين الشعب والنظام يتم من خلال هذه اللوحات التي ترفع عاليا.. فقد غدت كل لافتة من قماش مكتوبة بالحاسوب لافتة مشكوك في أمرها، أو أنها تنتمي إلى جهة لها نفود ما.. كتب هذا الشخص: «لا لبناء سفينة جديدة بخشب قديم» إنها جملة تعريضية تُعَرِّض بكل محاولات النظام في استعانته بشخصيات من ماضيه أو منحاضره، يظن أنها لا تزال تمتلك شيئا من المصداقية والقبول لدى الشعب.. كالإبراهيمي، ولعممارة، وغيرهما ممن يخرجهما النظام في هذه الفترة ليعرضهما على الحراك الشعبي.. وتأتي العبارة في بلاغتها الشديدة لتصفهم جميعا بالخشب القديم الذي لم يعد صالحا لبناء السفن.. سفن العبور إلى بر أمان الجمهورية الثانية. إنهم خشب، ولغتهم خشب، بيد أنها لغة خشبية قديمة لم تعرف كيف تتخلص من تكلساتها القديمة، ولا كيف تتطهر من أساليبها التي رضعتها في كواليس المكائد والمؤامرات.. وكتب آخر، في عامية جزائرية واضحة يفهمها الجميع..: «ما نحرقوش للغربة.. نحرقولكم راسكم» أكيد أن من خط هذا الشعار على خلفية سوداء، شاب من الذين كانوا يفكرون في يوم من الأيام في مغادرة الوطن، ولكنه الساعة يغير من وجهة تفكيره.. وكلمة «نحرقولكم» تنزاح عن معنى الحرق المعروف إلى حرق آخر يتلف كل الفهم الذي كان النظام يظن أنه يعرفه عن هذا الجيل.. ستحترق الأدمغة وهي تحاول فهم حراك هؤلاء وفهم طبيعته، وفهم محركاته.. ستحترق الخلايا الرمادية وهي تحاول الإحاطة بما يجري ويحدث من حولها..
هذه اللغة التيحملتها الشعارات تحتاج إلى وقفات كثيرة، لا تكفي فيها حصافة أهل اللغة بقدر ما تنصر إلى معارف أخرى أثر صلة بعلم الجماهير والحراك الاجتماعي والنفسي...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)