الجزائر

لإيلاف القارئ



بقلم: منصف الوهايبي*
قد تكون الكتابة عند الشاعر فعل إبعاد والإبعاد هو دائما غير المدرك وغير الحاضر وغير الواعي. وهي بهذا الصنيع لا تهب نفسها كما هي في تجربة ظواهرية لحضور ما. والقارئ لا يرى عادة ما يقرأ وإنما منشوده أن يسمع معنى الشيء الذي أردا الشاعر المتكلم الغائب قوله.
والسؤال الذي لا ينفك يُطرح: هل مزية الكتابة إذن متوقفة على نفعيتها أو على نقل السمعي إلى مجال المرئي وتثبيته فحسب؟ أو قلب السمع بصرا بعبارة نقاد العرب القدماء.
إن المشكل هو معرفة المدى الذي تؤدي فيه الكتابة الفنية وظيفة النافع حقا إذ قد تلتمس في الكتابة تأثيرات خاصة قد تصمد وتستمكن وقد تندثر وتزول. ذلك أن تفسير الكتابة الفنية من منظور نفعي خالص ليس بالنافع المجدي فربما كان من مقاصد صاحبها أن يسمو بالكتابة إلى كمال مقسوم أو أن يحرز منها قوة يغالب بها قوى طبيعية أو غيبية عاتية أو يروضها بالقلم الموفق والحروف المسطورة.
إذن قد تخدعنا الكتابة وقد تموه علينا خاصة في نص لامألوف يتجاذبه قراؤه وقد يسترسلون مع نزعات النفس ونوازع التحيز فتتلون قراءاتهم بأمزجتهم وشتى المؤثرات التي ألمت بهم. وربما أسبغ كل على النص من نفسه وفاض. وربما قطعوا بهذا الصنيع علاقة بيننا وبين النص في منابته.
إن تخير الكتابة عند الشاعر لا يرجع إلى وظيفة النافع ولا إلى قيمة باطنة تستمدها الكتابة من طبيعتها الخاصة. وإذا كان في القول بالنفعية عند الشاعر الملتزم مثلا مقدار من الصحة فإن هذه النفعية وإن أعانتنا على تفسير الميل إلى الكتابة والأخذ بها في أطوار دون أخرى لا تكفي وحدها لتفسير الكتابة الفنية التي يستشعر القارئ صعوبة أو يجد عنتا في إيلافها أو إدراكها.
فليس بالمستغرب إذن أن ينهض الإدراك عنده على ربط هذا النوع من الكتابة بتجربة شعرية سابقة كما هو الشأن عادة في أي إدراك أدبي على نحو ما نجد عند قراء محمود درويش مثلا. وسواء كان التماثل قائما بين التجربتين أو لم يكن فإن إدرك القارئ ما كان ليستتب لولا الفروق التي استشعرها بين النص اللامألوف الذي هو فيه والنماذج السابقة عليه أو تلك التي لم تفارق مفهوم الشعر المعروف عنده. فمن الصعوبة إذن أن نبحث في الإدراك دونما بحث في العدول عما هو معروف أو في ما هو فرق وحيْد (بتسكين الياء) بين لامألوف ومألوف بما يسوق إلى القول إن الإدراك من حيث هو ارتباط بنمط من أنماط المعرفة لا يمكن إلا أن يجمع إدراك المختلف إلى إدراك المؤتلف. والسؤال هو كيف يتأدى هذا الإدراك أو الإجراء المعرفي في القراءة؟ وما الذي يترتب عليه عندما يتطلب القارئ هذا الغريب فيخفق ويحجز النص القراءة بدل أن تدركه القراءة؟
إن القراءة فعالية تستدعي قدرة على فك رموز المقروء أي امتصاص الرسالة المرموزة أو المشفرة حسب الاصطلاح الذائع فتحرير معناها فصياغتها نصا يمكن النفاذ إليه مثلما تستدعي ذاكرة القارئ في الآن ذاته. وهي ذاكرة تتكون من تجارب القارئ وخبرته وثقافته الخاصة ومن المصادر التي يكتشفها أثناء القراءة.
تستوقفنا في مدونة القراءة الشعرية العربية على تعدد القراء مقدرة على المقايسة قد تتفاوت قوة وضعفا من حيث إدراك المتناظرات والمتخالفات بين اللامألوف وما هو معروف مخزون في ذاكرة القارئ من شعر وكلام مأثور. ولكنها تكشف عن ملكات وخصائص فردية إذ يتعلق الأمر على ما أرجح بمنظور القارئ وثقافته والمؤثرات الفرنسية عند المغاربيين عامة ليست مثلا كالمؤثرات الأنجلو سكسونية عند المشارقيين عامة. وقد يذهب في الظن أن أصل التجارب المخزونة عند هؤلاء القراء المختلفين لا يمكن إلا أن يكون فرديا خالصا أو هو ليس متماثلا وليس الأمر على هذا النحو في مدونة القراءة التي نحن فيها فالاستذكار أو الاستظهار مشترك بينهم جميعا حتى وإن تفاوت القراء فيه وتباينوا.
ولعل المتماثل عندهم هو عزوفهم عن هوامل النص أو شوارده وكأنها مما يدرك سجية أو على البديهة من غير تفكر وروية أو من سياق النص. وهي من ثمة تنضوي إلى عناصر أو وحدات مقيدة مقيسة على الرغم من أنها قد تكون موسومة بالغرابة صورة ومعنى أو لفظا وتركيبا.
كيف يرى القارئ هذا الغريب اللامألوف ؟ وكيف يمكن تعرفه والتحقق منه؟ والحق أنا لست متأكدا ما إذا كان مصطلح Reconnaissance الفرنسي يناسب المصطلح الإنكليزي Recognition. ولعل الأقرب إلى الصواب هو الاختيار بين Reconnaissance التي يمكن أن تُحمل على معان مثل التعرف والاستكشاف والتحقق والاستطلاع وIdentification التي يمكن أن تحمل على المماثلة أو المطابقة أو التماهي أو ما يسميه الفلاسفة التكنه أي تحقق الذاتية.
أقول هذا لأن الأمر أشبه ما يكون بال Punctum أي نقطة الكثب أو القرب فكلما دفع بها القارئ إلى حكم قيمي اضطربت الرؤية واختلطت وكفت عن أن تكون واضحة مميزة. ولا فرق في هذا بين القراء سواء استوصلوا النص بمألوف الشعر تمحلا واعتسافا أو نشدوا شوارده وطلبوا ضواله على طرائق الشعر المألوفة أو المعهودة فقيدوا حدوثه بحدوث سابق عليه بل لعل قراءة المعترضين أن تكون أنم على تجربة خاصة يخوضها قارئ مشدوه مستغرب سواء استساغ بعض هذا الشعر أو تجافى عنه. إن الإدراك يجري إذن على أساس من مقايسة بين حدوث غير معروف أو غير سائغ عند طائفة وحدوث معروف عند طائفة أخرى أو أن القياس يطلقه . وأرجح أن مقايسة كهذه دليل على أن القراءة تصطنع ترسيمة خفية لما تعده أظهر خصائص هذا الشعر ولا نملك ها هنا إلا أن نتساءل ما إذا كانت هذه القراءة تبرز حقا الخصائص الأعمق في الشعر أم هي تقتطف الكلام وتحتفظ منه ب مجمل القول المميز الموجود في النص أو المستخلص منه ثم تستظهر به من حيث هو مملوك الشاعر وخصائص طريقته؟
الجواب الذي أثبته بشيء من الاحتراز أن ترسيمة كهذه تستأنس بالسمات المهيمنة في الشعر تبني القراءة على إيلاف النص والأنس به ولكن بدون أن تحيط به في كليته. واختزاله في ظواهر بعينها لا يمكن إلا أن يجعل إدراك النص إدراكا متقطعا وقراءته قراءة مقتضبة ولا نخالنا نجانب الصواب إذا نعتناها بالقراءة البلاغية التجزيئية.
يمكن بناء على ما تقدم أن نتميز نمطين من القراءة: قراءة التعرف وقراءة الإيلاف (من آلفتُ الشيء أولفه إيلافا كما في سورة قريش على اختلاف قرائها هي أيضا إذ كان منهم من قرأ إلافهم بغير ياء مقصورة الألف و إلْفهُم ).
وهي قراءة تقوم على تعرف النص والتحقق منه من خلال المماثلة بينه وبين نص آخر حينا كلما وشج القارئ قرابته بهما ومن خلال المباينة حينا. وفي الحالين كليهما يفقد النص صورته ليتخذ صورة القارئ.. ولا فرق في هذا بين قارئ وآخر فالمعنى الباطن الذي ينشده هذا أو ذاك في النص الغريب هو المعنى الخفي المستتر أي هو دلالة منجزة ما على القارئ إلا اكتشافها بواسطة نصوص وروايات يدفع بعضها بعضا. والقراءة بهذا المعنى قراءة حافة بالنص لا يصدر صاحبها في تأويل الغريب عن منطق النص وإنما عن نصوص مماثلة لها أو مباينة.
إن القراءة إذ تعبر من نص إلى نص يمكن أن تكون هي أيضا فعل تبديد أو مراوحة بين معنى ينشده الشاعر ومعنى يؤديه القارئ فلا يكون لصورة الأول البنية نفسها التي لصورة الثاني. وكثيرا ما تترجح القراءة بسبب من ذلك وتظل مقبولية المعنى معلقة مقدرة بل إن الصورة تمحي في المعنى الذي تضيفه القراءة إليها أو تضفيه عليها. ذلك أن الشرح أو التفسير يقتصر في مواضع كثيرة على وضع المعنى في علاقة مباشرة مع صيغة تعبيره أو مع البنى القولية المخيلة التي تدل عليه وكأن الصورة قول مركب لا يسلم فيه بالمعلول إلا إذا لزم عنه لذاته علة. وقد يغفل أكثر القراء عن أن هذه البنى وقد تحينت لا يمكن أن تعني ما هي عليه في النص فالمعنى يتحول وينتقل من/ إلى وأن ما يعد معنى أصليا يدير عليه الشاعر صوره ليس إلا نواة المعنى وليس المعنى الشعري الذي يغنيه السياق ويبدله تبديلا. ولعله المعنى الباطن الماثل في موضوعه وليس المعنى الظاهر على الرغم من أن الاثنين قطبان لمعنى واحد يصعب أن ندركه إلا من حيث هو وجهة معنى أو توطئة لمعنى.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)