الجزائر

قوة فاعلة في الثورة حوّلها التشويه إلى ''لوبي'' مُستبد ''الباءات الثلاثة''.. ضحية أطروحة روّجها الكاتب الفرنسي إيف كوريير



صنعت الكتابات التاريخية الفرنسية، وبالأخص كتاب حرب الجزائر ، لايف كوريير، صورة سلبية على ما أصبح يطلق عليه الباءات الثلاثة خلال حرب التحرير. فظهر كل من بلقاسم كريم، بن طوبال لخضر، وبوالصوف عبد الحفيظ، في صورة بشعة ومخيفة. وكان الغرض من تشويه صورة هؤلاء القادة، إرساء قراءة ثورية عنيفة وستالينية لتاريخ الثورة، تقوم على تصوير الباءات الثلاثة في صورة لوبي أو جماعة مستبدة تحكمت في مقاليد السلطة بشكل مطلق. حتى أن كوريير يتحدث عن أسياد الحرب ، ويقدم المؤرخ جيلبير مينييه بوالصوف
في شكل رجل مخابرات مخيف، وكلاهما يظهر بن طوبال في صورة مجرد تابع لبوالصوف، ويبدو كريم بلقاسم في صورة قائد دموي متورط في قضية لابلويت ، لأنه ساند العقيد عميروش. هذا الملف يحاول تجاوز الرواية الفرنسية، ويطمح لفتح نقاش حول قراءة جديدة لمسار الفاعلين التاريخيين. ويصبو لتصحيح صورة هؤلاء القادة، والقضاء على التشويه المتعمد الذي انتقل للكتابات الجزائرية، بدون كتابة تاريخ الثورة من زاوية مغايرة  تنآى عن التمجيد الذي تتعمده الكتابات الرسمية وعن التشويه الذي تروّج له الكتابات الفرنسية من حين لآخر. وتعتبر مهمة تصحيح
صورة الباءات الثلاثة ، وكل قادة حرب التحرير، كخطوة أولى نحو تخليص تاريخ الثورة من الاستعمار بشكل نهائي.

المؤرخ محمد عباس لـ الخبر
ثورة مضادة حليفة للاستعمار الجديد تسعى لتشويه رموز الثورة
يعتقد محمد عباس أن الثلاثي بلقاسم كريم، بن طوبال وعبد الحفيظ بوالصوف، شكّلوا نواة ثورية قوية حافظت
على تماسك الثورة رغم الخلافات التي كانت موجودة بينهما. وقال عباس في حوار مع الخبر إن الصراع بين الباءات الثلاثة ، هو الذي أدى إلى ظهور قوة صاعدة تمثلت في العقيد هواري بومدين.

ماذا يمثل الباءات الثلاثة في تاريخ حرب التحرير؟
 كانت العلاقة التي ربطت بين الباءات الثلاثة ، وهم بلقاسم كريم وبن طوبال وعبد الحفيظ  بوالصوف، طوال السنوات الخمس الأخيرة من ثورة التحرير، علاقة بين مناضلين في حركة ثورية حوّلتها ظروف سياسية وعسكرية معينة إلى رباط تفاهم وتكامل أفقيا وعموديا.
أفقيا كان الثلاثة يمثلون رمزيا الجزائر المكافحة شرقا ووسطا وغربا، حسب التقسيم الإداري السائد قبل اندلاع الثورة.
عموديا كان كريم يمثل الرمزية الثورية والشرعية التاريخية باعتباره ثائرا منذ ربيع 1947وعضوا من لجنة الست القيادة التاريخية الأولى للثورة. وكان بن طوبال يجمع بين صراحة الثائر ومرونة السياسي المحنك. بينما كان بوالصوف منظم المجموعة الذي نجح إلى حد كبير في أداء مهام دقيقة وخطيرة، مثل تأمين قيادة الثورة وقراراتها والاستعلام والتسليح والاتصالات...الخ.
طبعا لم تكن هذه العلاقة الوطيدة بين الثلاثة علاقة خطية، بل كانت علاقة جدلية تعكس الحركية الداخلية للثورة من جهة، والتنافس بين أبرز قادتها من جهة ثانية. هذه العلاقة الوطيدة بين الثلاثة كانت تعكس أهم أسرار قوة الثورة الجزائرية: وحدة شعبية واسعة وقيادة واعية وكفؤة، حافظت على تماسكها في أحلك ظروف الحرب ولحظات الشك والإحباط.
ومتى ظهرت هذه القوة؟
 يمكن القول باختصار أنها ظهرت في صائفة 1957، في إطار اللجنة الدائمة للثورة ، وهي لجنة خماسية في البداية، كانت عبارة عن قياة فعلية للثورة، إلى جانب الواجهتين الشرعيتين وهما لجنة التنسيق والتنفيذ، والمجلس الوطني للثورة الجزائرية المنبثقين عن مؤتمر الصومام. كان الثلاثة يشكلون القوة الرئيسية في اللجنة الخماسية التي كانت تضم حليفين ظرفيين هما العقيدين عمر أوعمران، ومحمود الشريف .
لم يكن الثلاثة سلطة مطلقة ولا مستبدة، بل سلطة حوار، تحسن المناورة والتراجع التكتيكي عندما تصطدم بسلطة مقابلة ثابتة في مواقفها. على سبيل المثال أصرت لجنة الخمسة في أوت 1957 على إبعاد عبان رمضان من لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية أسوة بحليفيه بن خدة ودحلب، لكن عندما اشترط السياسيون (عباس، دباغين ومهري) قبول عضوية اللجنة بوجود عبان اضطروا إلى التراجع وضمه إلى المجموعة (أي عبان). وفي أوت 1958 برز عنصر جديد وهام في تحديد علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، فقد بدا لبلقاسم كريم، باعتباره القائد التاريخي الوحيد الذي ما يزال في الميدان ، أن يطالب برئاسة الحكومة المؤقتة التي كانت على وشك التأسيس. غير أن هذا التطلع المشروع اصطدم باعتراض بن طوبال وبوالصوف، بدعوى أن السير الحسن لشؤون الثورة يقتضي أن يظل الثلاثة على قدم المساواة حسب شهادة الرئيس فرحات عباس. هذه القاعدة التي وضعها بن طبال وبوالصوف - دون علم كريم- حالت دون انفراد كريم بقيادة الثورة ورئاسة الحكومة.
في اجتماع مجلس الثورة بطرابلس في أوت 1961 اصطدم كريم بنفس القاعدة في محاولته الثالثة والأخيرة لتحقيق طموحه. تحجج كريم في كواليس المجلس بأن تولي رئاسة الحكومة سيعطيه وزنا أثقل في المفاوضات القادمة مع الفرنسيين ، باعتباره رئيس الوفد، غير أن بن طوبال رفض هذه الحجة. وكانت الحجة المضادة لبوالصوف أن تعيين كريم على رأس الحكومة يعني المواجهة مع هيئة أركان الجيش العامة بقيادة العقيد هواري بومدين.
وكان الثلاثي قد فقد الكثير من هيبته ونفوذه في اجتماع مجلس الثورة بطرابلس في أواخر 1959 وبداية .1960 هذا الاجتماع كان بمثابة محاكمة لكريم وشريكيه حسب تقدير فرحات عباس دائما.
في هذه الدورة ارتكب الثلاثة خطأ قاتلا: ألغيت وزارة الدفاع وعوّضت شكليا باللجنة الوزارية للحرب، الأمر الذي مكّن هيئة الأركان من التحول تدريجيا إلى قوة صاعدة في ظل انشغال كل بمهامه الثقيلة والمعقدة.

 لم يكن الثلاثة سلطة مطلقة ولا مستبدة، بل سلطة حوار، تحسن المناورة والتراجع التكتيكي عندما تصطدم بسلطة مقابلة ثابتة في مواقفها.

  عموديا كان كريم يمثل الرمزية الثورية والشرعية التاريخية. وكان بن طوبال يجمع بين صراحة الثائر ومرونة السياسي المحنك. بينما كان بوالصوف منظم المجموعة الذي نجح إلى حد كبير في أداء مهام دقيقة وخطيرة.


ومتى تراجع دور هذا الثلاثي؟
 بدأت الحملة على الثلاثة في هذه الدورة بالذات. وقد شنها الثنائي قايد أحمد وعلي منجلي. وكان يديرها العقيد بومدين بشكل خفي. وقد وجد هؤلاء الثلاثة الذين سنجدهم في هيئة الأركان العامة بعد شهر، سندا ظرفيا في العقيد محمود الشريف الذي سقط من اللجنة الدائمة للثورة منذ صيف 1959 أسوة بأوعمران الذي فقد مكانته قبل سنة من ذلك.
واصلت هيئة الأركان (القوة الصاعدة) حملتها على الثلاثة خاصة بصورة منهجية بعد أن جنّدت لها مخابرات جيش الحدود إلى أن تمكنت من عزلهم تماما عن هذا الجيش وتبديد نفوذهم عليه. عشية الاستقلال كان كل من بن طوبال وبوالصوف ولعين تماما بهذه الحقيقة الجديدة. ففضلا العافية والانسحاب بشرف، بينما حاول كريم التصدي لهذه القوة الصاعدة بتبني استراتيجية الرهان على الداخل والتحالف مع محمد بوضياف والاعتماد على جزء من الولايتين الثانية والثالثة. غير أن القوة الصاعدة تمكنت من حسم تنازع السلطة لصالحها، اعتمادا على جيش الحدود والتحالف مع أحمد بن بلة وشريكيه الظرفيين محمد خيضر ورابح بيطاط. ومن الطبيعي أن تتواصل الحملة على الثلاثة في ظل الاستقلال لتبديد رصيدهم التاريخي، وسد باب التفكير في العودة إلى السلطة أمامهم. فالأسود تبقى مخيفة وإن كلّت مخالبها وأنيابها، بدليل اغتيال كريم في خريف ,1970 رغم أنه لم يعد يشكّل أي خطر على النظام القائم.
ومن تسبّب في تشويه صورة هؤلاء؟
 الملاحظ أن الثورة المضادة أخذت في السنوات الأخيرة تحذو حذو النظام، لاعتبارات تتجاوز المسألة السلطوية إلى محاولة تشويه الثورة، من خلال التركيز على نقائص بعض قادتها وأبرزهم الباءات الثلاثة . وهدف الثورة المضادة ، باعتبارها حليفا موضوعيا للاستعمار الجديد، إن لم تكن امتدادا طبيعيا له، من ذلك ضرب عصفورين بحجر، والتشويش على كتابة الرواية الجزائرية لتاريخ الثورة، ومحاولة تقزيمها بالتشكيك في قيمة رجالها والتشويش على إمكانية التبصر والاستفادة من عوامل القوة في هذه الثورة.                        


 الأستاذ عامر رخيلة
تشويه الباءات الثلاثة هو تشويه للثورة
 اعتبر الأستاذ رخيلة عامر، أستاذ التاريخ بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن الثلاثي بلقاسم كريم، بوصوف وبن طوبال هم من رجالات الحركة الوطنية، وطبيعي جدا أن يكون لهؤلاء شأن خلال سنوات الثورة. وبالفعل حمل هذا الجيل همّ الثورة وتصدى للمؤامرات التي كانت تحاك ضد الثورة. ورغم أنهم يتحملون مسؤولية إبعاد عبان رمضان بتلك الطريقة المؤسفة، إلا أن انتمائهم للثورة لا غبار عليه. وبعد أن فقدوا أدوارهم عقب الاستقلال وتعرضوا للتهميش خلال مؤتمر طرابلس حدثت القطيعة مع روح الثورة، مثلما حدثت القطيعة مع الحركة الوطنية بعد تهميش رموزها. وقال الأستاذ رخيلة: القطيعة يتحمل مسؤوليتها المجاهدين أنفسهم، إذ لم يدركوا معنى أن تتم القطيعة مع الحركة الوطنية. فقد حدث انفصال في مسار المجتمع. وأدى إلى بروز نتائج خطيرة منها عدم التواصل بين الحاضر والماضي. مرحلة التيه. محاربة الماضي تحت شعار التخوين ... تم تجسيد هذه الفكرة الشخصنة والزعامة. مضيفا: حاليا نعيد إنتاج ما أنتجته الكتابات التاريخية الفرنسية بخصوص مسار هؤلاء الباءات الثلاثة . معتبرا أن تشويه صورة هذا الثلاثي لم يكن بريئا، فالغرض منه هو تشويه الثورة.
عبد الحفيظ أمقران
طبيعي أن يشوّه الفرنسيون صورة من قهرهم
 يعتقد عبد الحفيظ أمقران، وزير الشؤون الدينية الأسبق أن القادة الثلاث بلقاسم كريم، عبد الحفيظ بو الصوف وبن طوبال لخضر يعتبرون من الرجال العظماء الذين حققوا الهدف المنشود وهو النصر. وأضاف أمقران في تصريح لـ الخبر : لقد تحقق الاستقلال بفضل صمود هؤلاء الرجال. تعرفت شخصيا على بلقاسم كريم وبن طوبال في الصومام وعرفت خصالهما وسماتهما. أما بوصوف فلم أتعرف عليه شخصيا إلا خلال مؤتمر طرابلس. مضيفا: هؤلاء الرجال هم من قهر العدو، وبالتالي من الطبيعي أن يكتب عنهم أشياء سلبية. ومثل هذه الكتابة مشبوهة ليست من التاريخ في شيء، فهي تزرع الشك في أوساط الشباب، وتعطي صورة سلبية عن تاريخ الثورة .
الرائد لخضر بورقعة
إيف كوريير أول من شوه صورة الباءات الثلاثة
 حمّل المجاهد لخضر بورقعة، الكاتب الصحفي الفرنسي ايف كوريير مسؤولية تشويه صورة الباءات الثلاثة ، وغيرهم من قادة الثورة. وقال بورقعة في تصريح لـ الخبر : لا يجب أن ننسى أن إيف كوريير كاتب صحفي كان يعمل بالتعاون مع المخابرات الفرنسية التي سهلت له عملية الاطلاع على الأرشيف، لكتابة تاريخ مزيف للثورة. وقد عمل مع عدد من قادة الجيش الفرنسي للنيل من صورة قادة الثورة، فهو من ألصق تهمة الذباح بالعقيد عميروش مثلا، في إشارة إلى تبعات قضية لابلويت ، وشوه صورة الثلاثي بلقاسم كريم، بوالصوف وبن طوبال، بالتركيز على الخلافات التي سادت بينهم . ويعتقد الرائد بورقعة أن الغرض من مثل هذه الكتابات هو زرع الشك في الثورة لدى الجيل الجديد، وتشويه رموزها، وإظهارها في صورة مغامرة ثم الإنقاص من قيمتها.
الأستاذ محمد سعيدي
هناك أطراف تتعامل مع الثورة كلحظة تاريخية مهزومة
 صرح الكاتب الصحفي محمد سعيدي أن التشويه الموجود الآن والذي مس شخصيات ثورية عديدة، منها الرئيس الراحل هواري بومدين، يدخل ضمن مسار الهجوم على قادة الثورة. ولم يستثن هذا المسار الثلاثي بوالصوف، بن طوبال وبلقاسم كريم، باعتبارهم القادة الحقيقيين للثورة إلى غاية مجيء العقيد هواري بومدين. لقد تمكن هؤلاء القادة الذين عرفوا لاحقا بـ الباءات الثلاثة ، حسب سعيدي من حماية الثورة من التدخل الأجنبي، وحموها من خطر التجزئة خلال مفاوضات ايفيان. وقال سعيدي في تصريح لـ الخبر : أدى مغادرتهم للسلطة عقب الاستقلال إلى إحداث شرخ كبير، سهّل مهمة أطراف أخرى، كان من مصلحتها إزاحة روح الثورة . ويعتقد سعيدي أن معركة الجزائر اليوم مع فرنسا تدور حول موضوع التاريخ. وقال: هناك أطراف تسعى لتشويه صورة قادة الثورة لتحقيق هيمنة فرنسا على الجزائر. وبالفعل أصبحنا نتعامل اليوم مع الثورة كأنها لحظة تاريخية مهزومة .


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)