مهداة لكل هؤلاء الأبطال الذين لم يحملوا سلاحا ، لكن حملوا القضية في قلوبهم ، فحملوا معها طعاما و دواء ولباسا لمن حارب في الميدان ، ليكون البطل الوحيد في النهاية الشعب وحده...قال الصحفي الشاب وهو يستهل تقديم ضيفه ، أن سي محمود وهكذا هو اسمه الثوري ، هو أحد رواد الكفاح المسلح بالمنطقة ، بل هو أحد أكبر قادة الثورة بعدد المعارك التي خاضها مع العدو وبشهادة الجراح التي لا يزال يحمل أثارها ليومنا هذا..بهدوء لا يكاد يفارق الرجل الذي ضعف جسده بثقل السنيين ، لكن بذاكرة لا تخطئ التواريخ والأحداث ، عاد السي محمود إلى الوراء قليلا ، محدثا الصحفي بنبرة لا تكاد تخلو من تأثر" يجب اليوم أن لا نتحدث عن أنفسنا فقط نحن الذين خضنا المعارك في ميدان الشرف ، بل لابد أن نلتفت إلى أولئك الذين دعموا أفراد جيشنا بالمؤنة واللباس فكانوا السند والحاضنة الشعبية التي لولاها لما كتب لهذه الثورة المظفرة أن تصل الى محطتها الأخيرة ، وهي الاستقلال..." عادت الذاكرة بالرجل إلى الوراء قليلا...نحن في العام ستة وخمسون ، على تلة تشرف على قرية المعمورة استجمع سي محمود ما تبقى لديه من قوى ليصل مدرجا بدمائه إلى حيث يوجد حقل أشجار اللوز المطل على مرعى شاسع تملؤه أبقار المعمر الفرنسي " مسيو دولاند " وما هي إلا لحظات ، تم سرعان ما سقط مغشيا عليه وكانت صورة راعي الأبقار أخر مشهد سجلته ذاكرته.هرع عيسى الراعي مسرعا نحو الرجل حيث سقط ، تحايل على نفسه لإيصاله إلى كوخه المتواضع غير بعيد عن أطراف المرعي ، جاعلا سي محمود يتكأ عليه وجراحه تنزف...في الكوخ ، كان عيسى الراعي وزوجته ينظفان جراح الرجل الغريب ، وهما يتبادلان النظرات الصامتة من حين لأخر، استسلم سي محمود لآلامه ، وغط في نوم عميق يكاد يشبه الغيبوبة..استمر الرجل على هذا الحال طوال اليوم ، و قامت الزوجة تباشر أشغال بيتها ، وعاد عيسى الراعي للمرعى يبعد الأبقار والأغنام عن أشجار اللوز ، لا هاجس له سوى قدوم المعمر " مسيو دولاند " ليتفقد أملاكه و مزرعته...عاد عيسى الراعي مسرع الخطو نهاية المساء ، والظلام قد بدأ يطرد أخر بقع النهار المنقضي ، فأخبرته زوجته بصوت هامس أن الرجل الغريب الجريح لم يتوقف عن الهذيان منذ الصباح ...لم يكن الخبر مفاجأ للراعي فهو بتجربته البدوية ، يعلم مدى جراح الرجل ، لكن رغم ذلك بدت حالته أحسن حالا من الصباح فقد كان يتعافى ببطء ...لم يشك عيسى الراعي ولا زوجته لوهلة واحدة ، أن الضيف الغريب لم يكن سوى أحد هؤلاء" الفلاڤة " على حد وصف " مسيو دولاند " ، لم يكن الأمر يحتاج الى كبير معرفة أو حنكة ليعلم الزوجان ، أن الشخص المثخن بالجراح الموجود في بيتهما ، لن يكون بأي حال من الأحوال سوى أحد العائدين من معركة قاسية جدا ، كانت حديثة الوقوع على ما يبدو...خلد الجميع الى النوم في ليلة باردة للغاية...في الصباح استفاق الرجل الجريح باكرا ، وجد عند قدميه عيسى الراعي ممسكا قدحا من اللبن يسأله عن حاله ... " الحمد لله ..الحمد لله ..الله يكثر خيركم..." بلهجة عامية ، و بصوت بدا على صاحبه الوهن ، شكر سي محمود صاحب البيت وزوجته ...على امتداد ساعات هذا اليوم ، وعلى لسان كل من صادفه عيسى الراعي و هو في الطريق لمصاحبة أبقار " مسيو دولاند " نحو مرعاها ، لا حديث كان سوى عن معركة طاحنة بين قوات المظليين الفرنسيين و مجاهدي جيش التحرير الوطني أو "الخاوة " كما يحب أن يناديهم أصحاب القرية و ما جاورها من المداشر...اندهش عيسى الراعي للروايات عن عدد القتلى من الفرنسيين ، كانت اللحظة فارقة بين الأمس ، فبالأمس لا أحد كان يجرؤا حتى على مجرد النظر الى الفرنسيين ، وبين اليوم أين لم يعد سرا على أحد أن الفرنسيين من أمثال" مسيو دولاند " لم يعد مرغوبا في وجودهم ، بل وكأن الجميع بدا متفقا على ضرورة طردهم لتعود الأرض لأصحابها الذين لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى من أمثال عيسى الراعي و زوجته وكل أهالي القرية من البسطاء و الكادحين والخماسة.. كانت أنباء المعركة على كل لسان ، ولم يمضي الكثير من الزمن حتى جن جنون فرق المظليين المنتشرة في ربوع المنطقة ، فما هي إلا ساعات قليلة وقد بدأ الطيران الحربي يحلق في سماء المنطقة بكثافة محولا سكونها الى ضجيج لا يكاد ينقطع إلا ليعود من جديد ...استعجل عيسى الراعي ضيفه مكرها بضرورة مصاحبته الى مكان أكثر أمنا ، فهو يعلم يقينا أن مقدم " ميسيو دولاند " لن يتأخر و لن يطول ، كما أن قوات المظليين وفرق " الڤومية " المنتشرة في كل مكان حول المنطقة ، لن يطول بها المسير حتى تصل الى الكوخ لتفتيشه كغيره من البيوت والأكواخ المنتشرة في أرجاء المنطقة ، بحثا عن ناجين محتملين من المعركة التي تكبد فيها جيش العدو أكثر من عشرين مظليا في كمين نصبته عناصر جيش التحرير...في اليوم التالي بدا سي محمود أحسن حالا مما كان عليه في اليومين الماضيين ، لكن مع ذلك ظل الرجل متكتما الى أقصى حد في حديثه الى عيسى الراعي ، مع أنه كان يثق كل الثقة الى درجة اليقين أن الذي داوى جراحه و نقله لكوخه مخاطرا بحياته في ظروف مثل تلك التي تشهدها المنطقة ، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يشي به لقوات المستعمر الفرنسي ، فكان سي محمود مرتاحا الى أبعد الحدود رغم تكتمه الشديد ، غير أنه فضل مع ذلك أن يخبر عيسى الراعي أن إسمه محمود ، كان ذلك كل ما يمكن أن يقوله الضيف الغريب فحسب... لم يحث مضيفه عن سبب جراحه ولا عن سبب مقدمه للمنطقة ، في الحقيقة كان هناك تواطأ صامت بين صاحب البيت و ضيفه فلا الأول سأل ولا الثاني تجرأ على البوح ، كان جوا غريبا بين الرجلين ...مرت أربعة أيام على هذا الحال ، و سي محمود لا يزال متواريا عن الأنظار في حوش قديم متهالك ، فلا يمكن لأحد أن يتصور أن هذا الحوش المتهالك يمكن له أن يأوي أحد هولاء الذين نصبوا الكمين للمظليين الفرنسيين ، فقلبوا بذلك هدوء المنطقة الى جحيم ، كان الحوش المتهالك الذي يتوارى فيه سي محمود لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن الكوخ الأول الذي حل به ضيفا ثقيلا على عيسى الراعي و زوجه...كان عيسى الراعي يتفقد من حين لأخر الضيف الغريب وهو يتعافى بشكل تدريجي حاملا إليه ما يكفى من مؤونة...في اليوم السابع ، قرر سي محمود الرحيل عند الصباح الباكر أو خلال ساعات الفجر الأولى ، هكذا إتفق مع مضيفه و هكذا كان الحال ، صاحبه عيسى الراعي ليدله على طريق نائية لا تستقطب الكثيرين لصعوبة ممراتها لاسيما في هذا الوقت من الشتاء ، كانت الخشية من مصادفة أحد ما ماثلة أمام الرجلين باستمرار...لم يتح الظلام الدامس مشاهدة الرجلان وهما يغادران سفوح قرية المعمورة باتجاه الشرق ...مرت حوالي الساعة منذ غادر الإتنان ، كان سي محمود يمشي بصعوبة ، متعثر الخطو ... بدأت أولى خيوط النهار تطل على المنطقة ، و كان منظر قرية المعمورة أسفل الجبل يرسم لوحة جميلة تزاوج معها ضباب هذا الصباح مع نسمات شهر نوفمبر الباردة ، لم يكن عيسى الراعي يعرف تفاصيل كثيرة عن الرجل الذي يرافقه بعدما استضافه لأيام سوى اسمه وحالته التي كان عليها من جراح ودماء ، كانت مجرد هذه الاستضافة كفيلة بأن تزج به في السجن العسكري لسنيين ، مع ذلك لم يكن عيسى الراعي مضطربا أو خائفا طالما أن الأمر مر في هدوء ، لم يطلع عليه سوى هو و زوجته...دنت ساعة الوداع ، لم يكن الوقت مناسبا لأحاديث كثيرة خاصة في ظل التكتم الشديد من سي محمود ، مع ذلك لم يتوانى عيسى الراعي في طرح سؤال على سي محمود ، كان السؤال كافيا أن يجعله يقف مشدوه الدهشة و الحيرة تعقد لسانه ، قال عيسى الراعي موجها نظراته نحو الرجل " هل نجا السي بوحميدي من المعركة ، أم أنه لاقى مصير ربه غير المكذوب الى جنات الخلد.. '! "التفت سي محمود نحو محدثه معانقا إياه ، فلم يكن متاحا للجميع معرفة القائد سي بوحميدي ، بل إن مجرد معرفة اسم حركي لمجاهد ، هو أحد قادة الثوار بالمنطقة في حد ذاته أمر عظيم ، فكيف براعي أبقار في قرية صغيرة أن يكون على إطلاع بالأمر ، سأله سي محمود بدهشة : " وهل عرفته ذات يوم.. '! " سكت عيسى الراعي لبرهة ، ثم شرح للرجل درجة معرفته بالسي بوحميدي .بحدسه العسكري أدرك سي محمود أن عيسى الراعي لم يكن مجرد راعي أبقار فقط ، كان أحد عيون المجاهدين بالمنطقة ، و هو من ساعد جيش التحرير قبل فترة ليست بالبعيدة في استكشاف المنطقة بحكم معرفته بالمسالك الغابية والطرق والشعاب ، و لعل مساعدته للمجاهدين رفقة آخرين ، هي من مكنتهم من تدبير هذا الكمين المحكم لفرقة المظليين التي أذاقت الأهالي بالمنطقة مختلف صنوف العذاب والهوان . لقد رصد عيسى الراعي فيما مضى تعداد العدو ، ومواقيت دورياته ، وتحركاته ، فكان ذلك مفيدا للغاية لتدبير المعركة ونجاحها..افترق الرجلان ، وكل منهما يودع الأخر، على أمل لقاء قريب ... قد يكون مصادفا ليوم جديد من صباحات الجزائر وهي تطرد فلول المستعمرين ، و تنعم بالغد الجميل ، لم تكن تلك أماني الرجلين فحسب ، بل إرادة شعب كامل عزم ، فقرر ، فانتصر...
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2014
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : سليمان لحسن سعيدة
المصدر : www.eldjoumhouria.dz