لم يستطع أورانو أن يخفي حيرته. شعر بخيط من الألم يصعد من ظهره، من الأسفل إلى فوق، في خط مستقيم. تراجع قليلا إلى الوراء، واستند على الكرسي الخشبي قليلا، محاولا أن يخفف من خوفه وغليانه الداخلي. ثم أغمض عينيه مبتعدا عن كل ما يمكن أن يرهقه، أو يغرقه في دوامة أفكار لا يريدها. فجأة شم عطرا قويا يعرفه جيدا. ثم سمع دندنة، نحن الغجر أبناء كلب نحب دوما من يؤذينا، ولا نتعلم. يسرق منا الربيع والشمس، ولا نتعلم. يحول قلوبنا إلى رماد، ولا نتعلم؟ أليس من الأفضل الانسحاب من حلبة الموت، أو ضربه بشفرة كالثور، حيث مقتله؟ لم يغب عنه صوتها. التفت نحوها. أنجلينا. كانت ترتدي لباسا أحمر مطرزا عند الصدر، وموردا في الجانب الأيسر. – واوووو. هذه أنت؟ أنجلينا؟ كيف دخلت إلى هذا المكان؟ مخصص للمتادورات وأهاليهم؟ وأنت لا تحبين أصلا هذه الرياضة؟
- أنت تعرف يا متادوري الحبيب، أنه بهذه الأناقة، لن يوقفني أحد. قلت لهم إني أخت المتادور خوسي أورانو، ابتسموا في وجهي، بعضهم ثبت عينيه فيّ كثور ، ويمكنني أن أتخيل ما كان يدور في رؤوسهم. الغجرية نعم مجنونة ، لكنها لا تسلم نفسها لأي كان. ابتسمت وفق ما يشتهي غباؤهم، ففتحوا لي الطريق بلا أسئلة، وها أنا ذي بالقرب من حبيبي خوسي أورانو.
– هكذا بسهولة؟
- أنت تعرف أحسن مني أن أغلب الرجال لا يسيرون إلا بهذه الطريقة. لو قلت لهم إني أريد أن أكون بجانب الرجل الذي راقصني، وجعلني أسحر به في سوق الكوريدا، كانوا ضحكوا مني، وما سمحوا لي بالجلوس قريبة منك. الشاب المضيف، كامليو، الذي يقف خلفك هو من سهل مهمتي لأنه يحبك كثيرا. من الأول حطيت عيني عليه، وعرفت أنه الأقرب إلى الإقناع من بعض المغلقين. التفت خوسي أورانو. انحنى الشاب حتى كاد رأسه أن يمس الأرض، احتراما.
– سيدي هل كل شيء على ما يرام؟ هز أورانو رأسه بالإيجاب
- كله على أحسن وضع
. - عذرا. هي أختك ولم أستطع تركها تنتظر حتى نتأكد منك؟
- هي أختي، نعم. من أبي. كبرنا مع بعض ثم رمتنا حياة وهران كل واحد في مكان
- شكرا سيدي. تمنينا أن نحضر لك منازلة مكسيكو القادمة. لكن ظروفنا المالية لا تسمح
- سأكون في كوريدا وهران في نهاية السنة القادمة، تعال. بعد مقابلة أنطونيو، سيقومون بترميم الكوريدا وتأهيلها بشكل أفضل. كان فتحها السريع والانتهاء من تحويلها إلى مكان لتخزين الحلفاء، مطلبا في المجينة. الجهلة فعلوا بها ما لم يفعله فيها حتى أعداء هذه الرياضة. لكن بمجرد فتحها ستعود الأمور إلى طبيعتها
- سأحضر يا سيدي. أنا فخور بهذه اللحظة
- شكرا أنك أتيتني بأختي ولم تتركها تنتظر.
- أخت المتادور الوهراني العظيم، تنتظر؟ أبدا. ثم انسحب وعلى محياه ابتسامة رائقة. نظر أورانو إلى وجه أنجلينا طويلا. نظرت إلى وجهه بكل صفاء عينيها اللتان زالت عنهما كل ملامح التوحش. صمتا لثانية ثم انفجرا ضحكا حتى أثارا انتباه من كان قريبا منهما. أخذت ذراعه ثم أشبكت أصابعها بأصابعه.
- مجنونة. لم نتعارف إلا قبل ساعات.
- لا تكن غبيا. يبدو أن مصارعة الثيران أخذت كل أناقتك الداخلية ولطفك. أيها المجنون، الحب الكبير لا يقاس بالزمن، ولا بالدقائق أو الثواني، والساعات، ولا حتى بالأيام والسنوات والشهور، ولكن بالكثافة. ثانية واحدة يمكنها أن تتحول إلى لحظة العمر الأبدية، وسنوات متراكمة تستحق أن توضع في المزابل العاطفية بلا تردد. أنا هنا من أجلك. أنت من خرب عقلي. سؤالي الذي أحمله لك، أين تعلمت الرقص بذلك الشكل الأنيق؟ لولا غارسيا ما كنت تنجو مني.
- أين تعلتمه؟ في وهران طبعا، في سهرات العائلة في الحي الإسباني. وفي إشبيليان ناس هذه المدينة مجانين على الرقص. لكنك أنت أيضا كنت مذهلة. فجأة أثارت انتباهه صرخة خوف جماعية. في اللحظة نفسها تفادى أنطونيو قرني نفارو الهائج.
. - وااااااوووو كاد يخترق جانبه
- الجنب هو أكثر الأماكن هشاشة عند المتادور. أنطونيو مدرب على هذا. لا يُخاف عليه. شعر في أعماقه أنه كان يكذب، وقرأ في عيني أنجلينا ما يدور في مخه. عاود أنطونيو نفس الحركة، لكنه كان في هذه المرة أكثر تحكما. اهتز الجمهور مرة أخرى بفرح كبير هووووووولي. الذي يرى الصورة بشكل جانبي يشعر بأن قرن نفارو الأيسر، قد مس خصر أنطونيو دي غاليسيا. لكن المشهد حيث كان يجلس خوسي أورانو كان غير ذلك. واضحة كانت حركة أنطونيو التي جعلت الثور يفقد توازنه لثانية. فقد تفادى بكل خفة، الضربة القوية التي صوبها له نفارو، وعلا فيها قرناه بقوة، لكنهما لم يمسسها إلا الفراغ والجانب الأيسر للخرقة الحمراء. كان الثور في قمة هياجه، الدم على كل جنبات ظهره. ارتفعت حدة المنازلة عاليا. كان نفارو قويا وسريع الدوران. على الرغم من الإنهاك، لم يسقط دار العديد من المرات متتبعا خرقة لاموليتا ، حتى كادت رقبته أن تكسر فجائية في دورة فجائية، وحده أنطونيو من يتقنها، بحيث تكسر رقبة الثور. لكن هذا صعب حدوثه مع نفارو الذي كانت رقبته خشنة، لا يمكنها أن تنكسر بسبب لفتة سريعة. وكأن نفارو يئس في كسر صدر أنطونيو أو تمزيق خاصرته، فتوقف قليلا حتى استعاد قوته. كان شخيره قويا، وأنفاسه التي كانت تضيق تظهر جليا من سرعة تنفسه. حاول أنطونيو دفعه إلى الركض، بتحريك خرقة مولاتو، لكنه في البداية رفض، وعندما افتعل المتادور هروبا سريعا باتجاه المخابئ الخشبية، ركض نفارو وراءه بكل ما تبقى له من قوة، قبل أن يلتفت نحوه، في حركة جعلت الثور يتزحلق بعيدا نحو الخرقة الحمراء. ابتعد أنطونيو قليلا واستعد للضربة القاتلة. إستوكادا
– لا. هذه استوكادا سريعة يا أنطونيو؟
- إنه لا يسمعك حبيبي. قالت أنجلينا وهي في نفس وضعها الأول، إنه لا يسمعك. ثم أنه يعرف ماذا يفعل. محترف في صنعته. خوفك غير مبرر.
- أنظري يا أنجلينا، ما يزال نفارو في كامل قواه. يجب إضعافه أولا. بدا لأورانو أن الثور ما يزال في كامل قواه الجسدية، على الرغم من أنه خسر دما كثيرا. صرخ خوسي أورانو في مكانه، رافعا يديه، ألا يسمع للجمهور، وأن يواصل استعراضه بإتعاب الثور أكثر. وقت الضربة القاتلة لم يحن بعد. حاول إقناع نفسه بصمت. لم يسمع أنطونيو شيئا. ظل مركزا على الضربة القاتلة، وسط صرخات الجمهور الذي ظل يدفع به نحو اللحظة الحاسمة. « أنطونيو مايسترو، تمتم أورانو، أنت تعرف جيدا متى تستدرج النهاية. أنت معلم كبير. الضربة القاتلة لا تأتي إلا في وقتها وإلا لا جدوى منها، بل ستصبح خطرا على المصارع. ماذا يساوي هو أمام أستاذه الذي علمه كل شيء. إذا رأى أن يقدم ليستوكادا قبل إنهاك الثور، هو يعرف حتما ما لا يعرفه الآخرون.» عندما وجه أنطونيو شفرة السيف باتجاه نفارو، ووقف في نفس خطه، صرخت أنجلينا بمنتهى صوتها وكأنها في حالة هيستيريا
– أقتله. اقتله بسرعة. لا ترحمه. إذا لم تقتله سيقتلك. ضحك أورانو وهو يشد على كفها ليهدئ من انفعالها الحاد
- أنت مع من يا أنجلينا؟ مع الثور أم مع أنطونيو؟
- مع الثور طبعا، لأنه المظلوم في هذه الوضعية غير العادلة. لماذا تأتون بثور، تقتلونه سرا، قبل قتله المعلن، ثم تثقبون ظهره طويلا قبل تقديمه لقمة سائغة للمتادور؟. ماذا كنتَ ستفعل لو كنتَ في مكان نفارو؟
- سأقاتل حتى النهاية. المتادور أصلا له مخ ثور، وإلا لن يستطيع استباق حركاته
- أي ثور مسكين، في اللحظة التي يدخل فيها إلى الحلبة، يعرف أنه سيموت ولا يملك حلا آخر إلا المقاومة بشجاعة اليائس
. - أكتشفك يا كارما. أعرف الكثيرين ممن يفكرون بهذه الطريقة
- أنا من بيت يرفض الظلم، من أم غرناطية وأب من أهالي وهران. والدي كان يحكي فظاعات عما يمارسون ضد الثيران، حتى تكون الحرب عادلة أطلقوا الثور كما هو أمام المتادور. انزعوا ألبيكادور ونرى من ينتصر؟
- نعم. والدك ليس مخطئا في حكمه. قالها خوسي أورانو، ثم التفت نحو بقية المنازلة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/03/2019
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : واسيني الأعرج
المصدر : www.eldjoumhouria.dz