الجزائر

في قراءة التقلبات..



في قراءة التقلبات..
كيف نقرأ التحولات التي تعرفها منطقتنا العربية؟ كيف نقرأها بتحرر من تأثيرات الشحن الانفعالي وإن كان ذلك عسيرا، تحرر من وطأة الراهن الذي يحجز عنا التبصر.منذ بداية الحراك انطلاقا من سيدي بوزيد، صدرت مقاربات وكتابات مختلفة باختلاف أصحابها.. ومنذ بداية الأحداث طغت نمذجات صادرت إمكانات بلورة صياغات تجتهد لبنينة الوعي، والبنينة تقتضي استيعاب السياق ودقة رصد الخلفيات والاحداثيات.
تظهر اللغة الموظفة في النظر، مفصحة عن التباين، والتباين يحيل لمداهمة فيضان الشارع ولتأثيرات المنظومات الشبكية المتشابكة في تدفقاتها... تباين يحمل بعض ما يحيل لمحنة النخب أو هشاشتها، وهو ما يستدعي وقفات أخرى. في معجم الكتابات تتردد مفردات: الربيع، الثورة، الفتنة، المؤامرة... ويتواجه طرحان، الطرح الذي ينتشي بالموجة ولا يلتفت للاحداثيات، والطرح الذي يكفر بحقيقة الحراك ويصر على أن كل ما يجري صناعة مخابر تتربص بالأمة... وفي اللغة تتكثف الاستعارات والصيغ، ومنها تلك المستعارة والمسقطة بتعسف وبانتزاع من سياقاتها.
و كما كتب إبراهيم محمود: "إذا كانت اللغة هي هوية الإنسان، علامته الفارقة فهي تلك الدالة عليه، والمؤرخة له في المقابل.. إن اللغة مجتمع قائم بذاته، من حيث قابليتها للتحول، والتجذر في الذاكرة، والاغتناء وتفكك المعنى وموت معنى وانبعاث آخر، وهي في تحولاتها تشكل تاريخا واضحا حول صانعها، عدا كونها تاريخا له وعنه".
من الباحثين الذين كتبوا في الموضوع هاشم صالح المعروف باشتغالاته الفكرية وبترجماته المتميزة لكتب محمد أركون، وهو من الكتاب المنخرطين في النقاش باستمرار والمواضبة على المتابعة من خلال مقالاته بالشرق الأوسط، متابعة استثمر فيها المنجز الفكري، استثمارا دفعه إلى محاولة قراءة الحدث على ضوء فلسفة التاريخ، قراءة تضمنها كتابه (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ)، الصادر في هذه السنة.
يبدأ الكتاب بعبارة نيتشه: "إن خدمة الحقيقة هي أصعب أنواع الخدمات"، عبارة تختزل بتكثيف الخدمة المنتظرة في متاهات التفاصيل التي تلتبس بالتحولات التي يعرفها المجال الذي يحتوينا ككيانات لا تحقق لها إلا بالثقافي والحضاري، أي بما يمنح للتسمية المعنى.
يفتتح هاشم صالح كتابه بمقدمة عامة، وعنون مقدمته بسؤال ينطوي على خلاصة ما يطرحه الملاحظ المتابع للحدث، والسؤال العنوان هو: هل الانتفاضات العربية حدث تاريخي أم زوبعة في فنجان؟
تحقق إثر التحول كما كتب هاشم: "سيطرة التيار السلفي الاخواني في بعض البلدان العربية"... لكن السيطرة التي أشار إليها الكاتب بدأت تهتز مع ما عرفته مصر من إزاحة لمرسي وباعتبار مصر مركز المرجعية الإخوانية فإن الأثر كبير ومخلط مجددا للأوراق.. وما حدث يحرك الحاجة إلى قراءة تنفذ للعمق، وهاشم في قراءته يضع النقاط على الحروف في مقدمته لما يشير إلى ما يتصل بالحدث التاريخي فيقول: "الحدث التاريخي ينتقل بالناس من وضع سابق إلى وضع لاحق، ومن وضع سيء إلى وضع أفضل. الحدث التاريخي يفصل ما كان عما سيكون. فهل الربيع العربي من هذا النوع؟ من المعلوم أن الأحداث الكبرى في تاريخ الأمة أو تاريخ البشرية نادرة جدا ولا تحصل كل يوم. هذا أقل ما يمكن أن يقال. وبالتالي، لا ينبغي أن تخدعنا نشرات الأخبار المليئة بشتى أنواع الوقائع والحوادث، بل وحتى الكوارث والحروب والمجازر. فمعظمها ليس إلا فقاعات تطفو على السطح. أما الحدث ذو الدلالة والمعنى، أي الحدث التاريخي بالمعنى الحصري للكلمة، فشيء نادر للحصول، وكذلك الأمر في ما يخص ظهور الشخصيات العظام. فأحيانا يمر قرن أو قرنان من دون أن يحصل حدث تاريخي أو تظهر شخصية كبرى في التاريخ".
وقراءة الحدث التي اعتمدها هاشم صالح تبنينت على اشتغالاته منذ سنوات، اشتغالاته على فكر أركون وفكر التنوير الأوربي، وكان باعثه ما عاينه كما قال: "من ثقل الماضي"، فكان الاتجاه لترجمة أركون: "المفككة لتراكمات التراث الاسلامي الموروثة من الداخل" وفكر التنوير الأوربي: "المفكك للتراث المسيحي التقليدي".
ما يحدث في السياق العربي متصل بالمتراكم، ولا يمكن بالتالي فض الاشتباك بيسر، بل ما يحدث من تجليات بدت متناقضة مع ما تبدى كإرهاصات واعدة، يمكن قراءته كمؤشرات دالة ومنتظرة، وهو ما يشير إليه هاشم صالح لما يستحضر حديث هيغل عن مكر التاريخ، ويعلق: (كلمة "مكر" مستخدمة هنا بالمعنى الإيجابي لا السلبي للكلمة، تماما كما في الآية الكريمة: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.. بمعنى أن العقل يحقق أهدافه في التاريخ أحيانا عن طريق استخدام أدوات لا تخطر على البال).
وإضافة لما ذكر يحيلنا الحديث عن الحراك الثوري في الإحالات التراثية إلى ما أشار إليه محمد عمارة في كتابه: "ثورة 25 يناير وكسر حاجز الخوف "فكما يذكر: (ومن المصطلحات التي شاعت بتراثنا، للتعبير عن الثورة ومضمونها مصطلحات:
«الفتنة": لأن فيها الابتلاء والامتحان والاختلاف والصراع حول الأفكار.
و«الملحمة": لأن فيها التلاحم في الصراع والقتال.. وأيضا الإصلاح العميق الذي يشمل الأمة فيقوي لحمتها.
و«الخروج" لأن فيه شق عصا الطاعة والوثوب.. وكذلك "النهوض" و«القيام".. ففيها الوثوب والانقضاض والصراع).
وفلسفة التاريخ تعلمنا كما يكتب هاشم صالح: "أن استخدام السلبي للتوصل إلى الإيجابي شيء ضروري جدا." و«أن التاريخ المكبوت والمحتقن تاريخيا ينبغي أن ينفجر بكل قيحه وصديده الطائفي حتى يشبع انفجارا. بعدئذ يمكن للتاريخ أن يتنفس الصعداء".
سعى هاشم صالح في كتابه إلى استحضار إحالات والتوقف عند محطات ومناقشة مفكرين وأطروحات وعرض إشكالات وتحديات. وفي نصوصه ظل يلح على محورية التنوير وعنون محورا من محاور الكتاب ب: "لا ثورة سياسية بدون ثورة تنويرية".
لقد انطلق من تحول اتجاه الأمور لصالح تيارات الإسلام السياسي، وهو تحول لا يستغرب باستيعاب الخصوصيات السوسيو تاريخية ولا يستغرب في ظل هشاشة التيارات الأخرى وهشاشة النخب التي ظلت أسيرة تقولباتها.. وإذا ما غاب التيار الديني حضر العسكري، وظل معارض الإسلامي متقويا بالجيش، ومنطق الدين الإيمان واليقين ومنطق العسكر الحسم، والنتيجة تبدد الثقافي والسياسي كفعاليتين محركتين بالسؤال وبالاحتمالي المتجدد. والنسق المهيمن هو نسق أصوليات وليست أصولية محددة، أصوليات دينية وعلمانية، أصوليات تتأسس على الإلغاء وعلى توهم تملك اليقين.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)