الجزائر

في ذكرى وفاة الأستاذ أحمد توفيق المدني كاتب القطرين ورائد النهضتين



في ذكرى وفاة الأستاذ أحمد توفيق المدني كاتب القطرين ورائد النهضتين
في 12 من محرم 1404ه الموافق 18 من أكتوبر1983م توفي الأستاذ النابغة كما كان يوصف أحمد توفيق المدني أحد أعلام رجال المغرب العربي في النضال الوطني، الثقافة، الفكر والصحافة، وصاحب كتاب تقويم المنصور، وكتاب هذه الجزائر... وقد وصفه الشيخ المؤرخ عبد الرحمن الجيلالي بقوله: ”له في كل مشروع إصلاحي أو سياسي أو أدبي في بلادنا رأي وتدبير أو عمل وتسيير”. بل قد ينطبق عليه وصف ”كان أمة وحده”.
ذلك الشاب الوطني الغيور على دينه ووطنه الممتلئ حيوية ونشاطا، المبعد من وطنه الثاني تونس، التي ولد بها نهاية القرن التاسع عشر، ونشأ بها وتعلم، والذي فتح عينيه على ظلم الكختل الفرنسي بتونس فقام وهو ابن خمس عشر سنة بمجابهته ودخل السجن وأقام به أكثر من أربع سنوات، ليخوض بعدها نضالا مستميتا تحت إشراف الشيخ عبد العزيز الثعالبي رائد الحركة الوطنية بتونس، ليبعد بعد ذلك إلى الجزائر عام 1925، فينقل تجربته النضالية إلى الجزائر، مواصلا جهاده وكفاحه، ضد المحتل الغاشم، ويوظف حنكته السياسية مستفيدا من التجارب التي أمضاها في تونس مناضلا عنيدا ومشاركا في الحركة الوطنية التونسية. وفي ذلك يقول: ”كنت أعمل في تونس بروح جزائرية، فإذا بي أعمل في الجزائر بروح تونسية.... واكتشفت أن العمل واحد وأن الكفاح واحد وأن جهادنا المشترك إنما هو وعاء متصل الأجزاء ما صببت في جزء من أجزائه شيئا إلا توزع بصفة عادلة على سائر الأجزاء”.
ورب ضارة نافعة ومصائب قوم عند قوم فوائد. فبقدر ما خسرت تونس مناضلا بارزا بقامة المدني، بقدر ما استفادت الجزائر من خبرته، خدماته، أعماله وجهوده. فقد بعث النهضة الفكرية والثقافية في جزائر ما بين الحربين العالميتين، وساهم في إثراء الحركة الوطنية والنشاط الصحفي والحياة العلمية مناضلا عنيدا، صحفيا متميزا، كاتبا جادا ومؤرخا عظيما. فقد كان لقدومه أثر هام وتطور واضح في مسار الحركة الإصلاحية بما أدخل عليها من أساليب لم تكن تعرفها، ووسائل أعطتها قوة وزخما لم تكن لتبلغها لولا تفكير المدني فيها وتنفيذه لها.
مرت الذكرى الثلاثون دون تخليد لذكراه أو إحياء لأفكاره وآرائه أو النظر من جديد في تراثه، وقد كان الحافظ لتاريخ الجزائر والباعث لأصالتها من الرمم، والداعي إلى إحياء أمجادها وتدوين اسمها في سجل الخالدين...
مرت الذكرى دون حتى ذكر للرجل ولا لجهوده وأعماله ولو بمقال بسيط في جريدة محلية وقد كان في زمانه محور العمل الثقافي وملء المشهد الإعلامي ومحرك النشاط الجواري بعبارات المعاصرين.
وهنا يقف الإنسان حائرا متدبرا، تنقله الأفكار مناحي شتى، وتذهب به التصورات إلى حدود قد لا تتخيل، ويكاد المرء يجزم معها أنه من الخطأ خدمة البشر والسعي في البذل من أجلهم؟
وإلا بماذا نفسر كل هذا التناسي والتجاهل لتاريخ الرجل وما قدمه من جليل خدمات وعظيم إنجازات؟ فكم من مناسبات مرت لا نجد فيها تنويها بأعمال الرجل، وكم من ذكرى عبرت ولا يشار فيها إلى مقالات الصحفي وكتاباته، وكم من موقف مضى لا يدرج فيه تكريم أو وقفة اعتراف وتقدير للأستاذ النابغة، بالرغم من المناسبات العديدة والاحتفالات الكثيرة التي تشهدها بلادنا في الفترات الأخيرة. إلا من مناسبات سياسية مأدلجة، أو توظيف غير محمود العواقب.
لما هذا الإغفال لذكر الرجل والتنكر للأسف لما أسبغه على البلاد من أفضال، وأسداه لها من أيادي بيضاء؟ فيغفل دوره في كل الميادين التي اشتغل فيها، الوطنية، الفكرية والصحفية... وكان له شرف السبق في تحقيق كثير من النجاحات على رأسها: تأسيس نادي الترقي أعظم النوادي الجزائرية على الإطلاق، وتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رفقة جماعة من أصدقائه المخلصين، ونحت شعارها الشهير ”الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”، ووضعه قانونها الأساسي وتحريره في ظرف ثلاثة أيام وكتابة تاريخ الجزائر القديم منه والحديث، وتطوير الكتابة الصحفية في بلادنا وجعلها في مستوى صحافة الدول المتقدمة.
لما هذا الجحود والتنصل من مزايا الرجل، وعدم الاعتراف بجهوده ومساعيه لإنجاح الحركة الوطنية الوليد، وبلوغ الأهداف السامية المسطرة، بل على العكس من ذلك محاولة نسبتها إلى غيره، لمنحه شهرة لا يستحقها، ومكانة هو أبعد الناس عنها، مستغلين في ذلك الظروف التي كانت تمر بها البلاد عهد الاحتلال، وظروف الإبعاد التي يعانيها وما ينتج عنها إذا ما تم التصريح لنسبة العمل إليه، لكن الآن لا حجة لهم ولا دليل، وقد انزاح ليل الاستعمار وبزع فجر الاستقلال، ولاحت أمارات البهاء والجمال، فلم تبق لهؤلاء القلة برهان ولا مقال.
والأدهى والأمر أنك ترى من الأشخاص من هم أقل منه شأنا، وأصغر منه حجما ووزنا ولم نعرف لهم تاريخا ولم نسمع لهم صوتا يوم كانت البلاد في أمس الحاجة إلى أدنى مساهمة تقيها تجبر المحتل وطغيانه، يتسنمون سلم المجد على حساب الآخرين، راضين بفعلتهم تلك غير مبالين بالتاريخ والحقيقة، وترقم أسماؤهم في سجل العظماء والقادة الكبار، ويشطب منه من قدم بدل التضحية ألفا وبدل المبرة مليونا.
تجد الأمم المتحضرة تقيم التماثيل والنصب، وتعقد الملتقيات الكبرى والندوات، للذين ساهموا في صناعة تاريخها وتنشر أعمالهم وتحفظ تراثهم اعترافا منها بالجميل، ووفاء منها لذكرى كل من أضاف لبنة في صرح مجدها الأثيل، وبغية الاستفادة من جهود هؤلاء الرجال، وترسيخ القيم التي ناضلوا من أجلها، واستغلال مخزونها الثقافي والحضاري في حياتها المعاصرة، وتمين الروابط بين الحاضر والماضي، حفظا للذاكرة الجماعية وبناء للشخصية الوطنية ودعما لاستقلالها الفكري والثقافي وعدم الذوبان في بحر العولمة البغيض.
وأقل ما يجب علينا القيام به تجاه الأستاذ النابغة اعترافا بالجميل، وتقديرا للجهود التي بذلها:
*إقامة ملتقى وطني أو مغاربي حول حياة وأعمال الأستاذ أحمد توفيق المدني.
*إطلاق اسمه على جامعة من جامعات القطر.
*إراج بعض النصوص من كتاباته في المناهج المدرسية.
*إنشاء مؤسسة تحمل اسمه تعنى بجمع تراثه ونشره والتعريف به.
*تأسيس جائزة تحمل اسمه في تاريخ الحركة الوطنية أو تاريخ الجزائر بشكل عام.
*إحياء ذكراه سنويا رسميا، ولما لا تحديد يوم وفاته 18 أكتوبر يوما للثقافة.
*إطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة بالجزائر العاصمة، أو في القبة التي يلهج سكانها يوميا بذكر اسم جده ابن عمر وحي ابن عمر في القبة نسبة إلى جد جده بن عمر .
وقد لخصت عبارته في مسرحيته حنبعل على لسان البطل فلسفته في الحياة وأفكاره في السياسة والحرية: ”نحن قوم نعيش أحرارا أو نموت شرفاء وأن طغيان روما سيمضي وسيمضي بعده كل طغيان آخر، ولا حياة إلا للأمم الشاعرة بوجودها المجاهدة في سبيل حريتها، المحافظة على كيانها ووحدتها”. والتي يجب علينا أن نكتبها بأحرف من ذهب، ونستخدمها نبراسا نستضيء به ودستورا نسير عليه، ومنهجا في الحياة لا نحيد عنه.
الدكتور ”عبد المنعم القاسمي الحسني”


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)